الكتابة والمكان في السرد السوري: صراع هوية وحيوية معنى؟
كيف تتعدّد دلالات المكان في الكتابة السردية؟ وهل تتأرجح الرواية السورية بين أمكنة متعدّدة، تبعاً لمهب النيران؟
تتعدّد دلالات المكان في الكتابة السردية، قصةً كانت أم رواية، وبقدر ما يشير إلى حَيِّز فيزيائي، فإنه يُحيل إلى حيوية مُضمرة في التفاصيل والمعنى، برمزيّته حيناً ووضوحه الواقعي في أحيان أخرى، بتشييئه على اعتباره مجرّد عمارة أو خرابة، أو أنسنته وبثّ الروح فيه بوصفه مصنعاً للحياة وملجأً وهويّة.
وإن كان المكان في أية حكاية مُقيَّداً بأبعاده الجغرافية، وبأنه يُمكن إدراكه بالحواس، إلا أنه بتفاعلاته مع الزمان، يبني خصوصيته ومعناه وقوة حضوره في البناء السردي العامّ. قد يتخلّى عن كونه مُجرّد خيط في قماشة السرد، ليصبح هو القماشة كلّها، وفي أحيان أخرى يُشكِّل الدافع الأقوى وراء تفجير قوى الإبداع لدى الكاتب، بحيث تذوب الأبعاد بين الشخصيات وأمكنتها، وينشأ من ذاك التَّماهي بعد جديد هو الأثر الذي يتركه عند القارئ.
وهناك العديد من الدراسات التي ترى في المكان الحكائي بناءً لغوياً، أساسه التخييل السردي، بحيث يصبح بمستوى أعلى من تصنيفاته الموضوعية، ويتجه إلى أن يكون فضاءً لاحتضان الأحاسيس المختلفة للشخصيات، فضلاً عن دلالاته الفلسفية التي تحدّث عنها الفيلسوف الفرنسي، غاستون باشلار، في كتابه "جماليّات المكان"، على اعتباره يؤدي دوراً كبيراً في تكوين وعينا النفسي، الذي لا يلبث أن يترك "أثراً واقعيّاً" في تلاقحه مع اشتغالات المخيّلة، وهو ما تناوله في أكثر من مبحث المفكّر الفرنسي، رولان بارت.
روعة سنبل: بين الرغبة في الكتابة والخوف منها كانت المخاتَلة هي الحلّ
-
روعة سنبل
حول هذه النقاط يتمحور هذا التحقيق الذي يتناول العلاقة المركّبة بين الكتابة السردية والمكان، وانعكاسات ذلك على الحكايات التي دوَّنها 3 كتّاب سوريين هم: روعة سنبل، ونهى حسين، ويسر برّو، ضمن أعمالهم التي صدرت عن "دار ممدوح عدوان"، وحاورهم، أمس الأربعاء، في بعض ملامحها الكاتب والروائي السوري، خليل صويلح، ضمن "غاليري زوايا" دمشق.
يقول صويلح في حديث مع "الميادين الثقافية": "تتأرجح الرواية السورية بين أمكنة متعددة تبعاً لمهب النيران. ذلك أنّ سنوات الحرب استدعت المكان الطارئ بتأثير عمليات النزوح، فلا طمأنينة للمكان الراسخ، وما كان في الأساس مسقط رأس وذكريات وحديقة أضحى خراباً. هذا القلق انعكس على طبيعة السرد لجهة العبارة الخاطفة وتناوب الشخصيات في رواية الفجيعة، ذلك أنّ المكان الكابوسي اجترح سرداً كابوسياً وأنواعاً من الموت، بما فيه الموت غرقاً، وإذا بالبحر يتحوّل إلى مقبرة وأجساد ممزّقة، الآن نحن أمام اختبار آخر: ترميم المكان وترميم السرد بمقترح آخر وبلاغة مغايرة".
ضمن تلك المناخات تتوتَّر الأحداث في قصص روعة سنبل التي أوضحت في حديثها مع "الميادين الثقافية" بأنّ "سوريا التي عشنا فيها، لم تكن يوماً مكاناً بسيطاً أو اعتيادياً، لكنّ ملامح المكان أصبحت أكثر حدّة وتنافراً بدءاً من عام 2011، ومن الطبيعي أن يكون تفاعل الكاتب مع مكان كهذا، تفاعلاً معقّداً مركّباً".
