سوريا.. طلاسم سياسية ورثت نهج الصمود
ما نراه اليوم من قوة للقيادة السورية لم يأتِ بالصدفة وإنما هو مشروع قيادي قديم أسسه الراحل حافظ الأسد
-
سوريا.. طلاسم سياسية ورثت نهج الصمود
تحت شعار "سوريا نقطة توازن الشرق الأوسط" وضع الراحل حافظ الأسد حجر الأساس لمشروع بناء تحالفات سياسية وعسكرية دامت عهداً بعد عهد، شيّد صرح مشروع الدفاع المشترك وأثبت فاعليته وأثره الكبير في مساعدة الجيش السوري الذي وضع بصمته في تاريخ العالم المتصارع على المشهد السوري في أن يدحر آلة الدمار من "داعش" وأخواتها إلى غير رجعة، تلك الميليشيات الظلامية التي صنعت بفعل فاعل بعد أن عجز المستفيدون من خراب سوريا عن تغيير معالم شكل الدولة، وهو الأمر الذي جعل صنّاع المؤامرات وشراء الذمم في موقف لا يحسدون عليه، لـيصرخ السؤال: ما هو الغطاء الذي أعطى شرعية تدخّل الحلفين الإيراني والروسي في الأحداث التي ضربت سوريا؟.
سوريا.. طلاسم سياسية ورثت نهج الصمود
"والقادم قد يبدو أكثر خطراً وأشد فتكاً، ومن لا يُعتدّ لوحوش كاسرة قادمة فسوف تهلكه الوحوش، ولن نكون من الهالكين". انطلاقاً من هذه الكلمات التي قالها الراحل حافظ الأسد في إحدى المناسبات، رُسمت السياسة السورية، وتكوّنت البنية القيادية للدولة حتى أصبحت قوة جبارة رغم المراحل الصعبة التي مرت بها.
وإن اختلف القارئ أو اتفق مع سياسة القيادة السورية خلال السنوات المنصرمة، إلا أن الجميع يؤكد أن رؤية الرئيس الراحل "حافظ الأسد" كانت ثاقبة وزاخرة بمعاني وأصول السياسة الحقيقية، وأنه حمل صفة القائد البارع في التعاطي مع الأزمات.
ميلاد جديد بهمة التصحيح
خلال السنوات التي عرفت بسنوات الغليان والصدمة من جرّاء التخبّط السياسي الذي كان حاصلاً في سوريا بسبب الآثار السلبية التي تركها المستعمر الفرنسي خلفه، خرج الضابط العسكري حافظ الأسد من رحم القوات المسلحة ليصحّح ما كان مبعثراً، فكان أول ما عمل عليه بعد أن تولى السلطة عام 1971 هو تقدير قوة الدولة وتحديد نقاط ضعفها.
الرؤية التي أرادها الأسد للدولة بدأت بتثبيت الحكم منعاً لإضرابات سياسية وعسكرية جديدة عانت منها البلاد لعشرات السنين، وعندما بدأ بوضع صورة لـمعالم وشكل سوريا الجديدة اختار شعار الحركة التصحيحية ليبدأ العمل.
البداية كانت داخلياً وتمثّلت في جعل البلاد بكل مفاصلها الإدارية (أمنياً وعسكرياً وسياسياً وحتى اقتصادياً) بنية لا يمكن خرقها، أما في الشق الخارجي فقد عمل الرئيس الراحل على أن تكون قوة الدولة خارجياً غير مسيسة وبعيدة عن مبدأ التبعيّة، ورأى أن الانفراد بتحديد القرار يقيها من تكرار سيناريو الاستعمار.
فقام الأسد الأب بعقد تحالفات قوية ومتينة مع دول بعينها تحت مسمّى "تحالفات استراتيجية وقوة ردع واحدة"، وجاء هذا تلخيصاً لما عبّر عنه في مقولته الشهيرة: من مدّ لنا يداً خيّرة مددنا له يداً خيّرة، ومن مدّ لنا يداً شريرة مددنا له مديةً تقطع الشر.
بمبدأ التغريد خارج السرب عزم الرئيس الراحل حافظ الأسد على انتقاء الحلفاء، وقرّر رسم السياسة الخارجية بعيداً عن التحالفات التي كانت سائدة خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، والتي كانت تتجه جميعها إلى الوثوق بـالولايات المتحدة الأميركية وتتخذها حليفاً دائماً يُعتمد عليه.
