ذات ليل من حرب تموز
تجمّدت مكاني وأنا أراها تبوس الأرض، ثمّ تمرّر كفّيها على الورق وتمسح وجهها، تبرّكاً بوقع أقدامنا عليها.
ذات ليل من حرب تموز أو تلك الليلة التي عرّش المجد فيها على جبينها العالي وهي تنحني لتبارك وتتبرّك بوقع أقدامهم المعفّرة بالتراب، والتي أدمتها الحجارة والأشواك والشوق بالوصول إلى الهدف المبتغى.
***
عندما أسدلَ الليل ستائره السوداء اعتقدت جازماً أنّه يظلّلنا، يخاف علينا خلال تنفيذ مهمّة الانتقال مشياً على الأقدام إلى مدينة بنت جبيل الشامخة في وجه هذا العدو المتغطرس، فالكلّ يعلم أنّ طائرات الاستطلاع لا تغادر سماءنا إلّا قليلاً، والطيران الحربيُّ، حامل الموت والدمار، يصدر أصواتاً قويّة خلال عبوره الأجواء؛ غير أنّني ورفيقي المكلّف معي بتنفيذ المهمة كنّا مسرورين بهذا الظلام الشديد، مع أنّه لا يكفي لوصولنا سالمين، لأنّ طائرات الاستطلاع مزوّدة بمناظير ليلية تكشف أيّ جسم متحرّك على الأرض.
اتخذنا الحذر الشديد الذي يتطلّب الاستعانة بالشجر ساتراً، وبالتوقّف عن المشي لدى سماعنا ذلك الصوت المشؤوم الشبيه بالمثقب الذي تصدره طائرة الاستطلاع في هذه الأجواء المشتعلة بالنار والبارود. إنّها الحرب، وعلينا اكتساب الوسائط الضامنة لنا الحماية والنجاة من آلات الرصد الصهيونية المتطورة، فأخذنا نستعين على الانتقال ليلاً بمنظار، فضلاً عن اختيارنا المسالك الوعرة البعيدة عن الطريق العام المراقب على الدوام.
وصلنا إلى بلدة كونين منهكين كثيراً، قلْ هدَّنا التعب، فالسير على الحجارة والأشواك وأغصان الأشجار الكثيفة التي ضربت رأسينا وجسدينا مرّات عديدة، فأصابتنا بجروح أمر عسير، وعلى الرغم من الفسحة التي نعدّها ذهبيّة نسبة إلى غياب الطائرة فقد قررنا الفوز باستراحة قصيرة تحت شجرة ضخمة، أعتقد أنها توتة معمِّرة في حديقة بيت قديم.
فجأة، صدر صوت نداء عالٍ مصدره جهاز رفيقي اليدوي الذي أفلتت سماعته لدى ملامسته إيّاه خطأً، فعاجل بإقفاله، مخافة اكتشاف أمرنا، وتحديد موقعنا.
مضت لحظات قليلة انفتح بعدها باب البيت. فاتخذنا وضعيّة القتال لعلمنا أنّ السكان مغادرون هذه البلدة الحدوديّة الشاهدة على معارك شرسة تُخاض بيننا وبين فرق جيش العدو على مشارف بنت جبيل وجوارها، وبينما نحن في جاهزيّة قتاليّة تامّة سمعنا صوت امرأة:
- "مين"؟
"الله"، ما أجمل هذا السؤال! منطلقاً من فم امرأة مسنّة خرجت تستطلع وفي يدها سراج. تنفّستُ الصعداء، وأسرعتُ إلى حفّة السطيحة الترابي لكي تراني، وتطمئنّ أكثر، وأجبتها بصوت خفيض:
- "نحن هون يمّي، الشباب".
- "يي الشباب يا عمري، يا تقبروني، ليش قاعدين برَّا بهالعتم، تفضّلوا فوتوا عالدار، البيت بيتكم وأعزّ" (بصوت خفيض)
- الله يطوّل عمرك يمّي، شو ناقصك قولي؟
- "ناقصني رحمة الله وشوفتكن منتصرين بهالحرب يا تقبروني، الله يردّ عنكم بجاه محمّد وآل محمد... والله يا روحي كلّ شي موجود بحمد الله، وموضوع بتصرّفكن يا تقبروني ... تفضّلوا تفضّلوا".
