بنيامين دزرائيلي وروايته: الصهيونية حملة صليبية جديدة

كان دزرائيلي شديد الحماسة لمدّ النفوذ البريطاني إلى المنطقة العربية، وقد كانت البداية الفعلية من خلال شرائه 44% من أسهم قناة السويس المسجّلة باسم الخديوي إسماعيل، وبذلك أغاظ فرنسا الطامعة بهذه الأسهم.

  • نيامين دزرائيلي وروايته: تانكرد أو الحملة الصليبية الجديدة
    بنيامين دزرائيلي وروايته: تانكرد أو الحملة الصليبية الجديدة

يظنّ الكثيرون أنّ المشروع الصهيوني هو مشروع استعماري صرف في القول والرغبة والعمل، وقد تحقّق بقيام الكيانية الصهيونية عام 1948 على حساب الشعب الفلسطيني وبالعزم الصهيوني، لكن الحقيقة هي غير ذلك، فالمشروع الصهيوني مشروع استعماري غربي صرف في القول والرغبة والعمل، وإنّ يهود أوروبا ساندوا هذا المشروع ونادوا به، ولكن كانت للطرفين، الغربي واليهودي، غايتان مختلفتان، الغرب أراد تأسيس كيانية صهيونية لليهود في فلسطين من أجل الخلاص من شرورهم في البلاد الأوروبية، واليهود أرادوا تنفيذ مشروعهم الصهيوني فوق الأراضي الفلسطينية من أجل قيام دولة يهودية تماشي مخيالهم الديني الداعي إلى العودة إلى الأرض الموعودة.

أوروبا، وطوال عدة قرون عانت من السلوكية اليهودية، وفي مختلف بلدانها، ولهذا كانت صورة اليهودي في الأدب الغربي صورة شائهة منحطة خسيسة مرذولة، وهذا ما نراه في (تاجر البندقية) لـ شكسبير ( 1564-1616)، وفي ( اليهودي) لـ تورغينيف الروسي ( 1818-1883)، وفي (أوليفر تويست) للإنكليزي تشارلز ديكنز ( 1812-1870)، و (المسألة اليهودية) لـ دوستويفسكي (1821-1881)، ولكن هذه الصورة راحت تتغيّر وتتضمحل تدريجياً، حين راح السياسيون اليهود الذين انتموا إلى الأحزاب الأوروبية يتسلّمون المواقع والمناصب السياسية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنسما، ومن بين هؤلاء السياسي اليهودي بنيامين دزرائيلي (1804-1881) الذي أصبح رئيساً لوزراء بريطانيا مرتين، وهو أيضاً كاتب، ولم يعتنق الدين المسيحي إلا وهو في عمر الثلاثة عشر عاماً، عندما تحوّلت أسرته إلى الديانة المسيحية لأسباب اقتصادية/سياسية.

كتب دزرائيلي روايات عديدة، منها رواية (تانكرد أو الحملة الصليبية الجديدة) التي أراد من خلالها التوفيق  بين نزعتين اثنتين هما، نزعة تمسّكه بالديانة اليهودية ومقولاتها، ونزعة طموحاته الإمبريالية، وفيها، أي الرواية،  دعوته الجهيرة إلى التحالف ما بين اليهود الراغبين في العودة إلى فلسطين، وبين بريطانيا ذات الروح الاستعمارية الساعية إلى السيطرة الفعلية على البلاد العربية في شرق المتوسط، وأنّ هذه  الرغبة البريطانية تمثّل التجسيد المنطقي للحلم الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين استناداً إلى ما ينادون به من العودة إلى الأرض الموعودة، وفي روايته هذه أيضاً، إشارات عديدة كثيرة إلى ضرورة استعادة (أرض إسرائيل)، وشوقه العميم للعودة إلى القدس.

   كان بنيامين دزرائيلي، قد زار فلسطين في مطلع شبابه، وقد أثّرت تلك الزيارة في نفسه كثيراً، وقال عنها إنها الزيارة التي حدّدت مسار حياته، أي أن يتجه نحو عالم السياسة لتحقيق حلمه، وحلم اليهود بالعودة إلى الأرض الموعودة، لذلك اهتم بالسياسة، وأعطاها كل اهتمامه إلى أن انتخب عضواً في البرلمان عن حزب المحافظين سنة 1837، لأنه كان صاحب نشاط واسع بين الشباب والطلبة، وقد غدا في عام 1852 رئيساً لمجلس العموم البريطاني، ثم عيّن وزيراً للمالية في الحكومة البريطانية في العام نفسه، وقد تقلّد منصب وزير المالية البريطانية ثلاث مرّات، وهو يجهل كل ما له علاقة بالاقتصاد أو السياسات المالية.