ورأى الرئيس حينها أن القوة المضادة دائماً ما تكون أقوى لكونها غير مقيّدة، فاتخذ من المناوئين للقوى العظمى آنذاك حلفاء لسوريا، آخذاً بعين الاعتبار القوة وحرية القرار.
وهو فعلاً ما حصل، فقد بنى الأسد تحالفات متينة بقيت إلى يومنا هذا، فكانت الدولتان اللتان أكملتا أضلاع مثلث القوة الشرق أوسطية هما الاتحاد السوفياتي (روسيا لاحقاً) والجمهورية الإسلامية الإيرانية، واللتان كانتا من أشد وأشرس الداعمين لسوريا حتى بعد وفاته وتولّي الرئيس الابن بشار الأسد للسلطة.
التحالفات التي بناها الرئيس الراحل حافظ الأسد لم تتسم بـعلاقة مبنية على المصالح المادية الملخصة بالاستثمارات والتبادل التجاري، وإنما كانت علاقة توجّه واحد، ضد عدو واحد، فكانت هذه الدول هي القوة الاستراتيجية التي اعتمدت عليها سوريا في كثير من الأوقات إبان وفاة القائد الأسد دبلوماسياً وعسكرياً، وأيضاً دام هذا التحالف بعد استلام ابنه بشار الأسد مقاليد الحكم في سوريا ومساندته في حربه على الإرهاب.
ومثلما يقال: لا تحكم على صديق إلى أن تجرّبه، فقد أتت ساعة الامتحان للأصدقاء وبرهنوا عن صدق النوايا بوقفة دعم للجيش السوري خلال الأحداث التي مرت وتمر بها البلاد.
تشابك القوى
امتازت العلاقات السورية الإيرانية بمبدأ الصداقة وعبّرت عن أقوى تحالف لدولتين في الشرق الأوسط على الصعيد الدولي، العلاقة الناجحة بدأت مع انتهاء التحالف السوري المصري وتحديداً بعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979، حيث رأى الأسد وقتها أن بقاء سوريا من دون حليف قوي سيجعل سوريا مكشوفة الظهر، آخذاً بعين الاعتبار الجغرافيا المتصلة بأراضي تمركز العدو الأول لها ألا وهي "إسرائيل".
وقد اتخذ الرئيس الراحل خطوات تقارب جدية لتوطيد العلاقة بين البلدين بـاتفاق عُرف وقتها بـمحور المقاومة الواحد ضد الكيان الصهيوني، ومن بعد هذا التحالف تم تفعيل الاتفاقات الضمنية والعلنية إبان الحرب العراقية الإيرانية، حيث أن اختلاف الفكر والتوجّه بالتعامل مع الغرب بين الرئيس العراقي السابق صدام حسين والرئيس الراحل حافظ الأسد كان هو عائق تنسيق الجبهة الواحدة كـحلف عربي، وهو ما جعل الأسد الأب يكون طرفاً في الحرب الإيرانية العراقية بشكل غير مباشر.
وبدأ تدخّل سوريا في الحرب التي دامت ثماني سنوات تقريباً بدعم معنوي للجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال إغلاق خط أنابيب النفط العراقي ( خط أنابيب كركوك–بانياس) في خطوة منه لحرمان النظام العراقي من الإيرادات المالية ولإعادة نظر العراقيين بالحرب مع إيران والتفكير في تداعياتها على العرب.
الإصرار العراقي على المضي في الحرب جعل الأسد أكبر مساعد للجمهورية الإسلامية الإيرانية ليتدخّل كداعم للجبهة المفتوحة آنذاك وتحديداً أعوام 1986 حتى1988 وذلك بتدريب الجنود الإيرانيين على تكنولوجيا الصواريخ من بعد أن زوّد الجيش الإيراني بصواريخ سكود، وهي الأعوام التي كانت فيها إيران مقيّدة بسبب الضغوط الخارجية عليها ومنعها من امتلاك الأسلحة الثقيلة.
الهيمنة الغربية على الشرق الأوسط لم تردع الرئيس السوري من الوقوف مع إيران في حربها، مع أن دعمه لها جعل سوريا موضع عزلة عربية من بعض من الدول الكبرى لكونها وقفت مع الجمهورية الإسلامية مقابل بلد عربي.
أما ما بدأه الوالد الرئيس حافظ الأسد فقد أكمله الابن الرئيس بشار الأسد، السياسة التي رسمها النظام السوري بريشة الرئيس الراحل كانت سياسة معمرة لسنوات طويلة، حتى اعتبر أن ما أسسه الراحل كان مصدر قوة الدولة، فقد قام الرئيس الشاب بشار الأسد ومن بعد رحيل والده عام 2000 واستلامه السلطة بدعم العلاقات السورية الإيرانية.
