الاتفاق الإيراني – السعودي: هدف "ذهبي" في المرمى الأميركي
روسيا والصين وإيران والسعودية وتركيا دول تشكل في مجموعها تكتلات اقتصادية وتجارية منافسة للغرب، وتجد السعودية أن لها مصالح جوهرية ضمن هذا الفلك.
-
ما حققته الصين في هذا الاتفاق، جاء بعد محاولات قامت بها بكين لإصلاح العلاقة بين الطرفين
لم تكن مفاجأة توقيع الاتفاق السعودي – الإيراني، مدوية بحجم "صاعقة" الراعي الصيني لهذا الاتفاق، إذ شكلت هذه الوساطة والرعاية "صاعقة قوية" ما زالت أصداؤها تتردد في الأروقة الدبلوماسية الغربية عامة، والأميركية والإسرائيلية خاصة. والحديث في أبعاد الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية، لا يخلو من مغامرة في الوقت الحالي، ولا يخلو من تحليلات وتكهنات قد تصيب وقد تخطئ.
ولكن، بالمجمل العام، بإمكاننا القول إن ما جرى لا يخلو من أبعاد إيجابية على مستوى العالمين العربي والإسلامي؛ لما تمثله المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية من ارتباطات ونفوذ واسع جداً في المنطقة والعالم، هذا فيما لو استمر كلا الطرفين بالسعي الحثيث لحماية وإنجاح ما ورد في البيان الختامي، وما يحمل من بنود غير معلومة لغاية الآن، ولكن أقلها "تنفيس الاحتقان وتهدئة التوتر" في مناطق نفوذ الطرفين بانتظار ما سيظهر من تداعيات.
وبالرغم من مسارعة البيت الأبيض إلى التأكيد أن واشنطن كانت على اطلاع على المباحثات بين الأطراف، إذ قال المتحدث باسم الأمن القومي، جون كيربي، إن الولايات المتحدة "تتابع من كثب سلوك الصين في الشرق الأوسط وأماكن أخرى"، لكن اللافت للنظر أن التصريحات الخجولة التي صدرت عن المسؤولين الأميركيين من ناحية الترحيب بالاتفاق، لم تتوافق مع ما أشارت إليه أبرز الصحف الأميركية التي ظهرت وكأنها لا تعلم شيئاً عما جرى، ووصفت الاتفاق بأنه "فريد من نوعه"، لأن "الملف السعودي- الإيراني" يعدّ من أكثر الملفات تعقيداً في منطقة الشرق الأوسط، إذ علقت مصادر صحافية مطلعة أن "الدهشة والذهول" كانتا العلامتين البارزتين لوصف ما جاءت به تصريحات المسؤولين الأميركيين. "واشنطن بوست" رأت أن وساطة الصين بين إيران والسعودية وضعت الولايات المتحدة الأميركية في "موقف محرج"، فالصين تعدّ المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة، والسعودية بمنزلة الحليف الأول لها بعد "إسرائيل".
وصحيفة "نيويورك تايمز" قالت إن" الاتفاق يشير مبدئياً إلى إعادة رسم تحالفات جديدة في منطقة الشرق الأوسط وترك الولايات المتحدة الأميركية "على الهامش"، ووصفت هذا التطور بأنه من "أعنف التطورات وأكبرها"، إذ"ترك رؤوس المسؤولين الأميركيين تدور وتدور من دون أن تفهم ما الذي حدث بهذا الشكل المفاجئ".
وبصرف النظر عن مواقف الإدارة الأميركية والإعلام الأميركي ووصف ما جرى بأنه "مبهم أو غير مفهوم" أو "مفاجئ"، فقد شكل صفعة للحكومتين الأميركية والإسرائيلية، وبالإمكان القول إن الصين "أحرزت هدفاً ذهبياً في المرمى الأميركي"، وأن إيران استطاعت أن تصل إلى نقاط تفاهم مع المملكة السعودية، كانت لغاية الأمس في "الإعلام الإسرائيلي" غير واردة على الإطلاق، وكانت الحكومة الإسرائيلية وبرئاسة بنيامين نتنياهو قد صرّحت وأوحت مراراً بأن التطبيع مع المملكة السعودية "قاب قوسين أو أدنى"، وبأنها ستسير في مسار التطبيع التي بدأته مع الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وغيرهما من الدول المطبّعة مع الكيان العبري.
