"جمال سلبي" لمنصور الهبر: تجريد يعاند الواقع
لعب الهبر لعبته الفنية بحُريّةٍ مطلقة. لم يتردّد في التعبير عن ذاته كيفما شاء، أحياناً متحديّاً المشاهد المحتمل للوحاته، وأحياناً يذرّ ريشته في عين مشاهده، مستفيداً من صيغة "يحقّ للفنان ما لا يحق لغيره".
-
الفنان منصور الهبر بين لوحات معرضه
معرض إشكالي يستضيفه غاليري "Art 56th" للفنان اللبناني منصور الهبر (1970)، يجمع بين مواصفاته العديدة تناقض إيحاءاتها على مستويات مختلفة، أولى التناقضات تكمن في عنوانه "جمال سلبي"، طارحاً علامة استفهام عن مغزى سلبية الجمال، وإطاره اعتماد التجريد المطلق في كل الأعمال التي تزيد على الثلاثين.
تناقضات متعددة تشكل الخيط الرابط لأعمال الهبر فيما بينها، وهي تناقضات لاعفوية، مقصودة، متحديّة، وقد تكون مستفزّة.
لعب الهبر لعبته الفنية بحُريّةٍ مطلقة. لم يتردّد في التعبير عن ذاته كيفما شاء، أحياناً متحديّاً المشاهد المحتمل للوحاته، وأحياناً يذرّ ريشته في عين مشاهده، مستفيداً من صيغة "يحقّ للفنان ما لا يحق لغيره".
ويقول عن تعارض مضمون عنوانه "جمال سلبي" إنّه "للتأكيد أن الجمال ليس هدف الفن لا من قريب ولا من بعيد مع أن "الجمالية في الفن، بنظره، تعني "علم الجمال "، أي المضمون أو القيمة الفنية من خلال "الجمالية"، في كلامه لـــ"الميادين الثقافية".
في جولة سريعة، نسبياً، بين اللوحات في أروقة الغاليري، وغرفه التراثية، يشعر المشاهد إنه يعبر بين لوحات متكرّرة في مشهدية واحدة، وفي الوقت عينه، إنه في خضم أعمال عشوائية، متضاربة، مضطربة، لكن بتراتبية، وترتيب مقصودين، لا عفويين.
تناقض
اللوحات شبيهة في توزيع الأشكال، والألوان، المائلة إلى الزهو، والإنارة، والألوان المتناقضة بين أقصى العتمة وأقصى الإضاءة. والأشكال ليست موحّدة، لكنها متقاربة إلى حدود التماثل، لدرجة أن المشاهد يستطيع أن يرى اللوحة بالمعنى، والانطباع عينه حتى لو كانت معلّقةً رأساً على عقب.
من إشكاليات الأعمال أن يرى المرء فيها حقيقة واقعية، بينما هي، حقيقةً، غير واقعية، كأنك أمام أشباه أناس، أو أجزاء منهم، بينما لا يظهر شيء من انسان فيها. في وهلة تكاد ترى حركة، أو مشهداً متفاعلاً، وفي التركيز، هي جامدة، لا حياة فيها. لعبة جريئة اعتمدها الهبر، بحنكة المجرّب، والمختبر، والذي يعرف ما يريد.
يقول: "الفن هو نفي الجمال كهدف"، مردفاً أن "الفن هو ابن التأزّم، والتجريد هو تجربة حادّة وخطيرة".
التجريد
أمّا لماذا التجريد، فيرى أن "التجريد هنا هو صدمةٌ وحيرة في الفن"، ومع إدراكه لتلك النظرة للفن، يوغل في ممارستها لأنه، بنظره، "الفن هو خطابٌ مُحَدّدٌ في الزمان والمكان، وهو لا ينفصل عن الحياة المعاشة"، مستنتجاً أن "الفن والمجتمع كإشكالية هو الشغل الشاغل للفنان".
إشكالية جديدة تبرز في مفهوم ترابط الفن والمجتمع، تفرض على الفنان الإيغال في التأزم، بلوغاً لــــ"نفي الفن كملهاة"، لأنه بذلك يصبح "عملاً وهميّاً ينفصل به عن المجتمع ككابوس من المخاطر".
والتجريد يبدو في لحظة نقيض الواقع، أو فارغاً من واقعيته، لكنّه مع الهبر، شديد الالتصاق به، وبرأيه، "ما نظنّه فَصْلٌ (بين التجريد والواقع) هو الأخذ بالواقع، والدفع به إلى أقصاه ويحسم أن "التجريد هو بقايا الواقع وأثره، كما إنه نفي الصورة، والشكل، والحكاية".
يترابط الفنان مع واقعه. يتحسّسه. يرسم ما يشعر به، وليس دوماً ما تراه عينه مباشرة، فلا غرابة أن يرسم أشباه أشلاء، وبقايا أعضاء بشرية متوزّعة، ومبعثرةٍ، تلمحها ولا تراها في أعمال الهبر، متماهية بين الأشكال، والخطوط، حيناً الحادّة، وحيناً آخر مغبّشة.
ولا عجب أن تشير اللوحة إلى فوضى، أو انتظام حركة في آن، لأن الهبر يرى في الفن تعبيراً عن الواقع، والواقع الذي نعيش لا يختلف اثنان على تشظّيه، وتبعثره، لكن يرتصف في لوحات الهبر بانتظامية متكرّرة، تضع الرائي في متاهة، وحيرة سؤال.
برأيه، "الفن ليس جسر مصالحة بينه وبين الناس، بل سؤال يقضّ المضاجع ليزيد الطين بلة، وليس لنسيان الواقع الاجتماعي لإنساننا اليوم".
وبين واقعية ما يريد الهبر قوله، وواقعية الواقع غير المنسجمة، وغير المنطقية، يلجأ الفنان إلى التجريد، لأن التجريد بحسب الهبر، "هو غياب الموضوع، والموضوع قد يكون جسر عبور من الفنان الى المشاهد لتسهيل المهمة الفنية في معظم الأوقات".
الفوضى الواقعية في اللوحات تصل بالفنان لأن يفقد الصلة بينه وبين المشاهد، من دون فقدان بقايا، أو آثار للانسان: "هذا الجسر تم نفيه في الأعمال الفنية، وبقيت آثار ومواد ترجع للانسان والارض"، يقول الهبر.
فصل وترابط
في اللوحات جدليّة الفصل والترابط، الفصل بين الواقع واللوحة، وبين المتخيّل المأمول، والواقع الأليم، والترابط مع المفترض أن يكون. لذلك، يحاول الفنان أن يلجأ إلى تسوية فنيّة، تجمع على طاولة البحث، والصراع، واقعية التجريد، وتجريدية الواقع.
كثيرون لجأوا إلى تسوية من هذا النوع بين التجريد وسواه، وبحسب الهبر "نعم، هناك تسوية دوماً، ففنّان كوليم دو كونينغ أو أسجر جورن، أو حتى جورج بازيلتس خلطوا الواقع مع التجريد إن جاز التعبير".
السؤال المطروح، متى تقع التسوية، "يصبح ذلك ضرورة عندما يكون الفنان بحاجة الى التخطي والدخول في معترك فني أكثر صعوبة"، على ما عبّر الهبر به.
ونظراً للنزعة الالتزامية بين الفن والواقع، ودوره في التأثير بالمجتمع، يخلص الهبر إلى أن "المعرض لم يكن هدفه الإراحة بل أن يكون صدمة و سؤال".