وكانت البداية بتوقيع اتفاقية تعاون عسكري بين البلدين في حزيران/يونيو 2006، واعتُبر الاتفاق الذي لم تعلن عن بنوده الكاملة بأنه اتفاق تعاون عسكري سمّي بـالتعاون ضد التهديدات المشتركة، ووقتها صرّحت عنه إيران على لسان وزير دفاعها آنذاك مصطفى محمد نجار بالقول: إن إيران تعتبر أمن سوريا من أمنها، وأن قدرات إيران الدفاعية تابعة لسوريا.
أما عن العلاقة السورية الروسية (الاتحاد السوفياتي سابقاً) فقد بدأت عندما اعترف الاتحاد السوفياتي باستقلال سوريا إبان الاحتلال الفرنسي، وأقامت سوريا بدورها علاقات دبلوماسية مع الاتحاد في عام 1944 تمثّلت بزيارات ومباحثات لإضعاف الفرنسيين وإجبارهم على تسليم السلطة إلى السوريين وخروجهم من البلاد.
وتعزّزت العلاقات بينهما بشكل كبير لترتقي إلى مستوى التحالف الاستراتيجي في العام 1963 وهو التاريخ الذي تم فيه إنشاء مركز الدعم المادي التقني التابع للأسطول البحري السوفياتي في ميناء طرطوس السوري. وكان الاتحاد السوفياتي يورد الأسلحة والسلع إلى سوريا بكميات كبيرة من دون طلب دفع المقابل، وهو ما جعل سوريا تعاني من مديونية مالية لـداعمها السياسي والعسكري.
بعد وصول الرئيس حافظ الأسد إلى سدّة الحكم عام 1971 حرص على بناء علاقة وثيقة مع السوفيات الذين يتمتعون بقوة عظمى عبر التاريخ والذين يُعتبرون ثاني أكبر قوة عالمية لتوريد وتصنيع السلاح. استغل الأسد الظرف الذي مر به السوفيات وهو انقطاع علاقاتهم مع العرب وتحديداً من بعد طردهم من مصر بسبب توترات مع الرئيس السادات، فرحّب بهم الأسد ليكونوا جزءاً من الجبهة المضادة للقوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
التقارب بين الطرفين (سوريا والاتحاد السوفياتي) كان موضع ترحيب من قبل السوفيات، وقابله تدفّق السلاح إلى سوريا دام إلى حين تفكّك الاتحاد السوفياتي في العام 1991. أما عن العلاقة بين البلدين فقد بقيت جيدة حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي
واستلام الرئيس الروسي بوريس يلتسن مقاليد حكم روسيا كدولة غير اتحادية. بعد ذلك حرص الأسد على إعادة تنشيط العلاقات بين البلدين ليبادر بزيارة إلى موسكو في العام 1999 تحت عنوان "زيارة لبحث السلام في الشرق الأوسط وبحث قضايا إقليمية".
الزيارة لم تمرّ مرور الكرام على أسماع الغرب فعبّرت وقتها العديد من التصريحات على لسان مسؤولين كبار بأن تقارب البلدين ستكون له تداعيات خطيرة على المنطقة، خصوصاً ارتباط اسم سوريا مع إيران كحليف واحد. ولكن لغة التهديد والوعيد التي يكرهها الأسد جعلته في تقارب أكبر مع الروس وهو ما نتج عنه إعلان من الرئاسة الروسية اعتبرته الولايات المتحدة آنذاك عداء مباشراً، فقد وجّه الرئيس الروسي بوريس يلتسن في ختام المؤتمر الصحافي الخاص بالزيارة بتلبية طلبات سوريا العسكرية كاملة، وهو ما أكد أنّ علاقة البلدين عادت إلى ما كانت عليه.
ومثل العلاقة السورية الإيرانية فقد حرص الرئيس بشار الأسد على التقارب مع روسيا التي كان لها رصيد مديونية بقيمة 13 مليار دولار على سوريا، وفي العام 2005 وقّع البلدان اتفاقية شطب 73% من الديون السورية آخذين بالحسبان أن المبلغ المتبقي وقدره 2.11 مليار دولار سيتم صرفه لتنفيذ عقود روسية استثمارية في سوريا، وفعلاً تمّ إبرام هذه الاتفاقية في حزيران/يونيو عام 2008 وتخلّصت سوريا من المديونية الكبيرة التي لاحقتها من قبل استلام الرئيس حافظ الأسد الحكم والتي تمثّلت بفواتير دعم وتسليح الجيش السوري الذي بدأ يبني نفسه قوة تحمي البلاد من بعد الاستقلال وجلاء الفرنسيين.