لم يغفل دزرائيلي طوال حياته عن الإشارة إلى أصوله اليهودية، وقد أشار إلى ذلك في روايته (تانكرد أو الحملة الصليبية الجديدة) إلى التكامل ما بين المسيحية واليهودية وضرورة إيجاد المشتركات بينهما وتظهيرها، وأنه كان متحمساً جداً لاستعمار المنطقة العربية، وتقاسم أراضيها مع فرنسا، على أن تكون أرض فلسطين من نصيب الحماية الاستعمارية البريطانية، كي تكون بريطانيا قادرة على تأسيس الوطن القومي لليهود، وقد سطع نجم دزرائيلي أكثر في بريطانيا حين اشترى أسهم الخديوي إسماعيل في شركة قناة السويس عام 1875 على مسؤوليته الشخصية، ولكن بأموال آل روتشيلد اليهود الأثرياء، وكان ذلك بداية الاهتمام البريطاني بمصر لتكون واحدة من ولاياتها التي ستستعمرها، وقد ناصب دزرائيلي العداء لسياسات كل الدول التي لم تتعاطف مع اليهود، ومنها سياسة روسيا القيصرية، فقد وقفت بريطانيا ضد الأحلام الروسية في أثناء حربها مع الدولة العثمانية ظناً من دزرائيلي، بل قناعة منه، بأنّ الدولة العثمانية متعاطفة مع المسألة اليهودية، وأنّ الخليفة العثماني يبدي تسامحاً مع اليهود، وهذا الأمر ملموس واقعياً، فقد صدرت الفرمانات العثمانية تترى، وبضغوط غربية قوية، وفي مقدّمتها الضغوط الإنكليزية، بالموافقة على إقامة المستوطنات اليهودية في مناطق متعددة فوق الأراضي الفلسطينية مثل مستوطنة "عيون قارة" التي أقيمت عام 1882، ومستوطنة الخضيرة عام 1893، و"إيليت هاشار " عام 1892. وقد مارس دزرائيلي ضغوطاً هائلة، في مؤتمر برلين سنة 1878، كي  تنصّ قراراته على منح اليهود بعض الحقوق والامتيازات من الدولة العثمانية أيضاً في دول البلقان.

كان دزرائيلي شديد الحماسة لمدّ النفوذ البريطاني إلى المنطقة العربية، وقد كانت البداية الفعلية من خلال شرائه 44% من أسهم قناة السويس المسجّلة باسم الخديوي إسماعيل، وبذلك أغاظ فرنسا الطامعة بهذه الأسهم.

نشرت رواية (تانكرد أو الحملة الصليبية الجديدة) لـ "دزرائيلي" في ثلاثة مجلدات بدءاً من عام 1844 وهي على غير عادة الروايات البريطانية لم تهتمّ بالمجتمع عامة، ولا بالسياسة البريطانية خاصة، بل اهتمت بالحياة الدينية عامة، والتوفيق بين اليهودية والمسيحية خاصة، من أجل خلق تحالف جديد تولد منه كنيسة جديدة.

بطولة الرواية هي للكونت تانكرد، وهو شاب مثالي أراد تتبّع سيرة أجداده الصليبيين ودعا إلى ذلك، أي السير بحملة صليبية جديدة نحو الأرض المقدّسة لأنه غير راضٍ عن العيش في لندن الحديثة، فيسافر (تانكرد) إلى فلسطين كي يتعرّف إلى ( اللغز الآسيوي العظيم) وكي يفهم جذور المسيحية وجوهرها أيضاً، هذا اللورد (تانكرد)، وبينما كان يحضّر نفسه للسفر إلى  القدس، يتعرّف إلى (إيفا) الجميلة، وهي ابنة تاجر يهودي، فتعطيه رسالة توصية، يحملها إلى أخيها بالتبنّي، ويطلب منه المساعدة التي يريدها، وحين يسافر (تانكرد) إلى الشرق، ويلتقي أخاها بالتبنّي، يسأله الأخير عن طبيعة علاقته بـ( إيفا) فيقول له، إنها عشيقته، فيغضب الأخ ويمزّق الرسالة، ويهدّد بالانتقام منه لأنه خدع أخته وغرّر بها، ويشكوه، فيسجن فعلاً، لكنه حين يتأكّد من أنه  لم يؤذِ أخته، ولم يغرّر بها، يوافق على إخلاء سبيله ليذهب إلى  جبل سيناء لأسباب دينية، ولتنفيذ زيارة المكان الذي اقترحته عليه ( إيفا) معشوقته، التي قالت له: إن جبل سيناء هو المكان المقدّس الذي نبعت منه اليهودية، وقد أفرج أخوها عن اللورد تانكرد لظنّه بأن زيارته ستكون رحلة ذهاب إلى جبل سيناء، لا إياب لها، وفي طريق ذهابه إلى جبل سيناء، يرى تانكرد حلماً بأنّ الإله يطوّبه نبياً، وأنّ رسالته النبوية تتمثّل في التوفيق ما بين اليهودية والمسيحية، ويقول له إن  المسيحية نبعت من جبل سيناء أيضاً، وقد آمن تانكرد بذلك، لذلك يرجع  من سيناء إلى أخيها كي يعيده إلى سجنه أو مكان احتجازه، لأنه نال، من خلال هذه الزيارة، ما يريده من الحياة، والحقّ أنه عاد ليرى حبيبته (إيفا)، لأنه رأى حلماً آخر عرف من خلاله أنّ (إيفا) جاءت لتلتقيه في بيت أخيها بالتبنّي، وحين يصل (تانكرد)، يصل منهوك القوى فيقع مريضاً، ومع ذلك يقول لأخيها: ها قد عدت لأكون سجينك، فيظن الأخ أن نهايته حانت، لذلك يعطيه لأخته التي جاءت فعلاً  لزيارته، في أثناء غياب تانكرد في جبل سيناء،كي تمرّضه، لكن تانكرد لم يمت، وراح يتعافى رويداً رويداً، و هو يستمع لآراء (إيفا) التي كانت تحدّثه عن حضارة البحر الأبيض المتوسط، وعن فضل الدين اليهودي على الدين المسيحي، وضرورة تعاونهما، ولأنه فتن بها جمالاً فيما سبق، فها هو يفتن بثقافتها الآن، لذلك يطلب يدها من أخيها، لكن هذا الزواج لم يتمّ لأنّ والدي تانكرد يظهران فجأة ويستعيدانه إلى لندن.

