بين فرنجية وخصومه: ازدهار الحرير أم العصر الحجري
إن دعم سليمان فرنجية للرئاسة كمشروع لمحور المقاومة، هو نقطة مفصلية واقعة على فالق مرحلة بين مرحلتين، إما العودة للبنان الذي سقط ألف مرة، وإما لبنان جديد
-
بين فرنجية وخصومه: ازدهار الحرير أم العصر الحجري
يوم ملكت قوى الرابع عشر من آذار قوة كاسحة على أنقاض اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم تترك مشروعاّ، أو خطوة، أو موقفاً إلّا وفرضته وفقاً لما رأته من صالحها، ضاربة بعرض الحائط معنى التوافق والتحاور والتفاهم في البلد. ولو كانت قوّة حزب الله بيد هذه الفئة، لسيطرت بقوة سلاحها على كل ما أرادته.
حزب الله الذي بوسعه فرض ما يريد لو شاء اللجوء إلى قوته الإقليمية، لا يحاول فرض رئيس جمهورية، ولا أي حلّ إلّا بالحوار والتفاهم، ولولا ذلك لما بقيت سدّة الرئاسة خالية، وما دعمه لترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية إلّا حق دستوري وقانوني.
لا يكمن المشكل في هذا المُعطى، إنّما في تصرّف القوى الخاسرة للمعارك المحليّة والإقليمية تَصَرُّف المنتصر، والعكس صحيح، تصرَّفَ المُنتصر-محور المقاومة- تَصَرُّف الخاسر، والمترجي لبقية فئات الوطن الحوار والتفاهم على الملفات الكبيرة، حريصاً على عدم المسّ بالتركيبة الحالية للكيان اللبناني، ومنه اتفاق الطائف.
ولو نظرنا إلى التاريخ السياسي للأمم، وفي ظلّ طغيان منطق "الغاية تبرّر الوسيلة"، لكان على محور المقاومة أن يفرض حلوله بعد انتصاره في إفشال الربيعات العربية، وخصوصاً الحرب على سوريا.
نتيجة تلك المعارك، كان من المفترض البدء بكسر مفاعيل الهيمنة الغربية التي جرى التخطيط لها في مؤتمر بنرمان 1905-1907، وطُبّقت من توصياته تقسيمات سايكس-بيكو، وزرع الكيان الصهيوني فاصلاً بين المشرق العربي، ومغربه الشمال أفريقي، وحارساً بقوته العسكرية، وبدعم الغرب له، للتقسيم، وما بعده من توترات أبقت عالمنا العربي مستنزفاً بالصراعات، وخاضعاً في اضطراب المواجهة لأحداثه الداخلية، والحروب الخارجية.
لكنّ ما نحلم به كأفراد، لا يجاري وقائع وموازين كبرى قد لا يتمكّن أفراد من تلمّسها، ومعرفتها، فإذا المنتصر والمنكسر يعيد البحث في حلّ الأزمة اللبنانية وفق ما راج على خلفية التركيبة الكيانية والسياسية والدستورية اللبنانية. ما جرى، ويجري، بحثٌ في حلولٍ سقطت ألف مرة، وأثبتت عقم تفكير سياسي وتاريخي، ألف مرة، وتريد من جديد التفكير بالمنطق السابق، الساقط، المتهاوي عينه.
والحقيقة تُقال، إنه عندما قال الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون، في مقابلته الشهيرة مع الصحافيّين سامي كليب ونقولا ناصيف، ما معناه أن لبنان وطن بوجه غربي، وعلينا الحفاظ عليه كذلك، فكان ذلك موحياً أننا عدنا إلى انسداد تجربة لبنان 1943 المُرّة بما حملته من مآسٍ منذ انطلاقته، وفي مراحله المختلفة.
تساؤل تبادر إلى الذهن كيف لا يرى أي شخص، خصوصاً من يتولى زمام السلطة، سقوط التجربة اللبنانية من أولها، (بالتجديد الأول لأول رئيس جمهورية هو بشارة الخوري)، رغم أنه لم يكن هناك ما يرغب السياديون وصفه بـ "الوصاية السورية"؟ وكيف لا يرون أن كلّ مراحل البلد شابها التوتر، والصراعات الدامية، بما لا يحتمله أي مجتمع؟ فإذا نحن أمام أكبر هجرة عرفها التاريخ، منها الطوعي ومنها التهجير بالقوة، فلم تبقَ زاوية في العالم من دون لبناني لاجئ إليها.