حصيدة ما تم زرعه
التفاهمات والتعاون المشترك سواء أكان عسكرياً أو سياسياً، تأسس ليدوم عهداً تلو عهد، ولتكون سوريا شريكاً حقيقياً ونقطة مركزية لتوازن القوى في الشرق الأوسط. وقد حافظ الرئيس بشار الأسد على ما أسسه الوالد حتى يكون له الأثر الإيجابي المعهود، وبانت هذه الإيجابية باستجابة الدولتين (إيران وروسيا) لطلبات سوريا بالتدخل ودعم الدولة استشارياً وعسكرياً ولوجستياً في أحداث السنوات العشر الأخيرة.
التحالفات القديمة شرّعت الإفصاح علناً عن تعاون الدولتين إيران وروسيا مع سوريا ودفاعهما المستميت لبسط الأمن في البلاد، وهو ما اعتبر تدخلاً رسمياً بصبغة قانونية تحت مسمّى معاهدات مشتركة خالفت ادعاءات بعض الدول بأن الدولتين تدخّلتا بصفة استعمارية، وقد أفضى انغماس الحليفين بالقضية السورية إلى إعادة سلطة الدولة على البلاد ومنع التقسيم الذي كان مراداً لسوريا من قبل دول لها أجندات تمثّلت بتدمير سوريا وإسقاط حكمها.
ما نراه اليوم من قوة للقيادة السورية لم يأتِ بالصدفة وإنما هو مشروع قيادي قديم أسسه الراحل حافظ الأسد، وبرغم العداء العالمي للقيادة السورية والمطالبات برحيل الأسد الابن من قبل دول كثيرة دأبت طيلة السنوات العشر الماضية ودفعت أموالاً لتنفيذ مخطط تفعيل الإعصار التخريبي، إلا أن عودة الاستقرار إلى البلاد نتجت عنه دعوات جرت بعضها لإعادة العلاقات مع دمشق. وبالتأكيد ومثلما قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان "في السياسة لا شيء مستبعد، ولا عداء يدوم".
فلا غرابة أن نجد بعض الأنظمة والرؤساء الغربيين الذين كانوا معادين لشخص الرئيس الأسد ولنظام الحكم في سوريا في زيارات ودية أيضاً، فـالقوة التي تتمتّع بها سوريا سياسياً وعسكرياً بالرغم من جميع الأوضاع السيئة التي تعانيها الدولة بسبب الشح في الموارد وتدني الاقتصاد الناتج عن التضخّم والعقوبات الدولية، إلا أنها بقيت جغرافيا واحدة آثرت التفكّك والانهيار، ومثلما يقولون: "الخسارة المرحلية أفضل من الخسارة الكلية". فسوريا كانت على مقربة من أن تكون مرتعاً للإرهاب والتطرّف، ومن حقها أن يخلّدها التاريخ رمزاً للصمود.
سوريا كدولة اعتبرت بأنها أقدم عاصمة مأهولة عبر التاريخ، ولكن برأيي إن شعبها يستحق لقب الشعب الحي لما قدّمه من تضحيات في سبيل استقرار الشرق الأوسط كاملاً،
فـالقصة ليست قصة نظام وحكم، وإنما القصة قصة ترهيب وتدمير للمنطقة بأكملها وسيذكر التاريخ لاحقاً خفايا ما حصل والجهات التي ساهمت بدعم مشروع "الربيع العربي" كما سمّوه والذي يعتمد على إسقاط الحكومات بمبدأ أحجار الدومينو.
في النهاية لا يسعني إلا أن أذكر القصة الخيالية التي حكت عن الكتاب الذي تركه الرئيس الراحل حافظ الأسد للرئيس بشار الأسد الذي تولى الحكم من بعده، الكتاب الذي قيل عنه بأنه يحتوي على مخطوطات تشرح خطوات وأصول الحكم وكيفيته، ولكن ما نراه اليوم أبلغ من قصص واهية، وإنما هو سياسة بانت بأحداث ظاهرة تنبّأت بمخاطر مستقبل البلاد. فالحلول لم تُكتب بسطور وإنما بمقدرة قائد عزم على رسم التحالفات الدولية في قصر المهاجرين بدمشق، وحصر عوامل دوامها ونجاحها في الحقيبة الدبلوماسية، فكانت ميراثاً لسوريا وأهلها.