جلجلة الأسئلة في "من مسافة صفر"
يبحث علي الرفاعي أو يحاول صنع مسافته، من خلال تعزيز فكرة اندماجه في هذا الواقع الذي يثير في نفسه حيرة الذات وقلق الوجود.
يبدأ الشاعر اللبناني علي الرفاعي أزمته الوجودية في نصوصه الشعرية التي ضمتها مجموعته الشعرية، من أول العنوان "من مسافة صفر" (دار فكر للأبحاث والنشر). فالمسافة هي كم مقطوع بين شيئين، وفاصل بينهما، وتحتاج هذا الكم لتتكون وجودياً، ثم يأتي (الصفر) ليعطل الدال المتشكل في ذهن المتلقي، لما يحمله من خواص كونه من جهة هو عدد اللا قيمة في استقلاليته، وهو غير المحدود والفراغ في اللا شيء، وكذلك كونه عدداً محايداً في الجمع بالنسبة إلى الأعداد الأخرى.
لكن (الصفر) نفسه نجده يختلف في أنظمة القيم المكانية، فهو (عدد) متحكم بالأعداد، وتتغير قيمته كلما تغيرت مرتبته، فتزداد أو تنقص، فقد يمثل هذا الصفر موقع الشاعر في الحياة أو منها، فهو محايد في وحدته وعزلته، ومتحقق في اندماجه بواقعه.
هو يبحث أو يحاول صنع مسافته، من خلال تعزيز فكرة اندماجه في هذا الواقع الذي يثير في نفسه حيرة الذات وقلق الوجود، لكنه لا يقطع هذا التفاعل بل يصر عليه، وهذا ما تحقق من التذييل الذي رافق العنوان الرئيس لمجموعته الشعرية "محاولة أخرى"، فهذه التكرارية الأبدية لمحاولة الشاعر في تحقيق مسافته من الوجود والحياة ونفسه شكلت بؤرة العنوان البعيدة التأويل والتحليل.
المسافة، تحتاج إلى كم مقطوع بين شيئين، والصفر لا يمثل قيمةً في عزلته مهما اختلف موقعه، بل يمثل قيمةً في اتحاده مع رقم آخر، وباختلاف مكانته، ومحاولة أخرى، تكرارية تؤكد الاستمرارية والإصرار والتفاعلية.
وفي قراءة أخرى، قد تمثل مسافة الصفر هذه التصاق الشاعر بشيء لا يستطيع الفكاك منه أياً كان هذا الشيء، وأياً كان تأثيره فيه سلباً أم إيجاباً، إلا أنه يعبر عن هذا الالتصاق، والالتحام الأبدي الذي تحقق من اللا قيمة للصفر، وتكرارية انعدام المسافة بينه وبين شيئه.
ثم يأتي الإهداء الذي حاول الشاعر فيه الإيهام بأنه موجه إلى قراء مستحيلين/"إلى الذين لن يتمكنوا من قراءة هذا الكتاب..."، وترك مسافةً بصريةً تدل على كلام مقطوع أو معنى مفتوح للقارئ كي يكتشفه من خلال النصوص في هذا الكتاب، فهو لم يقل ديواناً أو مجموعة شعرية، كأنه قبض على كل أسئلته وحواراته ومحاولاته في كتاب وما تمثله دلالاته.
وفي رؤية مغايرة قد تحيل هذه الجملة الخطابية الموجهة إلى أن كتابه غير موجه إلى نوع من القراء لن يستطيعوا فهمه، لأنه لا يشبههم ولا يعبر عنهم، وإن قرأوه لن يتمعنوا في قراءته بالمعنى الحقيقي للقراءة.
ثم قال "إلى الضحايا"، وهنا تحتمل الكلمة معنى مزدوجاً، فربما يراهم هو (الضحايا) لأنهم سيعرفون ما عرفه، ويعيشون ما عاشه، ويحيرون بأسئلته وقلقه الوجودي، وربما هم فعلاً (الضحايا) عرفوا ما عرفه، وعاشوا ما عاشه، وقضوا أعمارهم في الحيرة والقلق، فأردف "ضحايا كل شيء"، ففي الأولى أتت معرفة بـ(أل)، لكنها غامضة ومجهولة، وفي الثانية معرفة بالإضافة واصفة لاشتمال كونهم ضحايا كل شيء.
ثم أكمل "في هذه المزق / التي نسميها تحبباً "بلادنا""، ويكمن التناقض هنا في (المزق) و(بلادنا)، وهي عتبة تعطي أزمة الشاعر في علاقته بالوطن بعداً، وفلسفته في الانتماء التي قد نحيلها إلى العنوان الرئيس للمجموعة "مسافة صفر"، فهو مغترب في تناقضه الأزلي الذي يشكل صراعه الوجودي بين الانتماء المكتمل القيمة، والانتماء الفاقد قيمته أو شكله المتحقق، فهذه البلاد يربطه بها فعل التحبب المختلف بالطبع عن الحب، ويحمل مكابدة وصراعًا ليتحقق، وعلى الرغم من ذلك فهو يلصق انتماءه بالبلاد، والعكس كذلك.
ونلاحظ أن يرى تحقق وجوده من خلال هذه البلاد، فقال "التي نسميها"، ولم يقل مثلاً "التي تسمى"، خصوصاً بعد أن سبق هذه الجملة بـ"هذه المزق" وصفًا لحال البلاد، فأسند الفعل إلى الفاعل، ولم يستخدم صيغة المبني للمجهول التي تعطي عموميةً أكثر في فعل الفعل، ومساحةً أكبر للفواعل، وهذا الإسناد يحيل إلى خصوصية الـ(نحن)، وقد يحيل إلى "الضحايا" أو "ضحايا كل شيء".
