خطاب الكراهية المُعَوْلَم
استخدام خطاب الكراهية لتعبئة الناس عن طريق إثارة مشاعر الخوف والغضب تجاه "الآخر"، لا يقلّ خطورة عن استخدام السلاح. فالرصاصة تقتل شخصاً، لكنّ الكلمة قد تتسبّب بقتل الملايين.
لم تتمالك النجمة الأميركية المكسيكية الأصل، سيلينا غوميز، نفسها وأجهشت بالبكاء وهي تنتقد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب ترحيل اللاجئين من الولايات المتحدة. وما أن انتشر الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي حتى انهال عليها أنصار ترامب بالسباب والشتائم ما اضطرها إلى مسح الفيديو عن صفحاتها الخاصة.
حادثة قد تبدو عادية في نظر البعض؛ نظراً لما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من آفات وسلبيات، لكنها مؤشر على الدرك الذي بلغه البعض ممن أدمن خطاب الكراهية والعنصرية حتى صار يستنكر دمعة تُذرف على مساكين اضطرّوا إلى ترك أوطانهم؛ بحثاً عن "حلم أميركي" غير موجود إلا في مخيّلة أصحابه.
لقد أصبح خطاب الكراهية ظاهرةً منتشرةً في مختلف المجالات، خصوصاً في السياسة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا الخطاب لا يقتصر على مجرد كلمات تُقال أو تُكتب، بل له تداعيات خطيرة على الأفراد والمجتمعات، إذ إنه يعمّق الانقسامات، ويُغذي العنف، ويُضعف التماسك الاجتماعي. لذلك، من الضروري فهم مخاطره واتخاذ خطوات جادّة للتصدي له واستبداله بخطاب إنساني عقلاني يعزز القيم الإيجابية ويبني جسور التفاهم بين الناس.
خطاب الكراهية هو أي تعبير لفظي أو كتابي أو رمزي يُستخدم لنشر الكراهية أو التحريض ضد فرد أو مجموعة، بناءً على انتمائهم العرقي أو الديني أو السياسي أو الاجتماعي، والطامة الكبرى أن هذا الخطاب لا يصدر فقط من عامة الناس أو من الرعاع والجهلة، بل يتفوّه به قادة ومسؤولون كبار مثل ترامب الذي لم تخلُ حملاته الانتخابية من بث الكراهية والعنصرية والتنمّر تجاه خصومه، وتجاه شرائح واسعة من الشعوب والبشر، مثلما لا تخلو سياساته من انحياز فاضح للظالمين ضد المظلومين، وللطغاة ضد المضطهدين.
استخدام خطاب الكراهية لتعبئة الناس عن طريق إثارة مشاعر الخوف والغضب تجاه "الآخر"، سواء كان ذلك الآخر حزباً سياسياً معارضاً أو جماعة عرقية أو دينية مختلفة، لا يقلّ خطورة عن استخدام السلاح. فالرصاصة تقتل شخصاً، لكنّ الكلمة قد تتسبّب بقتل الملايين.
هذا الخطاب الممجوج لا يقتصر على الساسة ومنابرهم، بل تساهم فيه وسائل إعلام كبرى من خلال نشر الأخبار الكاذبة أو الصور النمطية التي تعزز النظرة السلبية إلى فئات معينة. أما وسائل التواصل الاجتماعي، وبفعل طبيعتها التي تسمح بالتفاعل السريع والمجهول، فإنها تُسهّل انتشار خطاب الكراهية بشكل واسع وسريع، إذ إن خوارزمياتها مبرمجة (على ما يبدو) على إبراز الخطاب السلبي أكثر من الخطاب الإيجابي.