فقد توّجت الصين مباحثات امتدت إلى أكثر من 18 شهراً، بينها وبين إيران والسعودية تخللتها اجتماعات حصلت في العراق ومسقط ما بين عامي 2021 و2022، وكانت الزيارة الأخيرة للرئيس الصيني شي جين بينغ ما بين 7-9 أيلول / ديسمبر 2022 إلى الرياض إحدى أهم النقاط التي تمت مناقشتها مع قيادة المملكة، والتي حملت دعماً وضماناً قوياً لإنجاح الاتفاق، بسبب ما تمتلكه من سمعة وعلاقات تجارية واقتصادية ناجحة في مجمل مشاريعها التي عقدتها مع المنطقة أو العالم، خاصة أن تاريخ الصين في منطقتنا بالتحديد لم يحمل في طيّاته صراعات وخلافات ومشكلات سياسية أو اقتصادية، فالصين الضامن الأساس لنجاح هذا الاتفاق بين الطرفين، وهو الأول من نوعه على مستوى العلاقات الصينية- العربية، إذ لم يسبق للصين أن تدخلت بشكل مباشر في خلافات المنطقة، ولا شك في أن للصين مصالح تعدّ أولوية؛ فهي ترى أن منطقة الشرق الأوسط ممر أساسي لعلاقاتها الإستراتيجية والجيوسياسية لما تختزنه من موارد طاقة رئيسية ومراكز اقتصادية وتجارية بالغة الأهمية لها.
ويبدو أن الصين التقطت اللحظة المناسبة عالمياً، فأميركا والغرب عامة منشغلان بالحرب في أوكرانيا، أضف إلى التوتر القائم بين الغرب وإيران بسبب الملف النووي، زائد رغبة السعودية في التوجه نحو الصين بعدما وجدت نفسها بعد الحرب اليمنية "مكشوفة"، وليست كما كانت تتوقع من الولايات المتحدة والغرب.
وما حققته الصين في هذا الاتفاق، جاء بعد محاولات قامت بها بكين لإصلاح العلاقة بين الطرفين، ففي آذار/مارس عام 2017، أعلنت الصين استعدادها للتوسط بين الجانبين في مبادرة جاءت على لسان وزير الخارجية الصينية آنذاك وانغ يي، وقبل الزيارة التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الصين.
وهذا الإصرار الصيني يأتي لما لها من مصالح مع الجانبين، إذ تعتمد على السعودية بشكل كبير في إمدادها بالطاقة، كذلك لديها ارتباطات واتفاقات تجارية واقتصادية تتطور إيجابياً مع إيران، وبالرغم من الامتعاض المتبادل من كلا الطرفين (السعودية وإيران) من حين إلى آخر، فإن الصين كانت حريصة دائماً على تقريب وجهات النظر، ورأب التصدعات التي كانت تتركها الخلافات حول ملفات شائكة في المنطقة، لكن الصين أثبتت أنها لا تزال ثابتة على مواقفها في المنطقة وداعمة لأي مسعى تتقارب فيه الدولتان، وهذا ما حدث.
المنطقة تشهد حالة تحوّل، فبعد التطبيع الذي حصل مؤخراً في المنطقة بين "إسرائيل" وبعض الدول العربية، تأتي هذه الخطوة لتؤشر إلى أن هناك مساراً آخر بدأ يتكوّن في الإقليم والنظام العالمي بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، وما ستحمله من تبعات مجهولة لغاية الآن، فالسعودية، وبالرغم من التحالف الوثيق بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، لم ولن تتخلّ عن علاقتها هذه، بل وجدت أنه لا بد من سلوك مسار آخر بعد سياسة الانفتاح التي يقوم بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبذلك تكون تخففت قليلاً من الضغوط التي تمارسها أميركا باستمرار على السعودية والمنطقة برمتها، فالسعودية تضع في سلم أولوياتها الآن الوضع الاقتصادي للمملكة، والقيام باستثمارات تجارية واسعة لم يسبق لها مثيل، وبالتالي هي بحاجة إلى تنويع الاستثمارات مع العالم أجمع وليس فقط مع الغرب، ولمَ لا تكون مع روسيا والصين؟
روسيا والصين وإيران والسعودية وتركيا دول تشكل في مجموعها تكتلات اقتصادية وتجارية منافسة للغرب، وتجد السعودية أن لها مصالح جوهرية ضمن هذا الفلك ببُعده الشرقي والآسيوي والأوروبي، وبالتالي هي بحاجة إلى استقرار سياسي واقتصادي مع دول قوية منافسة، وتشكل في الوقت نفسه مصدر ثقة لها على المستوى الدولي، والسؤال المحوري هنا لماذا ستبقى السعودية على توترها مع جارتها إيران التي، فيما لو نجح الاتفاق بينهما، ستشكل شريكاً استراتيجياً أساسياً في علاقاتها الاقتصادية والتجارية وهي الأقرب لها من الغرب والشرق معاً.