وتقسم المجموعة الشعرية الحاصلة على "جائزة أنطون سعادة الأدبية" في دورتها الأولى ،تقسم - أو كما يسميها الشاعر الكتاب - إلى 8 أقسام تناصت مع العنوان الرئيس "من مسافة صفر"، فحقق إيقاعاً بصرياً متماثلاً من خلال هذا التكرار، لكنه حقق إيقاعاً دلالياً مختلفاً من تذييل العناوين الفرعية الذي يحقق توازيًا عند وضعه في مرتبة واحدة مع "محاولة أخرى":
العنوان الرئيس: "من مسافة صفر ... محاولة أخرى"، والعناوين الفرعية: "من مسافة صفر ... إليها"، "من مسافة صفر ... جنوباً"، "من مسافة صفر ... أمام المرايا"، "من مسافة صفر ... فوضى"، "من مسافة صفر ... إلى الطف"، "من مسافة صفر ... قبل أن يأتي النهر"، "من مسافة صفر ... نقر سريع على سقف البال"، "من مسافة صفر ... خطوة أخيرة، وما قبلها".
وكل قسم من هذه الأقسام يحوي عناوين فرعيةً أخرى، وعدداً من النصوص يختلف من قسم إلى آخر، ويتناول موضوعات وقضايا وجوانب من وجدان الشاعر تبعًا لتذييله.
ففي القسم الأول مثلاً، نجد القصدية متجهةً إلى أنثاه/الحبيبة أكثر من البلاد التي تحيل إليها "محاولة أخرى"، وكأنه في كل مرة يذهب بها إلى شؤونه تطلع له البلاد "من مسافة صفر"، ويحيل بـ "إليها" هنا إلى دفء الحبيبة وحميمية الانتماء إليها، ومدى اطمئنانه وارتكانه إلى استيعابها واحتوائها لكل وجوده.
يقول في إحدى القصائد:
ينوء بحمله الخطوات دون هدىً
فمن أرق ...
إلى أرق ...
إلى أرق ...
إلى أرق ...
وحين عبرت _حافيةً_ زجاج الخافق المكسور
ويقول في موضع آخر:
تمرين في البال
يخضر ليل الكمنجات
تمرين في البال
كفي نبي
على رأس أيتام هذا المدى
وتعويذةً من ندى .
ويتماهى الشاعر مع الأسئلة التي يضعها كمفتاح صغير في آخر النص، ليعيد القارئ دخوله في النص مرةً أخرى محملاً بالسؤال الذي يطل حائراً أمام انسياب الشاعر في الذكريات حيناً، وفي الحاضر حيناً آخر:
وأذكر كنا ننام صباحًا
ونصحو صباحًا
ونطوي الليالي على ألف حلم
وأذكر حقا.
وأذكر جداً ...
فهل تذكرين؟
**
ما الأرض؟
ينبجس السؤال كغصة لم تنتظرها
كانفجار .. صدمه
ما الأرض؟
وفي القسم الثاني مثلًا، يعبر الشاعر عن انتمائه الجغرافي والتاريخي الملتصق بجهة الجنوب، وهي الجهة التي تحمل عبق الثورات والتمرد على الظلم والطغيان، ويتحدث عن الوطن والمسافة التي تلصقه بالقلب، والمسافة التي تبعده في العقل، والصراع الأزلي على البقاء في هذه البقعة الجغرافية المقدسة:
عزف لهافانا الحزينة
للواحة الحمراء في صحراء كولومبس
**
عزف لكوبا
وهي تنثر خطوها
حبات قمح في الطرق.
وفي القسم الرابع أيضاً، يكشف الشاعر عن المسافة بينه وبين ذاته، ويعبر عن صورته الداخلية التي تظهر من خلال مراياه، وهنا تمثلت هذه المرايا باللغة والكلمات:
أنا العدمي في طور التأني
أخاف أقول أني، بيد أني
أنا المعنى الذي جاوزت حدي
وجاوزت الغناء، أنا المغني
أنا العبثي، أهرم بانتظاري
وغودو ليس يأتي بئس ظني.
وفي القسم الخامس أيضاً نجده يعبر عن فوضى الأقدار، وفوضى الحياة، وفوضاه أمام هذا التشتت، ويصفه من خلال رؤياه:
تحت أنقاض بيت تهاوى
أرمم في روحي البسملة
وفي موضع آخر يقول:
يراودني الشك
أينك يا رب من كل هذا الجنون؟
وكيف تركت الطريق يسير وحيداً إلى هوة في الظنون
وفي كل هذا لا تغيب ظلال غربة الشاعر البعيدة والوجودية، والتفتيش المضني والصوفي عن تماه يخلصه من الحيرة والقلق والحنين إلى كل من الوطن والحبيبة:
بحر يفتش عن مداه
صوت يفتش عن صداه
كل يفتش عن أناه
وأنا أفتش مثل دوري عجوز عن إله.
وهنا يكمن التماهي والتماثل من التوازي الذي تحقق بين الشاعر الذي وصف نفسه بالدوري، وبين البحر والصوت والكل، ولكل واحد شيء من ذاته يفتش عنه، وأتى متوازياً مع تفتيش الشاعر عن إله، فهو موجود في داخله، وهو امتداده وصداه وأناه، وهو الطائر المقيد بحريته في هذه الرحلة الطويلة التي تلاشت فيها البدايات والنهايات، وتحولت إلى مسافة معدومة ولا نهائية في الوقت ذاته.