البعد الاقتصادي في الحرب الأطلسية على روسيا

الحرب الأطلسية-الروسية على المسرح الأوكراني بدأت ارتداداتها الاقتصادية تظهر في الميدان الأوروبي قبل ظهورها في بقية العالم.

  • البعد الاقتصادي في الحرب الأطلسية على روسيا
    البعد الاقتصادي في الحرب الأطلسية على روسيا

بالكاد مضى أسبوعان على اشتعال الحرب الأطلسية-الروسية على المسرح الأوكراني عندما بدأت ارتداداتها الاقتصادية تظهر في الميدان الأوروبي قبل ظهورها في بقية العالم، إذ أعلنت المفوضية الأوروبية عشية الحرب أن معدل النمو المتوقّع لاقتصاد الاتحاد الأوروبي، التي خفضت سقفه قبلها من 4.3% إلى 4%، لن يبلغ إلا 3.5% عام 2022. 

جاء تأثّر أوروبا المباشر بالحدث الأوكراني طبيعياً من المنظور الجغرافي-السياسي لأنها أكثر اتصالاً ببؤرة الصراع في قلب المجال الحيوي لروسيا. والناتو، قبل أن "يتعولم"، ولد أصلاً في الميدان الأوروبي في معمعة الصراع مع الاتحاد السوفياتي السابق.     

تصاعد القتال في أوكرانيا، فراح معدلا نمو اقتصادَي الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو يتدهوران، ومعهما انخفض سقف التوقعات لنموهما. وفي ربيع 2022 ساد التشاؤم مع دخول القمر الأوروبي برج الكساد، وتنبأ الاقتصاديون ألا يتجاوز معدل نمو منطقة اليورو عموماً 2.7% عام 2022 أو أقل.    

ولولا انخفاض أسعار الغاز الطبيعي الخريف الفائت إلى مستوياتها قبل الحرب، وارتفاع درجات الحرارة أوروبياً فوق معدلاتها الطبيعية مع تساقط أوراق الخريف، ولولا ضخ مئات مليارات اليوروات من الدعم الحكومي في شرايين الاقتصاد (بالدين)، لما استعاد النمو الأوروبي شيئاً من عافيته في الربع الرابع من عام 2022، ولما بلغ معدله السنوي 3.2%، بحسب مصادر شتى.  

لكنّ المفوض الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، باولو جنتيلوني، زعم في مؤتمر صحافي في 13/2/2023، أن معدل النمو الأوروبي وصل إلى 3.5% عام 2022، أي أكثر بـ 0.3% مما كان متوقّعاً الخريف الفائت. وهو معدل يقلّ بكثير عن معدل النمو الأوروبي عام 2021، الذي راوح حول 5.3%.  

يظلّ معدل النمو الأوروبي عام 2022، رغم تراجعه، أعلى بكثير من معدله المتوقّع عام 2023، وهو 0.3%، سوى أن المفوض جنتيلوني تباهى بأنه سيكون 0.8% في العام الجاري، لا 0.3%، أي أقل من 1% في الحالتين، على أن يرتفع إلى 1.5% عام 2024، مصرّاً على أن ذلك النمو الضعيف لا يعني دخول أوروبا مستنقع الركود...

تباطأ النشاط الاقتصادي في أوروبا إذاً، الخارجة للتو من جائحة 2020، ولا سيما في ربيع وصيف 2022، نتيجة العقوبات التي فرضتها على روسيا بالذات، على أن تظهر أعراض ذلك التباطؤ بصورةٍ أوضح عامي 2023 و2024.

كأنّ ذلك لم يكفِ القارة العجوز علةً، حتى راح معدل التضخم في منطقة اليورو يتصاعد، شهراً بعد شهر، منذ بداية الحرب الأوكرانية، فإذ به يبلغ 9.2% في عام 2022 ككل، لينال من القوة الشرائية لليورو ومن المستوى المعيشي للأوروبيين. وهو مستوى قياسي لم تبلغه منطقة اليورو منذ نشأت، ولم تعرفه أوروبا منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين وبداية ثمانينياته.  

من المهم التنبّه هنا إلى أن تسارع التضخم بمعدل أعلى من نمو الدخل القومي الحقيقي هو أمرٌ سيّئٌ لا حسن، للاقتصاد والمواطن، في أي بلد. 

كان معدل التضخم الأوروبي 2.45% فحسب عام 2021، وأقل من ذلك بكثير في السنوات السابقة له.  يشار، على سبيل المثال، إلى أن مؤشر أسعار المستهلك CPI ارتفع نحو 17% عام 2022 قياساً بعام 2015، وأنه ارتفع 25% قياساً بعام 2008، وهو عام كان يعد غير عادي في السجل لأن معدل التضخم ارتفع فيه إلى 3.28% أوروبياً.  