والحق أن دعوة دزرائيلي، في هذه الرواية واضحة جداً، حين أكّد ضرورة الدمج ما بين الديانتين اليهودية والمسيحية من أجل المصلحة العامة، التي أسماها مصلحة الحياة للحفاظ عليها والانفراد بها، وغاية هذا الدمج هو اعتراف الديانة المسيحية بفضل الديانة اليهودية عليها، واكتشاف أهمية الجغرافيا الواقعة على الضفة الشرقية من البحر الأبيض المتوسط، وبيان أمجادها التاريخية والحضارية في آن.

أمّا شخصية دزرائيلي فقد جسّدها اللورد تانكرد المغرم بالشرق، والراغب بمعرفة التاريخ اليهودي، وجذور الديانة اليهودية، وزيارة القدس، والعودة إلى إحياء الحملات الصليبية الجديدة التي بإمكانها إعادة احتلال البلاد الفلسطينية وتسليمها إلى اليهود كي يديروا شؤونها في ظلّ الحماية المسيحية التي قبلت بالاندماج مع الديانة اليهودية، فحالة العشق ما بين تانكرد و(إيفا) هي علاقة من وجهين، هي علاقة اندماج ومماهاة، أو هي علاقة زواج، وأن ما من شيء سيحقّق ما يطمح إليه تانكرد من تفعيل حملة صليبية جديدة إلى الشرق، إلا من خلال الدفق العاطفي الذي ستغمره به (إيفا)، وقد عنى بذلك النفوذ اليهودي المتمثّل بقوة المال من جهة، وبقوة معرفة أسرار الشرق وعظمته من جهة أخرى، وتكشف الرواية في جزئها الثالث عن مقولتها الجوهرية المتمثّلة بأنّ أسرار الشرق هي أسرار (العظمة اليهودية)، وأنّ ما من حضارة عرفت ونمت وتطوّرت في هذا الشرق سوى الحضارة التي أوجدها اليهود!

كلّ هذا الزيف، والكذب، والقفز على وقائع التاريخ، وتصديق الأحلام، جاء في رواية بنيامين دزرائيلي التي كتبها في مجلداتها الثلاثة، وبدأ بنشرها والترويج لها سنة 1844 والتي حدّدت، منذ ذلك  التاريخ، رؤيا دزرائيلي تجاه الأرض الموعودة والوطن القومي اليهودي من جهة، وبداية التفكير بالخطوات العملية الأولى لاستعمار فلسطين من قبل اليهود من جهة أخرى، وحثّ الدول الأوروبية ودفعها إلى مساندة اليهود ومساعدتهم لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، ولهذا يتجلّى السؤال الأهمّ: هل كان الانتداب البريطاني، ومثله الانتداب الفرنسي، في بداية القرن العشرين، هما الحملة الصليبية الجديدة التي كشف عنها العقل الأوروبي من خلال هذه الرواية لاحتلال البلاد العربية مجدّداً، ومنها البلاد الفلسطينية، وإقامة الكيانية الصهيونية فوق أراضيها؟