وتضيف "في بدايات تجربتي ككاتبة، في مجموعتي القصصية الأولى (صيّاد الألسنة)، سيطرت عليّ رغبة ملّحة في الهروب من المكان عبر الكتابة، فلجأت وقتها إلى الفانتازيا، تنفَّستُ عبرها، وخلقتُ أمكنة بديلة، نسجتُ فيها حكاياتي وحرّكتُ شخصياتي، ولأنني كنت وقتها عالقة في اكتئاب مزمن، فلم أنجح في خلق أمكنة أكثر سعادة، لكنها كانت بالتأكيد أكثر رحابة ومفتوحة على احتمالات أكثر. هكذا غابت في قصصي الأولى ملامح سوريا بشكل شبه تامّ. مع الوقت، كان المكان هنا يصبح أكثر قسوة، ودمشق تصبح مدينة طاردة أكثر فأكثر، وفي هذه الأوقات بالتحديد وجدتُ نفسي أتعلّق بتفاصيل المكان، وأشعر بالحاجة للكتابة عنه. لم يكن هذا سهلاً على الإطلاق، فدمشق من جهة غنية جداً بالمفارقات الاجتماعية والسياسية والإنسانية التي تغري بالكتابة، لكن من جهة أخرى، فإنّ سماءها كانت محجوبة، وجميعنا نعيش فيها تحت سقف واطئ جداً، وضمن أسوار شائكة".
وتتابع سنبل: "في هذا المكان الضيّق، وبين الرغبة في الكتابة والخوف من الكتابة، كانت المخاتَلة هي الخيار الأمثل، فبدأتُ بكتابة نصوص تلمّح غالباً من دون أن تصرّح، لجأتُ للتخييل أحياناً، وللإيجاز أحياناً أخرى، استخدمتُ لغة مجازية مراوِغة وثقتُ بقدرتها على الإيحاء، وراهنتُ دوماً على قارئ يتواطأ معي فيلتقط الإشارات ويكمل الحكايات. وحين بدأت بكتابة مجموعتي الأخيرة (دو،يك)، كنت مسكونة تماماً بهاجس المكان، وعلاقتنا معه، أردت أن أؤرشف ملامح المكان، وملامح ناسه، فكانت دمشق موجودة في جميع القصص، بدءاً من حضورها في ذاكرة الناس، مروراً بشوارعها، وفضاءاتها العامّة، وانتهاءً بليلها الحالك".
يسر برّو: الأمكنة مرايا للذات
-
يسر برّو
من جهته، يؤكّد الروائي يسر برّو في روايته الأولى "أغنية الربيع القاسي" تغيُّر طبيعة الأماكن خلال الحرب، وتسخيره لذلك ضمن خطوط السردية، ويطرح مثالاً عن ذلك منطقة "المزة 86" بكلّ عشوائيتها التي ازدادت مع لجوء الكثيرين إليها واستئجارهم لمنازل فيها بسبب انخفاض تكاليف إيجارات المنازل مقارنةً مع قلب العاصمة دمشق، ما أدى إلى امتزاج أشخاص من طبقات مختلفة، يتفاعلون مع أشياء جديدة عليهم، ويتعرّفون إلى أناس جدد، ما جعل هناك مستويات عديدة لمفهوم المكان، ولا سيما أنّ العشوائيّات بحد ذاتها هي شيء خاص.
ويقول برّو: كتبت عن المزة 86 لأنني عشت فيها، و"بحر" الشخصية الرئيسية في روايتي أبوه غني، ولأنه يريد الهروب من نمط حياته، يجبر نفسه على استئجار منزل مع عساكر لا يعرفهم في تلك المنطقة، حينها يشعر أنه خرج من المحيط المألوف الخاص به، والذي لم يشكّل مرآة له، على عكس المحيط المختلف الذي وجد نفسه فيه الآن. الاختلاف تحوّل إلى مرآة له، ومن خلال هذه التناقضات تبدأ رحلة استكشافه لذاته، بمعنى أنّ الموضوع ليس فقط تمرّداً على والده وطبقته الغنية، إنما استكشاف ذاته، وبدل أن تكون درامية عبر الأدغال والصحاري... كانت من خلال حيّ فقير عشوائي في سوريا".
ويضيف: "هذه الحالة استثنائية وربما يراها البعض غير واقعية، لكننا دائماً نسمح للحياة أن تفاجئنا بأمور سحرية، لكن في حكمنا على الأدب الواقعي نقول إن ذلك غير واقعي. أشعر أننا نحكم على الأدب الواقعي ليس بناءً على الواقع المعيش، وإنما بناءً على الأدب الواقعي الذي سبق وقرأناه، ولذلك لا نألف هذه الدرجة من الاستثنائية، الأمر الآخر، هناك شباب وصبايا استثنائيون في سوريا، وجميل أن نعترف بذلك ونفتخر به، لذلك ليس من الضرورة إن تناولنا شخصية استثنائية في رواية أن ننفي عنها الواقعية، بل هي واقعية وإنما غير محتملة".