الواقعية تفرض قبول ما لا قدرة للإنسان على التأثير بتطوراته، فانتظرنا حلولاً لبنانية بدءاً من الانتخابات النيابية، ثم انتخاب رئيس الجمهورية، وجرت الأمور بطريقة مُبكية لما فيها من اجترار للمأساة، فقبلنا بـ "الهمّ" المفروض علينا بما هو أقوى من طاقاتنا، بينما كنا نحلم بوطن مشرقي، عربي مديد، كبير، بلا حدود كي نتخلص من مآسينا، ومن السيطرة الخارجية، ومن التأثير بنا عند أصغر الأزمات الإقليمية.
ويوم عاد الرئيس عون، وبعث برسالة للرئيس السوري بشار الأسد داعياً لما يشبه ما حلمنا به من وحدة أو فيدرالية مشرقية، استبشرنا خيراً، ورمينا خلف ظهورنا ما قاله الرئيس عون في مقابلته الصحافية عن وجه لبنان الغربي.
المشكلة الكبيرة اليوم أن القوى التي تصف نفسها بـ "السيادية"، وترطن بـ"الميثاقية"، عادت لتمارس الضغط بمواقفها بما يتعارض مع مفهوم موازين القوى في ضوء فشلها في معركة سوريا، أما القوى الأخرى، فراحت تؤدي الدور عينه بمفارقة غريبة، غير مفهومة. فالقوى "السياديّة" تريد فرض رئيس على ذوقها حتى لو كان سيعيد تركيب لبنان على القاعدة الغربية، التي دمّرها الغرب عينه بمعادلة "إما سلاح المقاومة أو العودة للعصر الحجري".
وعندما طُرح اسم سليمان فرنجية كمشروع رئاسة جمهورية، أوّل من رفضته هي القوى "السيادية"، و"الميثاقية"، وانخرطت في المعركة ضده بما يشبه منطق الحرب الأهلية، أو منطق "يا قاتل يا مقتول"، الذي يذكّر بحرب الإلغاء 1989، التي وقعت على الخلفية عينها: الرئاسة.
والحق يُقال إن دعم سليمان فرنجية للرئاسة كمشروع لمحور المقاومة، هو نقطة مفصلية واقعة على فالق مرحلة بين مرحلتين، إما العودة للبنان الذي سقط ألف مرة، وإما لبنان جديد، أفضله المتكامل مع محيطه المشرقي والعربي. لماذا رفض هذا المشروع برفض فرنجية طالما طالب به الرئيس عون في رسالته للرئيس الأسد؟ يكمن الجواب فقط في أنّ اللعبة اللبنانية تديرها عقول ألعاب الأطفال المتخاصمين على لون لعبتهم.
نحن اليوم أمام نقطة مفصلية، إما العودة للبنان الذي فشل تكراراً، ومن الجريمة العودة للتفكير بإحياء صيغته على قاعدة الاستدانة من البنك الدولي، وكسب رضاه، ورضى الغرب المفلس الذي لم يعد لديه ما يعطيه، ومستتبعات تلك التجربة، أو السعي لتوسيع الانفتاح السابق نحو وجهة جديدة هي الشرق.
في هذا الإطار، يحلّ خبر التوافق السعودي-الإيراني بمساع عربية وصينية، ليضع، أوّلاً، حداً لأوهام الصراع السني-الشيعي، وثانياً، ليبدأ، افتراضاً، عصر سلام جديد، وثالثاً، لفتح الباب أمام حلول أمنية وسياسية إقليمية تطال المنطقة برمتها.
من شأن ذلك التصوّر الموضوعي أن يتيح تشكّل ساحات منفتحة، ومتفاعلة ليس الاتحاد الأوروبي أفضل شروط منها، حتى إذا انطلق قطار خط الحرير والحزام من الصين، مُتَنَكِّباً التلاقي الإيراني-السعودي، عابراً لأفغانستان، فإيران، فالعراق، فسوريا، وستنضم إليه دول الخليج، وتركيا، وسيمتد نحو أفريقيا، لن يكون لبنان بمنأىً عنه.
طالما التمسّك بالطائف مستمرّ، وكذلك مارونية رئيس الجمهورية، فإن القيادي الماروني الوحيد، من الصفّ الأول، المتفلّت من عقدة المارونية المرتبطة حصراً بالغرب، والمؤهّل لإدراج لبنان في هذا المشروع الإقليمي المقبل، ولأسباب تاريخية، وعائلية، وشخصية، هو سليمان فرنجية، وأي حلٍّ آخر، سيبقينا في العصر الحجري المتهاوي الذي أوصلنا الأميركيون، وأتباعهم إليه.