البعد الصيني وأثره أوروبياً

تصرّ المفوضية الأوروبية على أن معدل التضخم سوف ينخفض في العام الجاري إلى 6.4%، لكنّه بلغ 8.5% الشهر الفائت، إذا كان ذلك نذيراً لما سيأتي، ولا سيما أن أسعار النفط والغاز التي حلّقت عالياً بعد انفجار برميل البارود الأوكراني، والتي عادت للانخفاض مع بداية الصيف الفائت، يتوقع أن تعود للارتفاع مع حل قيود كوفيد-19 في الصين، وانطلاق قاطرة النمو الكبرى المتوقّعة للاقتصادين الصيني والهندي في العام الجاري، وتخفيف "أوبك+" إنتاجها النفطي لموازنة السوق.  

يذكر أن الصين تشتري 60% من الغاز المصدّر عالمياً، وقد اشترت غازاً عام 2022 أكثر من أي بلد آخر، على الرغم من أن وارداتها منه انخفضت نحو 10% مقارنةً بالعام 2021، كما انخفضت وارداتها من الغاز الطبيعي المسال نحو 20% مقارنةً بالعام 2021، وهو أحد أسباب عودة أسعار الغاز للانخفاض عالمياً كما ورد أعلاه.  

فإذا زادت احتياجات الصين، ووارداتها تالياً، من الغاز الطبيعي مع عودة عجلة اقتصادها إلى الدوران، وإذا ثبت توجّهها العام نحو استبدال الفحم بالغاز الطبيعي والمسال، فإن ذلك سيدفع سعر الغاز نحو الارتفاع عالمياً بالضرورة مع ازدياد طلبها عليه.  

وقد راحت الصين تنافس بقوة على الغاز القطري ولا سيما أنها وقّعت مع قطر عقداً لتزويدها بالغاز المسال لمدة 27 عاماً، وأنها تسعى حثيثاً لتملّك حصصٍ في حقول الغاز القطرية في سياق توجّهها لاستبدال وارداتها من الغاز غير الصديق، الأسترالي والأميركي، بالغاز الروسي والقطري والوسط آسيوي، كأحد مخرجات الحرب الروسية-الأطلسية.

هذا يعني أن العوامل التي ساعدت النمو الأوروبي الخريف الفائت وبداية هذا الشتاء لن تبقى مستقرة بالضرورة، ولا يمكن البناء عليها حتى لو فرض الغرب سقفاً لأسعار النفط والغاز الروسيين ومشتقاتهما، إذ إن ذلك سيؤدي فقط إلى تحوّلهما إلى وجهات أخرى جغرافياً بعيداً عن السوق الأوروبية، ما يعني انخفاض المعروض منهما والضغط على سعريهما للارتفاع.  

ومع اضطراب أنماط الطقس عالمياً واشتداد درجات الحرارة نحو قيم متطرفة أو غير مألوفة صيفاً وشتاءً، من يضمن أن يبقى الشتاء الأوروبي دافئاً بصورة غير نمطية في الأعوام المقبلة؟

اليورو يكافح، والأسهم الأوروبية تنتعش على سراب؟

عن اليورو حدّث ولا حرج بعد أن تردّى من أكثر من 1.13 دولار أميركي عند بداية الحرب قبل عام إلى نحو 0.96 دولار أميركي مع نهاية أيلول/سبتمبر، ليعود للارتفاع تدريجياً إلى نحو 1.1 دولار مع بداية شهر شباط/فبراير الجاري، ليعود للانخفاض من جديد. 

ارتفع الدولار الأميركي بقوة مقابل العملات الرئيسية الأخرى، في الآن عينه، ثم عاد إلى الانخفاض منذ بداية تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، فإذ به يعود للارتفاع مجدداً مقابل اليورو وغيره مع بداية الشهر الجاري.  

وكان اليورو في 15/2/2023 أقلّ من 1.05 دولار، أي أن فكرة عودة سعر صرفه إلى مستواه قبل الحرب الأوكرانية ما برحت بعيدة المنال. وتشهد أسواق الأسهم الأوروبية، بالمقابل، داخل الاتحاد الأوروبي وفي لندن وزوريخ، حالة تأجج بعد القعر الذي ارتطمت به مؤشراتها القياسية في نهاية أيلول/سبتمبر الفائت.  

أثّر شبه تعافي الاقتصاد أوروبياً في الربع الرابع من 2022 إيجابياً على توقعات أداء الشركات المساهمة الأوروبية، وقلل انخفاض معدلات زيادة مؤشرات الأسعار أوروبياً وأميركياً من حاجة البنوك المركزية الغربية إلى اتباع سياسات انكماشية مثل رفع الفائدة لاحتواء التضخم، ما زكّى الأسهم استثمارياً كبديل للسندات الحكومية التي يزداد عائدها كلما ارتفع معدل الفائدة لتصبح الأسهم أكثر جاذبيةً.  

لكنّ العوامل الأساسية التي قلّصت النمو الاقتصادي وأشعلت نيران التضخم وفتكت بسعر اليورو ومؤشرات الأسهم الأوروبية ما برحت قائمة، وعلى رأسها ما كشفته العقوبات الغربية على روسيا من مركزية إسهامها في الاقتصاد الحقيقي عالمياً، نفطاً وغازاً وغذاءً ومعادن ووزناً (إذا أخذنا حجم اقتصادها بمقياس معادل القوة الشرائية لا بالأسعار الجارية) ما عنى أن العقوبات عليها عاقبت الاقتصادات الغربية فعلياً عندما حرمتها من مدخلات أساسية وسوقٍ دوليةٍ كبيرة. 