من نافل القول إن خطاب الكراهية يعمل على تقسيم المجتمع إلى فئات متناحرة، ما يُضعف الوحدة الوطنية ويُهدّد الاستقرار الاجتماعي. وقد يؤدي التحريض المستمر عبر هذا الخطاب إلى أعمال عنفية، كما حدث في العديد من الحالات التي تحوّلت فيها الكلمات إلى أفعال عدوانية ضد الأفراد أو الجماعات في أكثر من مكان.
ولنا في لبنان "خير مثال" على كيفية استخدام وسائل التواصل لبثّ خطاب الكراهية ضد فئات بعينها، وعلى ألسنة ساسة وإعلاميين يفترَض أنهم من "النخب"، حتى وصل الأمر بالبعض إلى التمني لو أن العدوان الإسرائيلي الأخير أباد شريحة كاملة من الشعب اللبناني!
أمام مخاطر هذا الخطاب الكريه، لا بدّ من العمل على سنّ قوانين صارمة تجرّمه، وتضمن محاسبة من يروّج له، مع الحفاظ على التوازن بين حرية التعبير المقدّسة وحماية الأفراد من التحريض ونتائجه الخطيرة والبشعة، وعلى وسائل الإعلام أن تتحمّل مسؤوليتها في نشر خطاب إيجابي يعزّز القيم الإنسانية، ويتجنّب التضخيم الإعلامي للأخبار التي تثير الكراهية. مثلما يجب تعزيز الوعي بمخاطر خطاب الكراهية من خلال بثّ برامج تربوية وتثقيفية تُعزّز قيم التسامح والتفاهم بين مختلف فئات المجتمع.
بدلاً من خطاب الكراهية، يجب العمل على تعزيز خطاب إنساني عقلاني يقوم على الاحترام المتبادل والحوار البنّاء. خطاب يعترف بالتنوّع كقوة إيجابية، ويعمل على بناء جسور التواصل بين المختلفين. يمكن تحقيق ذلك من خلال: تعزيز الحوار بين الثقافات، تشجيع اللقاءات والنقاشات بين أفراد من خلفيات مختلفة لتعزيز التفاهم المتبادل، التركيز على القيم المشتركة التي تجمع البشر مثل العدل والمساواة والكرامة الإنسانية، وإعطاء مساحة أكبر للأصوات التي تدعو إلى التسامح والحوار، بدلاً من التركيز على الأصوات المتطرّفة التي تصبّ الزيت على نار الخلافات الطائفية والمذهبية، وتساهم في زيادة التصدّعات والتشظيات الاجتماعية.
لكن، ما الحل إذا كانت الحكومات نفسها، والشركات العملاقة المالكة للمنصات الرقمية هي مَن تساهم في بث خطاب الكراهية، وتمارس سياسة الحجب والمنع والإقصاء ضد أمم وشعوب وقوى وأفراد يرفضون هيمنة القوى العظمى ويناهضون السياسات الاستعمارية بأوجهها المختلفة؟
الرهان هنا على النخب الواعية في السياسة والثقافة والإعلام. النخب المدركة لمخاطر هذا الخطاب وأثره الكارثي على وحدة الأوطان والمجتمعات، علّها (النخب) تنأى عن خطاب الكراهية والبغضاء والتطييف والتمذهب، وتساهم في بث خطاب إنساني عقلاني يحترم حق التنوّع والاختلاف ويرفض منطق الهيمنة والإلغاء، وينحاز لحق الشعوب في الحرية والاستقلال بكل ما تعنيه كلمتا حرية واستقلال، لأن الاحتلال اليوم لم يعد يقتصر على الجانب العسكري والأمني، بل أصبح متعدد الوجوه والأذرع والأشكال.
الرهان، كل الرهان، على ولادة تيارات إنسانية تنويرية تكبح عجلة الانحدار المريع الذي يصيب البشرية، وتعيد للسياسة والقيادة بعضاً من جوهرهما الإنساني ومعناهما المنتصر لقيم الحق والعدالة والمساواة، كي لا يكون ترامب وَمَن على شاكلته هم النموذج والمثال.