فلسطین في العلاقات الإیرانیة الترکیة
إن العلاقات الإسلامیة البینیة لن تتأثر بخلافات في الرؤی، وإن کانت استراتیجیة ومهمة، لأنها ترتكز إلی مبدأ إسلامي ثابت، وهو الأخوة والوحدة، ولکنها ستتعزز وترتقي کلما تقاربت الدول في إطار الرؤیة الاستراتیجیة الشاملة لنهضة الأمة.
بعیداً عن السرد التاریخي للوقائع والتطورات وتحلیلها، سأحاول في هذه الوجیزة بیان موقف في موضوع إشکالي وهو "فلسطین في آفاق العلاقات الترکیة الإیرانیة".
أولاً - إیران الثورة و إیران الجمهوریة الإسلامیة لا یمکن أن تَعُدَّ أي دولة أو جهة إسلامیة أو مسلمة عدواً أو خصماً.
وعلی الرغم من دعم الجمهوریة الإسلامیة لمشروع المقاومة، فإن ذلک لیس علی حساب الآخرین، حتی من یقفون بوجه هذا المشروع.
نعم، إن العلاقة الاستراتیجیة یحددها الموقف من القضایا العادلة وعلی رأسها قضیة فلسطین، ومدی الوقوف بجانب المقاومة والانتفاضة. لکن ماوراء ذلک، تأتي اعتبارات أخری، وهي: الجوار، والدائرة الإسلامیة، والإطار الأشمل والأوسع، وهو الدفاع عن المستضعفین بوجه هیمنة الاستکبار العالمي.
ولذلک، لم تبادر إیران، لیس إلی أي خطوة عدائیة أو حرب تشنها مع أنها تعرّضت لحملات عدوانیة ظالمة، بل حتی إلی قطع العلاقات مع الدول الإسلامیة، فکل المبادرات من هذا النوع کانت من قبل الأطراف الأخری.
وعلی سبیل المثال، علی الرغم من معاناة إیران الثورة الإسلامیة الفتیة من الحرب المفروضة من قبل النظام الصدامي البائد لمدة ثماني سنوات، إلا أنها لم تقطع علاقاتها الدبلوماسیة مع ذلک النظام، لکنها قطعت علاقتها بمصر السادات بعد توقیع اتفاقیة کامب دیفیید لارتباطها بالمشروع الاستکباري الصهیوني.
حتی في موضوع التطرف والتکفیر والإرهاب، علی الرغم من ارتباط المشروع بالقوی الاستکباریة، بل وتأسیسه ودعمه من قبلهم، إلا أن إیران تدعو إلی ضرورة توعیة الجمهور المغفّل منهم ومن مؤیدیهم.
ثانیاً- في إطار المبدأ أعلاه، یأتي سلم الأولویات. علی سبیل المثال، علی الرغم من عدم اعتراف الجمهوریة الإسلامیة باتفاقیة أوسلو، و کل مجریاتها ومخرجاتها، إلا أنها تقف إلی جانب السلطة الفلسطینیة في مواجهة الکیان الصهیوني، وإلی جانب منظمة التحریر باعتبارها الإطار القانوني الأشمل والممثل الشرعي الوحید لکل الفلسطینیین في شتی أنحاء العالم، بینما تبقی السلطة -بغض النظر عن موقفنا من شرعیتها - لا تمثل إلا فلسطینیي 1967، وإلی جانب کل الفصائل علی الرغم من اختلاف في الموقف هنا وهناك، مع تأکید استمراریة دعم الجناح المقاوم وإن وجد خلاف مع المرجعیة السیاسیة له، لكن کل ذلك لن یكون علی حساب الثوابت، أي تحریر کل فلسطین، وحق العودة، ودعم الإنتفاضة والشعب الفلسطیني وحقه في تقریر مصیره بعیداً عن کل المؤثرات الخارجیة.
لا تؤمن إیران بالتنافس بین الإخوة، بل تری مصالحها ومصلحة الجمیع في التكامل والوحدة والتعاون. وعلی الرغم من وجود تحفظات ومصالح ومخاوف لدی کل من إیران والدول الإسلامیة، ورضوخ أنظمة إلی إرادات أجنبیة وصلت في بعض نماذجها إلی حد استعداء إیران، لكنها لم تقدّم مصالحها علی المصلحة الإسلامیة العلیا.
إن إیران لا تنافس الإخوة حتی في المصالح الإقتصادیة، ناهیك عن التنافس علی الریادة، وعلی الرغم من وجود مشاریع لإعادة العثمانیة أو لفرض إرادة معینة علی أطر التقارب والتعاون، ومنها منظمة التعاون الإسلامي، کما حصل فی تشكیل ما یسمی بالتحالف الإسلامي أو استصدار قرارات إسلامیة وعربیة لتخوین أطراف المقاومة، إلا أن إیران دعت دائماً إلی الندیة والتعاون.
تفاعلت أغلب القوی الإسلامیة في المنطقة مع الثورة الإسلامیة في إیران بقیادة الإمام الخمیني، ومنهم الكثیر من القادة الأتراك حالیاً.
لکن شتان بین ما بعد الثورة وما قبلها، فقد اشتدت المواجهة والمؤامرة حیث أثرت علی موقف بعض الإسلامیین منها، وباتجاه السعي لثنيها عن مبادئها أو الاهتمام بداخلها، والدلیل علی ذلك هو النقاش الفكري المستمر بین الثورة والدولة في إیران بالذات، ومع أن إیران حافظت علی ثوریتها إلی حد کبیر.