ولماذا لا تحذو حذو الإمارات العربية المتحدة، التي بلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين إيران، بحسب منظمة الجمارك الإيرانية 13.5 مليار دولار، فيما رأت أوساط إيرانية أن حجم المبادلات التجارية بينهما يخضع لحسابات سياسية على المستويين العالمي والإقليمي. وبحسب رئيس المنظمة، مهدي مير أشرفي، فإن بلاده تمكنت خلال العام الإيراني المنصرم (21 آذار/مارس 2019 حتى 19 آذار/مارس 2020) من تصدير بضائعها إلى 128 دولة، رغم العقوبات الأمیركية الجائرة، فضلاً عن استيرادها سلعاً من 112 دولة. وبهذا تكون دولة الإمارات ثاني دولة بعد الصين بحجم التبادل التجاري.
وأعلنت الجمارك الصينية، حسب ما أفادت وكالة "إرنا" الإيرانية الرسمية أن تجارة البلاد مع إيران خلال الأشهر الـ 11 الماضية نمت بنسبة 11 % مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي وبلغت 14 مليار و600 مليون دولار. وبلغت التبادلات بين إيران والصين ما قيمته 13 ملياراً و100 مليون دولار. كما زادت صادرات الصين إلى إيران في الأشهر من كانون الثاني /يناير إلى تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 بنسبة 17 % لتصل إلى 8 مليارات و550 مليون دولار، في الفترة نفسها من العام السابق، صدرت الصين 7 مليارات و330 مليون دولار من البضائع إلى إيران.
والجدير ذكره هنا أن حجم التبادل التجاري بين بيجين و"تل أبيب" يبلغ نحو 22.8 مليار دولار، وبذلك أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لـ "إسرائيل" في آسيا، وثاني أكبر شريك تجاري في العالم، لكنها غضبت إثر خروجها من مناقصة دولية، كانت ستشارك في تمويل مشروع ينقل نحو 200 مليون راكب، عبر إدارته لمدة 25 عاماً، لا سيما أنها قدّمت سعراً أقل من الشركات المنافسة. كشفت معلومات نشرتها وكالة الأنباء الفرنسية، أن الولايات المتحدة فرضت حظراً على شركة السكك الحديدية "سي آر سي سي" بسبب علاقتها بالجيش الصيني، ومشاركتها الصناعات التي تعزز قدرات الصين الاستخبارية، ولا سيما أن الخط المقترح يمر أسفل مبانٍ عسكرية في "تل أبيب"، تستخدمها الولايات المتحدة في عمليات عسكرية مشتركة، وهناك مخاوف من أن تدس الصين معدات للتجسس على طول خط القطار، أسفل المباني والمناطق الحيوية.
على المستوى الاقتصادي، يمكن للمملكة العربية السعودية أن تحقق أرقاماً أعلى فيما لو نجح الاتفاق وتبدلت سياستها نحو إيران، فكلا البلدين يمتلكان القدرات الاقتصادية والتجارية والمواد النفطية والغازية، والتي يمكن أن تشكل، فيما لو تضافرت الجهود بينهما، ما يشبه سوقاً استثمارية لا تضاهيها سوق استثمارية أخرى في المنطقة الاقتصادية العربية والخليجية تحديداً.
لا شك في أن المتضررين من هذا الاتفاق سيحاولون إفشاله بشتى الوسائل، وخاصة "إسرائيل" وأميركا، فهل ستستطيع الصين الوقوف في وجههما لحمايته، ولإنجاح ضمانتها والوصول إلى مبتغاها؟ وهل ستبقى المنطقة بعد الحروب الطاحنة التي جرت في سوريا واليمن على ما هي عليه أم أن هناك حلولاً أخرى ستتبعها؟ وهل الاجتماع المرتقب في موسكو بين روسيا وتركيا وإيران وسوريا سيشكل منعطفاً، لا يقل أهمية عما جرى في الصين؟ الأيام القادمة كفيلة بإظهار النتائج.