بين بيوت أدبائنا وبيوت أدباء العالم: حسرة وأسى وعيش في العراء!

إطلالة واحدة على بيوت الأدباء في العالم ستضع معظم الكُتّاب العرب في مقام الحسرة والأسى.. كيف؟

إطلالة خاطفة على بيوت الأدباء في العالم ستضع معظم الكُتّاب العرب في مقام الحسرة والأسى، فهؤلاء يحتاجون إلى عمرٍ كامل كي يستقروا في بيت ما، على سطح بناية أو في قبوها، ولن يحلموا بأن تتحوّل بيوتهم بعد رحيلهم إلى متاحف، كما يحدث في الجزء الآخر من الكوكب. 

ولن يعتني أحد بميراث هؤلاء، بما فيه رفوف المكتبة، فما بالك بالقلم أو الآلة الكاتبة أو مسودات كتبهم! كما أن بعضهم عاش حياته في بيت مستأجر أو في أحد الأحياء العشوائية، عدا فواتير الديون المتراكمة. 

لن نلتفت بجديّة إلى ما قاله غاستون باشلار، في "جماليات المكان"، وذكر فيه أن "البيت ليس مجرد فضاء، إنه حالة روحية". ففي غياب الفضاء، و"غرفة تخصّ المرء وحده"، لا مكان للروحانيات وطقوس الكتابة ومزاج المبدع، كما لا وردة صفراء فوق طاولة الكتابة، كما تفعل إيزابيل ألّيندي لجلب الإلهام. 

شخصياً، كتبت معظم رواياتي على طاولة المطبخ ترافقني "موسيقى عربة القمامة" عند منتصف الليل، لا وقع موسيقى فاغنر في الصالون، كما كانت تفعل فيرجينيا وولف، وهي تشرب الشاي، وتتأمل البحيرة التي تحيط بمنزلها. ستحضر أمامي صورة الشاعر العراقي، أحمد الصافي النجفي، الذي أتى الشام من النجف لاستنشاق عبير بساتينها، بحسب ما نصحه طبيبه، لكنه سينتهي إلى غرفة مستأجرة يقول عنها: 

أكافح البرد في سراج 

يكاد من ضعفه يموت

في غرفة ملؤها ثقوبٌ 

أو شئت قل ملؤها بيوت

يسكن فيها بلا كراء

 فأرٌ وبقٌّ وعنكبوت

وسيباع البيت، الذي وُلد فيه نزار قباني في حي مئذنة الشحم الدمشقي، لأحد الأثرياء من دون أن يتحوّل إلى متحف، والأمر ذاته حيال بيت رائد المسرح العربي، أبي خليل القباني، الذي بات حطاماً مهجوراً بلا سقف في انتظار استثماره كمطعم سياحي! أما بيت الشاعر اللبناني، الأخطل الصغير، فتمّ هدمه واستثماره مرأباً للسيارات، والفجيعة نفسها بالنسبة إلى البيت والقبر لطه حسين في القاهرة! 

في المقلب الآخر

في الكتاب المصوّر" أين كانوا يكتبون: بيوت الكتّاب والأدباء في العالم"، سنتعرّف عن قرب إلى بيوت فخمة شهدت ولادة أعمال أدبية خالدة بتواقيع كتّاب، مثل: جان كوكتو، ولورنس داريل، ووليم فوكنر، وارنست همنغواي، وهيرمان هيسه، وفرجينيا وولف وآخرين. 

الفكرة راودت الصحافية الإيطالية فرانسيسكا بريمولي - دروليرز، والمصوّرة إريكا لينارد، فجالتا أوروبا، والولايات المتحدة، والهند، لتسجيل انطباعاتهما بالكلمة والصورة عن بيوت 20 كاتباً، تحوّل بعضها إلى متاحف بعد رحيل أصحابها.

في تقديمها للكتاب، تشير مارغريت دوراس إلى أنها ابتاعت بيتها في ضواحي باريس مما حصلت عليه من حقوق كتابة سيناريو فيلم "جسر على المحيط الهادئ"، ثم عاشت عزلة كاملة لكتابة رواياتها. "أظن أن هذا البيت هو الذي أوحى إلي بالكتابة"، تقول. 

بالقرب من كنيسة سان بلاز ليسامبل الباريسية، يرقد جان كوكتو (عام 1963)، بينما بقي الزمن معلّقاً في بيته المجاور، كأن صاحبه لم يغادره قط. كتابات ورسوم على الجدران، ومكتبة تحتشد بالكتب والأوراق والمخطوطات، ولوحات لصديقه الحميم بابلو بيكاسو. السرير مكسو بقماش شحب لونه بسبب ضوء الشمس، وفي الصالة المجاورة لغرفة نومه يرقد ديك محنّط، وأريكة عتيقة اعتاد الشاعر الجلوس عليها. بالنسبة إلى كاتب جوّال، مثل لورانس داريل، تبدو الأمكنة مجرد ذكريات عابرة، فصاحب "رباعية الإسكندرية" لم يستقر في مكان إلى أن استهواه أخيراً بيت عتيق في الجنوب الفرنسي. هناك شعر بحميمية الجدران ورحابة حديقة المنزل، فانكب على الكتابة والرسم إلى آخر يوم في حياته (عام 1990).

بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1949، أضحى بيت وليام فوكنر في الجنوب الأميركي مزاراً للفضوليين على أمل رؤية صاحب "الصخب والعنف" يتمشى في الممرات المكتظة بشجر الصنوبر، لكنه كان يهرب من زواره ويتجنب رؤيتهم. وعلى رغم ذهابه إلى هوليوود لكتابة سيناريوهات للأفلام، فإن شغفه في الجنوب تفوّق على ما عداه. 

هناك انطفأت شمعته الأخيرة (عام 1962) وبقي منزله صامتاً مسكوناً بأشباح الماضي، بظلاله وأسراره ومشهد حزين "من القناني الفارغة المصطفة تحت المدفأة، وكلمات لا تزال تتنفس فوق جدران مكتبه". 

سيضيع زائر مزرعة الروائي النرويجي، كنوت هامسون، بين 8 هكتارات من الأشجار، وعشرات الغرف. إذ تمكن هذا الرجل المتشرد من أن يحقق حلمه بأن يكون كاتباً، وكانت روايته "الجوع" طريقه إلى الثراء والشهرة، فهو لم يتردد في اقتناء كرسي لويس السادس عشر، لكنه كان يفضّل أن يخلو بنفسه داخل كوخ بناه في حديقة قصره في "نورهولم". هكذا عاش هذا الكاتب 90 عاماً من التشرد والبهجة والاضطراب النفسي، ومات في مكتبته (عام 1952)، بعد أن أنهى روايته الأخيرة "على الطرقات تنمو الأعشاب" محاطاً بكتبه وصورتين، واحدة لغوته، والثانية لدوستويفسكي. 

من جهته، اختار أرنست همنغواي قرية "كي ويست"، أبعدَ نقطة في المحيط الأطلسي، كي يستقر فيها، بعد تجواله الطويل في أوروبا. بناء مطلي بالأخضر والأزرق، وملحق بسلالم خصصه للكتابة. في هذا البيت كتب صاحب "وداعاً للسلاح" مسودات روايته "لمن تُقرع الأجراس". كان همنغواي يفضّل الكتابة واقفاً بالقلم الرصاص، بينما يستعمل الآلة الكاتبة في كتابة الحوار بين الشخصيات. مشاجراته مع زوجته قادته إلى هجران هذا البيت والرحيل إلى هافانا، لكن منزل "كي ويست" ظل يعبق بروح الكاتب، فهناك على الدوام من يرغب في البحث عن أسطورة بابا همنغواي في ثنايا ذلك المنزل. 

على تلال مونتانيولا في الهند، ما زال بيت كاسا كاموتسي يقاوم الزمن. ففي هذا البيت عاش الكاتب الألماني هيرمان هيسه حقبة من حياته، ليستفيق من "كابوس طويل"، وفقاً لما يقوله، فهو أحس بانجذاب نحو هذا القصر منذ أن شاهده أول مرّة. 

هكذا هجر عائلته وتفرّغ للكتابة. هنا كتب "سيد هارتا" المستوحاة من الفلسفة الهندية، و"ذئب البوادي"، و"الصيف الأخير لكلينكسور". كان هيرمان هيسه اختار الطابق الثاني للكتابة، بينما كانت تحضر الآنسة كاموتسي للعزف على البيانو في غرفة مجاورة خلال استغراق كاتبنا في تسطير أعماله، بسريّة تامة، ومن دون توقّف. وحين يقرر أن يرتاح من الكتابة، يستلقي عارياً تحت أشعة الشمس على الشرفة مختفياً عن الأنظار، ثم يعود ليتمشى في الغابة. 

من يشاهد الحديقة التي تحيط ببيت فرجينيا وولف في رودميل فلن يستغرب تلك النبرة الرومانسية التي توشح سطور رواياتها، لقد عاشت هذه الكاتبة في عزلة هانئة، بعيداً عن مناخات الحرب. في هذا البيت أثثت غرفة كتابتها باللون الأخضر، وأبدعت معظم أعمالها، وكانت كلما نشرت رواية من رواياتها، تضيف تحسينات جديدة إلى بيتها. في رسالة كتبتها إلى إحدى صديقاتها "سيكون لنا مرحاضان، الأول دُفعت تكاليفه من رواية "مسز دالاوي"، والآخر من رواية "كوميت ريدر"، ومن رواية "الأمواج" سأجهّز بيتي بالكهرباء". 

لم تتوقف انطباعات فرانسيسكا بريمولي هنا، بل زارت بيوت كتّاب آخرين، مثل سلمى لا جيرلوف، وألبيرتو مورافيا، وديلان توماس، ومارك توين، في رحلات استعادت خلالها أزمنة مغايرة، كان زاد الكتّاب فيها، الريشة، والمحبرة، والغليون، والآلة الكاتبة، والمخطوطات الأصلية التي لا تزال ترقد فوق مكاتبهم.

تُرى، ماذا ستكون الحصيلة، لو كان هذا الكتاب مخصصاً لبيوت الكتّاب العرب؟ بيوت بالأجرة، ومكتبات تُباع على الأرصفة، وديون متراكمة، وكتب مكدّسة في المستودعات!

كان الروائي خيري شلبي يكتب في المقابر. وأعرف كاتباً مغموراً، كانت زوجته تطرده من بيتهما حين يأتيه الإلهام، فيضطر إلى استئجار غرفة في فندق متواضع لليلة واحدة.