الاقتصادات الغربية الرئيسية تحذو حذو الاقتصاد الأوروبي

تكرّرَ النمط الأوروبي في الاقتصادات الغربية الأخرى، إذ بلغ معدل نمو الاقتصاد الأميركي–2.77 (بالسالب) في عام الجائحة، ثم ارتفع إلى نحو 6% عام 2021، ثم انخفض إلى 2.1% عام 2022. ويتوقّع أن ينمو بنسبة 1%، أو 1.4% إذا استمرت الاتجاهات السائدة حالياً، خلال عام 2023. أما خلال عام 2024، فيتوقّع أن يرتفع إلى 1.6%.

أما معدل التضخم الأميركي فبلغ 4.7% عام 2021، و8% عام 2022، ويتوقّع أن يبلغ 6.6% عام 2023، وأقل من 3% عام 2024، بحسب صندوق النقد الدولي.    

هذا يعني، مجدّداً، أن معدلات النمو الأميركية المتواضعة كانت وستبقى أدنى من معدلات التضخم في الأعوام 2022، 2023، و2024، وهو ما لا يبشّر بالخير قط.  

كان الاقتصاد الياباني، ثالث أكبر اقتصاد عالمياً بالأسعار الجارية، أسوأ حالاً، إذ إنه نما 1.66% فحسب عام 2021، و1.1 عام 2022، ويتوقع أن ينمو 1.8% عام 2023، و0.9% عام 2024. أما معدل التضخم الياباني فبلغ–0.2 (بالسالب، أي أن الأسعار تقلصت) عام 2021، و3% عام 2022، ويتوقع أن يبلغ أقل من 2% عام 2023، بحسب البنك المركزي الياباني، أي أن معدلات التضخم ستفوق معدلات نمو الاقتصاد الياباني أيضاً.

الاقتصاد البريطاني هو خامس أكبر اقتصاد عالمياً بالقيمة الاسمية، نما بمعدل 7.6% عام 2021، و4% عام 2022، ويتوقع أن ينمو 0.32% عام 2023، و0.56% عام 2024.  وبلغ معدل التضخم البريطاني 2.56% عام 2021، وأكثر من 9% عام 2022، ويتوقع أن يبلغ معدل التضخم البريطاني 11.1% عام 2023، و3.8% عام 2024.  

ومرة أخرى، نجد معدلات التضخم تفوق معدلات نمو الإنتاج والدخل الحقيقي. فالاقتصاد الكندي، تاسع أكبر اقتصاد عالمياً بالقيمة الاسمية، نما أقل من 5% عام 2021، و3.2% عام 2022، ويتوقع أن ينمو 1% في العام الجاري، و1.3% عام 2024. أما معدل التضخم الكندي فبلغ 3.4% عام 2021، و6.8% عام 2022، ويتوقع أن يصل إلى 4.2% عام 2023، و2.41% عام 2024، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي.  

وتتكرّر القصة ذاتها في كندا بالنسبة للعلاقة بين معدل التضخم ومعدل النمو الاقتصادي الحقيقي.

الغرب يتقلّص، ويزداد التصاقاً في عنق الزجاجة

تدل هذه الإحصاءات على أمرين:

أولاً، أن معدلات النمو الحقيقية في الاقتصادات الغربية الرئيسية لم تعد تجاري معدلات النمو في الاقتصادات الشرقية والجنوبية الصاعدة، كما وُثّقت في أكثر من مادة في الميادين نت خلال العام الفائت، وهذا يعني أن ميزان القوى الاقتصادي في كوكبنا يميل تدريجياً نحو الأقطاب الصاعدة.

ثانياً، أن معدلات النمو الحقيقي في الاقتصادات الغربية الرئيسية لم تعد تجاري معدلات التضخم فيها. وهذا يعني أن الوزن الحقيقي لتلك الاقتصادات في الناتج الإجمالي العالمي يتقلص نسبياً، وأن انتفاخ القيم الاسمية لاقتصاداتها بات يخفي بصورةٍ أكبر مدى التقلّص النسبي في اقتصاداتها الحقيقية مقارنةً بمجموعة البريكس. 

إنه يعني أيضاً تآكل مستوى معيشة المواطن غربياً مع تزايد الأسعار بصورة أسرع من تزايد الإنتاج والدخول، ما يضعف القوة الشرائية والاستهلاك ويفسّر الاضطرابات السياسية المتزايدة في الغرب نتيجة تدهور الحالة الاقتصادية.  

كاد الاقتصاد العالمي ينتعش عام 2021، لكنّ الحرب الأطلسية المفروضة على روسيا دفعت بالاقتصاد العالمي خطواتٍ إلى الخلف، وصورة المشهد العالمي من بعد الحرب الأوكرانية ستتغيّر إلى الأبد.