النموذج الـ "هايدغري" في "رجل يفتش عن حاضره"
لعل أخطر ما كشفه "عصام"، في تنقلاته الفكرية، حالة الانتهازية التي يكشفها الخطاب "الأصولي"، وهي سمة تُستشفّ من تغير خطابه مع تغير الظروف والمعطيات، وعدّ هذا التلون "تكتيكاً" يخدم المقاصد الأساسية، وهي الوصول إلى الحُكم.
بأناقة الراوي يُصرُّ قاسم قاسم على اقترافِ فعل الكتابة عبرَ رصد حالات من قلق اللامنتمي في شخصية روايته الجديدة، "رجل يفتش عن حاضره" (دار بيسان للنشر والتوزيع، بيروت)، وهو يسعى، من خلال هذا الرصد، للإقامة في القلق الإنساني بمعناه "الهايدغري".
تنزع شخصية عصام/طارق (اسمه الحركي عادل) إلى تكسير القواعد والنزوع إلى الوازع الإنساني والتماهي معه والذوبان فيه. منذ البدء، تبرز هذه الشخصية في هامة إرباكية تستحوذ على ذهنية المتلقي وتسافر به إلى عوالمها القلقة الميالة إلى الحياة السوداوية، من خلال ملامسة النزوع السيكولوجي في حياته.
وكنتيجة طبيعية للتشظي الملمّ بالذات في إنصاتها إلى إيقاعاتها الداخلية المتعدّدة، ثمة لحظة مرعبة معينة تتولّد منها الأصوات الهامسة، عبر لغة يطغى عليها التنوع الخارج عن المألوف، مع عدّ الغاية من محاولات إقحام نفسه مظلةً أو قناعاً لفعل القلق، على نحو كامن في التفريغ التدريجي للمعاناة، وبمنأى عن الشخصية الواحدة، والتزاماً بنبرة الغضب والاحتجاج.
أراد قاسم من التحليل النفسي لشخصية عصام/طارق مسألة مهمة في الكشف عن دوافع تحولاته منذ خروجه من بيئة الشمال في لبنان، حتى استقراره في بيروت، والتي بدأت بتكوين شخصيته وإخراجه من الانطواء والخجل إلى اكتشاف العالم المحيط به، من خلال كل تناقضاته، وعبر الشخصيات التي تعرّف إليها عصام في مسار حياته وتقلباته الفكرية، ومما ترسب في لاشعوره، وما عكسه هذا التعارف بما له من تداعيات نفسية، ظلت متنكرة في مجموعة من الصور الاستعارية القلقة.
عمل الروائي اللبناني في رسم المسارات اللاواعية لشخصية "بطله"، الذي يعاني مركّب النقص، انطلاقاً من نظرية فرويد، وتحليله للأعمال الأدبية شديدة الارتباط بالبنيات والتقنيات الخاصة بالسرد. لذلك، نرى أنفسنا أننا لن نجد صعوبات كثيرة في أثناء مقاربة هذا العمل الروائي، وفي محاولتنا وضع هذه الشخصية الورقية (عصام) على سرير التشريح النفسي، وعلاقته بالشخصية الثانية في الرواية (سارة)، التي تضع له طُعم التورط مع المعارضة السورية خطوة خطوة بطلب من زبون المطعم، الذي كان يعمل فيه عصام، وكان يتقاضى منه بقشيشه (10 دولارات) كلما جاء إلى المطعم.
عنوان الرواية "رجل يفتش عن حاضره" يُعَدّ بوصلة تنحو في اتجاهها كل أحداث الرواية على رغم القضايا الفرعية التي تتقاسمها، والتي يؤطرها هاجس الانتقال بين لبنان وسوريا، "هروباً" من الخطوب والمنغصات التي يضج بها البلدان. كأن الرواية تترجم فحوى المراد من هذا العنوان، لتدفع القارئ كي يقتنع بإمكان تفكيك هذه الشخصيات، التي تضج بها الرواية.