- تفضّلي ارجعي سالمة، مضطرين، لازم نمشي، تصبحين على خير.
- "وإنتو من أهلو يا عمري، ألله يحميكن ويردّ عنكم اولاد الحرام، بشفاعة ستنا فاطمة الزهرا . الله معكن".
قفلتُ عائداً إلى تحت التوتة، والمشاعر الجيّاشة تعتمل في داخلي، في قلبي ووجداني، فقد حرّكت هذه الحاجة المتشبّثة ببيتها وترابها وتوتتها المعمّرة في زمن يشنّ فيه جيش الكيان أشرس حرب بريّة وبحريّة وجويّة علينا، مستخدماً فيها وسائل التدمير الفتّاكة كلّها، ولا تخشى الخروج وتفقّد المكان، مشاعري، وتساءلت: "كيف تعيش هنا يا الله! صحيح أنّني لم أسألها عن باقي أفراد أسرتها خوفاً من عودة الطائرة المباغت فيُكشف أمرنا وأمرها. إنها ذكّرتني بجدتي وبدعائها: "الله يحميكن ويحرسكن بشفاعة ستّنا فاطمة الزهرا".
مسحت دموعي التي همت في هذه العتمة، وطلبت إلى رفيقي الإسراع في مغادرة المكان، فحوارنا، وصوت الجهاز مسموعان في عراء هذا الليل الدامس، ربّما ربّما...
تركنا التوتة باتجاه بنت جبيل التي لا تبعد كثيراً من هنا، ولا أخفي أنّ عقلي وقلبي باتا معلّقين بهذه الحاجة الصالحة والصامدة. قطعنا مسافة أمتار في العتمة توقّفنا بعدها، وأخذنا نتابع وقع خطوات على أوراق التوتة اليابس. دنا منيّ رفيقي وهمس:
"لعلّ الحاجة تجري وراءنا بقصد إيصال خبر يهمّنا، على كلّ، قبل العودة إليها علينا التأكّد من أنّها هي التي تمشي على الورق".
- لا بأس، فالمنظار معك. تصرّف.
لحظة، همس بعدها:
- "خذ، شاهد ما تفعله الحاجة تحت التوتة!"
تجمّدت مكاني وأنا أراها تبوس الأرض، ثمّ تمرّر كفّيها على الورق وتمسح وجهها، تبرّكاً بوقع أقدامنا عليها.
همت دموعي غزيرةً على خديّ رغماً منّي، وشرعت أستغفرُ الله بصوت مهموس: "من نحن حتى تتبرّك هذه الأم العطوف بوقع أقدامنا؟ يا إلهي ! أستغفرك. يا ربي ارحمني..."، دنوت من رفيقي وهمست: "تعالَ نرجع نقبّل قدميها ويديها ورأسها العالي في هذه البلدة المباركة".
- يجب ألا تعلم برؤيتنا إيّاها، وغداً، عند عودتنا منتصرين ،بإذن ربّ العالمين، نزورها، ونبوس رأسها ويديها وقدميها. الآن علينا ألّا ندع عاطفتنا تبعدنا عن تنفيذ مهمّتنا.
- أنت محقّ، هيا لنمضِ. همست له بذلك ثمَّ خطوتُ خطوات إلى الأمام، توقّفّت بعدها، وأخذت أتفقّدها بالمنظار الذي كان معي. "يا ألله إنّها تنظر صوبنا، صوب حفيف الورق اليابس تحت أقدامنا. كفّاها مشرعتان إلى السماء، إنني أسمع كلماتها وهي تخترق التوتة المعمّرة، وستائر الليل وظلامه الدامس، وتتجاوز أزيز طائرة الاستطلاع المقبلة، مع تلك الآلة الحربيّة القاتلة وهي تدعو لنا: "الله يسلمكن يا روحي ويحفظكن بشفاعة ستنا فاطمة الزهراء وأبيها وبعلها وبنيها والسرّ المستودع فيها".
تابعنا السير نحثّ الخطى إلى بنت جبيل ودعاؤها يترجّع في عقلي ووجداني وأذني كثيراً كثيراً.