وعند السؤال هل عشوائية المكان تتطلّب نوعاً خاصاً من الكتابة؟ يجيب برّو: "هذا ممكن، كنت أحاول ألّا أكون تقليدياً في تناولي للحكاية، لكن في الوقت ذاته لم يكن لدي فلسفة لها عناصر محدّدة تضمن لي ألا أكون تقليدياً، لذلك فإنّ إدخال أبطالي لمنطقة العشوائيات جعلني أسير بروايتي إلى مكان خاص بمعنى ما. كنت ككاتب أحاول أن أكون ممثّلاً وأجسّد الشخصية في لحظة ما في ذاك المكان، ثم أحرّك شيئاً عشوائياً وأجبر نفسي على رؤية كيف ستتفاعل تلك الشخصية مع ذاك الحدث. هذه العشوائية أعطت مصداقيّة لشخصياتي، لأنّ الحياة عشوائية بهذه الطريقة".
"أغنية الربيع القاسي" تتضمّن أمكنة أخرى ساحرة روائياً، وهي غير عشوائية، مثل باب شرقي، لكنها لم تستدع بحسب برّو أيّ تغيير في لغته، بل فرضت تغيُّر المونولوجات الداخلية للشخصيات، ويوضح ذلك بالقول: "على سبيل المثال، فإن "ثائر" الشخصية الرئيسية الثانية يعيش أساساً في المزة 86، ثم يذهب إلى باب شرقي، ولأنها مختلفة عنه فتصبح مرآة له، ويظهر اغترابها، ورغم أنّ نمط تفكيرها منفتح ويشبه حارات باب توما، لكن هذا في الوعي، أما في اللا وعي فشخصيته معتادة على القسوة وعلى البيئة المحافِظة التي أتى منها وهي حلب، بمعنى أنه في وعيه يريد الانتماء إلى أمكنة كباب شرقي وباب توما، لكن في لا وعيه يعود فيلحق القسوة التي عايشها في حلب والمزة 86".
نهى حسين: المكان جزء من الهوية
-
نهى حسين
أما القاصّة نهى حسين، فترى في تصريحها لــ "الميادين الثقافية" أنّ "المكان فيما أكتب لم يكن مجرّد خلفيّة للأحداث، وإنما هو فاعل ومؤثّر، ليس فقط لأنني أستمدّ منه الموضوعات، وإنما لأنه يملي عليَّ ماذا سأختار من تفاصيل بحسب حدود الأشياء الموجودة، وفي الوقت ذاته لأنه بات جزءاً من الهوية بسبب أُلْفَتي له مع طول الزمن، كمَشاهد البيوت المدمّرة، بحيث صار جزءاً من التكوين الشخصي لي ككاتبة، وأيضاً هناك فكرة تتعلّق بكلّ تفاصيل الحياة اليومية. فالبيت لم يعد هو المكان الآمن، الذي أرتاح فيه، بمعنى ضياع تلك الخصوصية، فالعائلة بجميع أفرادها مضطرة أن تتجمّع في الممر، أو في مكان آمن خوفاً مما قد يحصل أثناء القصف والحرب. وبسبب الخوف، حتى الشارع لم يعد يحمل الدلالة ذاتها، في حين أنّ الكتّاب المسافرين الذين يكتبون عن الشام أو عن سوريا، فهم يكتبون بطريقة مختلفة عن كتّاب الداخل، لأنهم يكتبون من باب الحنين، في حين أننا نكتبها لأنّ هناك شَفرة ما أو ألماً نتعرّض له طول الوقت".
وعند سؤالنا هل المكان هو تلك الشَّفرة؟، تجيب: "علاقة الكاتب بالمكان هو الذي يجعله يحسّ بأنّ هناك شيئاً ضاغطاً، وجارحاً، لكن مع ذلك لا يستطيع أن يتخلّى عن محبته. عندي مثلاً حديث عن أمّ وابنتها في منزلهما تحت القصف، وكيف يقاومان خشونة المكان وقسوته بأن تشربا القهوة في ظلال الخوف، وفي قصة "أبو كمشة" الرجل الذي يجمع النفايات، يتكرّر المشهد وينتشر في المكان، أما في "مكبّ الأنقاض" فتتكرّر الأشياء المهملة والمهمّشة في سوريا، والتي تشعرنا أننا مثلها".
وأمام اختبار ترميم الأماكن الذي تحدّث عنه خليل صويلح، ترى نهى حسين أنّ الكاتب في مواجهة تلك الأماكن المدمّرة عليه أن يعيد تشكيلها بشكل واقعي، أو يصنع عالماً موازياً شبيهاً بالواقعي. ولأنها - كما توضح - لا تمتلك الحرية لتوصيف المكان كما هو بحذافيره كانت تعيد تشكيله أحياناً، أو تركّز على توصيف صراع شخصياتها مع المكان، وتكتب عن آثار المكان التي لم ننتبه لها، والتي كانت هي الأخرى تعيش في حالة حرب، تقول: "عندما لا نستطيع الكتابة عن المعتقلين، نلجأ للكتابة عن معاناة الناس اليومية، وكيف تغيّرت يومياتنا في الحرب، ونميل في الغالب إلى الترميز فالبيت هو الوطن والخيمة هي اللجوء".