تدور حبكة الرواية، إذاً، بين سوريا ولبنان، حيث تتوالى الشخصيات التي سيكون لها تأثير كبير في حياة عصام الذي ذهب إلى "الجهاد" في سوريا، واستقر في "دولة الخلافة" بين إدلب والرقة، لكن سارة بقيت تأخذ تفكيره الأوسع، الأمر الذي دعاه إلى طلب الزواج بها، وأخبرها خلال تواصلهما بأنه قرر القيام بــ "الجهاد" داخل لبنان|. وسرعان ما بدأ هذا "الجهاد" من خلال تفجيرات ضربت ضاحية بيروت ومنطقة البقاع، ولم تستثنِ حواجز الجيش اللبناني بهدف وضع اللائمة على "حزب الله".
لم يمض وقت طويل حتى حدث الخلاف بين عادل وتنظيم "داعش"، الذي كان "مجاهداً" فيه. لم يعجبه سلوك عناصر "داعش" وتفسيراتهم الدينية التي تستبيح القتل المجاني، لكن قادة التنظيم أمروا بسجنه، وكانت المفاجأة أن ابن شقيقته (صالح) كان في الزنزانة الملاصقة لزنزانته، وهو من مناصري "حزب الله"، غير أن "جبهة النصرة"، التي كانت تقاتل "داعش" وانتصرت عليها في تدمر، قررت إطلاق سراح المساجين، وكان بينهم السجينان، عادل وصالح، بحيث عملا معاً في التنظيم الجديد، وانتقلا إلى لبنان للمعالجة بعد إصابتهما الخطرة، صالح في فخذه التني تمزقت، وعولج في مستشفى "الرسول الأعظم"، وعادل في وجهه. ووُضع الإثنان تحت حراسة عناصر من "حزب الله"، وأصبح عادل منهم، وهناك التقى عصام شقيقته التي دعته إلى زيارتها في جنوبي لبنان.
الحدث الأكبر كان تواصل عصام من جديد مع سارة، التي تزوج بها، لكنه عاش كوابيسها بعد نوبات من الكآبة كانت تحاصرها نتيجة للأحداث التي عاشتها. وبين تنقلاته بين سوريا ولبنان، أخذت اتجاهاته الفكرية والفلسفية الجديدة تخرجه من دوامة الانتماءات السابقة، وتدفعه نحو توجه جديد ومتنور يجمع المواطنين، عبر كل انتماءاتهم المذهبية والطائفية. لذلك، نراه بدأ يتواصل مع صحيفة إلكترونية وينشر مقالاته فيها، لكن سرعان ما جاءته نصيحة بالابتعاد عن نشر مقالاته بسبب آرائه التي تنتقد توجهات بعض رجال الدين. واتجه حينها إلى تأليف كتابه الأول تحت اسم "حائر عزام"، ويحاكي فيه التوجهات الدينية وينتقدها. ولقبته سارة بالمعري تحبباً قبل أن تموت نتيجة وضعها الصحي، ويتزوج عصام بصديقتهما ميساء.
لم تكتفِ الرواية بكشف حالة العفن في تنظيم "داعش" وشقيقته "جبهة النصرة"، بل تفتح الباب واسعاً أمام حركة التنوير، من خلال دفع الشخصية الرئيسة في الرواية، "عصام"، إلى قراءة كتب فكرية وفلسفية، كان جلبها له أحد عناصر حزب الله، وهذه القراءات دفعته إلى كشف نزعات ذات طبيعة مرضية، يعيشها الخطاب "الأصولي". النزعة الأولى "سياسوية" هذا الخطاب إلى جانب أيديولوجيته المزدانة بإيمان يجد في التبريرية كل فضائله، ونزعته إلى شموليته الادعائية، في حين يهيمن القصور المعرفي على توجهاته. يعني افتقار منظري الأصولية إلى معرفة صحيحة، سواء بالنسبة إلى الماضي، أو إلى الآخر، أو إلى الحاضر. والحصاد المعرفي عندهم يفتقر إلى الصدقية، نظراً إلى ما تعنيه "الأدلجة" من إفساد "للإبيستيمولوجيا".
لعل أخطر ما كشفه "عصام"، في تنقلاته الفكرية، حالة الانتهازية التي يكشفها الخطاب "الأصولي"، وهي سمة تُستشفّ من تغير خطابه مع تغير الظروف والمعطيات، وعدّ هذا التلون "تكتيكاً" يخدم المقاصد الأساسية، وهي الوصول إلى الحُكم.