البكاء لأسباب مجهولة
لم يمت رئيس الوزراء، والرجل الكبير بخير وبصحة جيدة. لماذا هذا البكاء إذاً؟
-
لوحة الفتاة الباكية - إدفارد مونك
حكاية غير معقولة.
كأنما اتفقوا على هذا الأمر. استيقظوا من نومهم القلق، وفتحوا نوافذ بيوتهم، وتأملوا السماء الشديدة الظلمة، وتنهدوا بأصوات مرتفعة نافثين غضباً ترسخ في الصدور منذ ردح من الزمن، فتلاقت تنهداتهم الآسفة المحتجة كأنما كانوا على اتفاق.
تأملوا أجساد أبنائهم وبناتهم وزوجاتهم، وقلّبوا أيديهم بعجز، ثم غادروا بيوتهم من دون أن يلتفتوا خلفهم. وفي الشوارع، ارتفع نشيجهم.
لم يكن زحفهم يفصح عن شيء بالكلام، بل بالدموع، والمزيد من الدموع، واختلاجات الأجساد، وارتجاف الأيدي، واحمرار العيون من سهر وغل ونكد وقهر.
مشوا من دون اتفاق، وداروا في الشوارع من دون التوجه إلى مكان محدد. وعندما تنبهت شرطة المرور التي تستيقظ مبكراً لمطاردة السائقين، كما اعتادت، لمعاقبتهم بمخالفات تتراكم مالاً في خزينة الدولة، بُهت رجالها، واحتاروا في ما يرون، فهذه الحشود الهائمة تبكي من دون أن تقول شيئاً، وهي لا تكف عن البكاء. أتكون جنازة كبيرة؟
مروا عبر الجموع شاقين طريقاً لسياراتهم ذات الأبواق التي تشبه جعير الأبقار، فتيقنوا أن الشوارع تغص بالرجال، وأن النساء بدأن أيضاً يتدفقن، ولكنهن لا يندبن، بل يحملن أطفالاً وطفلات على أكتافهن أو على صدورهن. ورغم أنهم يبكون، فإنهن لا يرضعنهم، ويجرجرن أطفالاً قادرين على المشي.. وهم أيضاً يبكون ويرفعون رؤوسهم إلى وجوه أمهات لا يستجبن لنظراتهم المستغيثة.
ذهل رجال الشرطة، وأوقفوا سياراتهم، وكفوا عن إطلاق أبواقها، وانهمكوا في الاتصال بقادتهم بأصوات مرتجفة، فالمدينة تخرج من البيوت، والناس يبكون ويبكون ويبكون، ويزحفون في الشوارع، ويلتفون بها من دون وجهات محددة، والمدهش أنهم لا يهتفون مطالبين بشيء، فهم فقط يبكون بدرجات أصوات مختلفة علواً وانخفاضاً.
الوزراء استيقظوا من نومهم مفزوعين، ورئيس الوزراء توجه إلى الرئاسة، وكبار رجال الأمن اندفعوا في أرتال سياراتهم السوداء إلى مكاتبهم ودوائرهم وحصونهم. أهي مؤامرة؟
لا يمكن إصدار بيان يتهم جهات أجنبية بأنها تقف وراء بكاء شعب بأكمله، ثم من الجهة التي تبكي هذا الشعب؟
مدير عام التلفزيون أرسل سيارات النقل الخارجي التي دارت كاميراتها مع حركة الحشود المتحركة بتثاقل وتلاصق وببكاء لا يتوقف، لكن المعلقين عجزوا عن قول كلمة، وبقيت ميكروفاناتهم معلقة في أيديهم، يحركونها بعصبية وقلق من دون أن ترتفع أصواتهم عبرها ناقلة الحدث الغريب الفريد العجيب.
ماذا نقول؟ تساءل كل واحد وهو ينظر في وجه زميله. لنصوّر ونحتفظ بالصور في الأرشيف. اقترب واحد منهم وسأل مواطناً باكياً: أيها المواطن العزيز، يا أخي، لماذا تبكون؟ لماذا تبكي أنت بالتحديد؟
أشاح المواطن بوجههه، وارتفع صوت بكائه مع هزات رأسه، فانصرف المراسل إلى غيره، فلم يلقَ جواباً أو تفاعلاً مع أسئلته.
تدفق مراسلو وكالات الأنباء والصحف الأجنبية إلى الشوارع، وبدأوا بالتعليق على المشهد الذي لا سابقة له في العالم: شعب بأكمله يبكي، ويدور في الشوارع، ولا يقول كلمة، ولا يفصح عن مطالب.. يا للعجب!
رجال بملابس مدنية اندفعوا وأخذوا ينتزعون كاميرات المراسلين الأجانب والميكروفونات، ويكزون على أسنانهم وهم يخاطبونهم آمرينهم بالانسحاب فوراً.. وإلا.
انسحب المراسلون على مضض، ولكنهم تدبروا أمورهم في التصوير من الطوابق العليا حيث تقع مكاتبهم. وهكذا خرجت الصور والأخبار التي يمكن تلخيصها بخبر واحد بكلمات قليلة: الشعب كله، في العاصمة، في المدن، في القرى.. كله يبكي، ويدور في الشوارع والأزقة، والدولة لا تقدم تفسيراً، بل تبدو كأنها بوغتت، وأُخذت على غفلة، وهي تقف عاجزة عن فعل شيء، فليس من حقها منع الشعب من البكاء!
مراسل خفيف الدم تساءل: أيكون هذا اليوم عيداً للبكاء وجد في زمن بعيد. واليوم، يستعيده الشعب؟
كانت الدولة قبل أيام قليلة تحتفل بعيد ميلاد الـ(...) بأغان في الإذاعة والتلفزيون ومانشيتات الصحف، والحلوى توزع في الشوارع. وصف الاحتفال بأنه أعظم عيد فرح في تاريخ البلاد. كيف حدث هذا البكاء إذاً؟
لم يمت رئيس الوزراء غير المحبوب. الرجل الكبير بخير، وبصحة جيدة.. وفي البلاد لم يقع زلزال، ولا انتشر وباء كورونا. لماذا هذا البكاء إذاُ؟ ولماذا لا تقدّم الحكومة بياناً رسميّاً؟ ومتى سيتوقف بكاء الجموع وزحفها إلى الشوارع؟
أسئلة كثيرة تفشّت لا جواب لها.
ماذا سيحدث عندما تجف دموع الحشود؟ هل سيعود الناس إلى بيوتهم أم ستشهد البلاد موجة أعتى من البكاء الصامت؟
الله أعلم!