إن إغراءات السلطة، والتحفظات والإملاءات والضغوط التي تترتب علیها، والخطأ في محاسبات الأولویات، وأن یُعَدَّ المشروع النهضوي المقاوم التحریري مشروعاً سلطویآً، والعمل علی التنافس بدلاً من التكامل، کل ذلك من شأنه أن یفسد في العلاقات بین المسلمین، وهذا ما عانینا منه تاریخیاً. وعلینا جمیعاً، وفي العلاقات الترکیة الإیرانیة مثالاً، أن نبتعد عن کل ذلك.
العلاقة الإیرانیة الترکیة بعد کل تجاذباتها التاریخیة، تعرّجت بعد انتصار الثورة الإسلامیة في إیران.
الانقلاب العسكري في ترکیا، والذي جاء متزامناً مع الحرب العراقیة المفروضة علی إیران، أضاف إلی الذاکرة الإیرانیة حكومة العسكر بعد ما کانت تحمله من بقایا العثمانیة والعلمانیة المعادیة للدین والتعاون مع النظام الملكي - ومن نماذجه حلف بغداد - ونفوذ الإرادة الأميركیة.
إن زیارة الراحل نجم الدین أربكان الصدیق للثورة الإسلامیة لإیران کانت فاتحة خیر. ووصول الإسلامیین إلی السلطة في ترکیا علی الرغم من وجود رؤی کانت تصوره عاملاً منافساً لفكر الثورة الإسلامیة، أدی إلی تحسین العلاقات من موقع دعوة إیران الدائمة إلی التكامل والوحدة، لاسیما کل ما اقترب الطرف الآخر من المشروع النهضوي للأمة.
حیادیة الأتراك في الحرب المفروضة، والتبادل الاقتصادي والتجاري الذي لم یصل إلی مستوی طموح الطرفین لیکون بحجم 30 میلیارد دولار عام 2015، وعدم الانجرار الترکي وراء العقوبات الأميركیة علی الرغم من تقلیل استیراد النفط من إیران، وحاجة ترکیا إلی الطاقة والنفط والغاز، وحاجة الطرفین للوصول إلی أسواق کل من أوروبا وآسیا الوسطی، والتعاون الإسلامي في مواجهة التطرف في بعض مراحله، والثقة العالیة المتبادلة في الملف النووي والقبول بدور ترکي فیه، والموقف المشابه من الأزمة القطریة السعودیة، والتعاون الثلاثي الأخیر بین إیران وروسیا وترکیا في الشأن السوري، وتوتر العلاقات الترکیة الأميركیة بعد محاولة الانقلاب العسکري التي کان لإیران دور بارز في مساعدة الطرف الترکي فیها، والتبادل السیاحي.
وفي ما یرتبط بفلسطین، مع وجود الترحیب الإیراني بالموقف الترکي العام المساند للشعب الفلسطیني والمعارض لبعض سیاسات (إسرائيل) ومجموعة من المبادرات الشكلیة کالسفینة أو بعض المساعدات الإنسانیة، إلا أن الرؤیة الإسلامیة المطلوبة تتطلب أکثر من ذلك، ولا تقتضي التجزئة والتبسیط.
فلا یمكن النظر إلی قضیة فلسطین کقضیة احتلال أرض إسلامیة فحسب، ناهیک عن تقسیمها إلی أراضي 48 و67 أو من خلال الموقف من السلطة وفصائل المقاومة والانتفاضة. إن القضیة هي قضیة استراتیجیة یقف علی جانب منها الاستعمار بکل قواه لشق الصف الإسلامي و زرع الغدة السرطانیة للحیلولة دون تحقیق نهضة الأمة الإسلامیة وصولاً إلی صفقة یراد منها إنهاء القضیة وإمحاء شعب بکامله علی أرضه وتأسیس دولة قومیة صهیونیة علی حساب أراضي الآخرین إن کانت سیناء أو غیرها، وفي الجانب الآخر المشروع النهضوي الذي یرید للأمة أن تستعید دورها وأمجادها وتحرر کامل فلسطین وشعبها ومقدساتها من النهر إلی البحر. إنها قضیة الوجود أو العدم، والهویة أو مسخها وطمسها، والاستقلالیة أو الهیمنة والتبعیة، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنین أو تسلیط الکفار علی مقدرات المسلمین.
فلسطینیاً رفضت إیران کل مبادرات التسویة لفرض ما یسمی بالسلام، من کامب دایفید إلی أوسلو وطابا ووادي عربة وشرم الشیخ والمبادرة العربیة وحل الدولتین وستبقی ترفض الصفقة والدولة القومیة وکل أنصاف الحلول أو أشباه الحلول، ولن تتنازل عن ذلك.
وعلی صعید مستقبل العلاقة الإیرانیة الترکیة فإنها ستتجه نحو الأفضل بسبب التراجع في العلاقة الترکیة الأميركیة، والتصحیح في مسارات الدور الترکي في الأزمة السوریة، واضطرار القیادیة الترکیة للاهتمام بالداخل ما یقلّل من النزعة نحو العثمانیة، والأهم من کل ذلك الحرب الاقتصادیة والحصار المفروض علی الدولتین.
إن العلاقات الإسلامیة البینیة لن تتأثر بخلافات في الرؤی، وإن کانت استراتیجیة ومهمة، لأنها ترتكز إلی مبدأ إسلامي ثابت، وهو الأخوة والوحدة، ولکنها ستتعزز وترتقي کلما تقاربت الدول في إطار الرؤیة الاستراتیجیة الشاملة لنهضة الأمة.