صراع لامرئيّي أفريقيا، أرض بيضاء وضمائر سوداء؟
إن نجاح الآخر في حصوله على مكانة لم تستطع أنت الحُصول عليها بالرغم من أّنك صاحب الأرض تولّد لديك تلك الرّغبة في استدراجه من خلال آخر عنيف ينتمي معه في الشّكل أو اللّون لتعاقب الاثنين على التّجاوز.
من هم الأفارقة؟ هل هم كلّ من هو زنجيّ كما يتداول في المفهُوم الجمعي؟ أم أنّه تمّ استمالة هذا الاسم واستخدامه بشكلٍ عنصريّ ما سيؤسّس لاحقاً لمواضيع وأفكار تروّج للكراهية؟ وهل شارك في صِناعة هذا التصوّر بيض أفريقيا من حيث لا يعلمون حينما كانوا يحاولون إبعاد الأفريقيّ الذّي على وزن زنجيّ في مناداة الناس لهم؟
ثم ماذا عن قول جاك دريدا أثناء إلقائه محاضرة في بنين عام 1978: أنا أفريقي، نسبة لولادته في الجزائر: plutôt comme cette sorte d'Africain déraciné que je suis, né à Alger، هل كان يعني تفكيك الزّنجي عن الأفريقي كلفظ وماهيّة وإعادة صياغة ولادته في مخيال الأفريقي الأبيض والزّنجي على حدّ سواء؟
أن تكون أفريقيّاً لا يعني بالضّرورة أن تكون زنجيّاً، فمن أطلق عليهم لقب أفريقيا بالأصل لم يكُونوا زنوجاً، فأوّل مرّة أصبح فيها الكلّ أفارقة في قارة أفريقيا كانت في القرن الثامن عشر من طرف المستعمرين الأوروبييّن، في حين كان الرّومان قديماً يطلقون على الأراضي التّابعة لقرطاج قبل سقوُطهاAfrica Proconsularis.
شمل بعدها هذا اللّقب السكان للتّمييز بينهم وبين والمور، أمّا لاحقاً فقد توسّع استخدامه على يد الجغرافيين الإغريق والرّومان ليخصّ به كلّ شمال أفريقيا بالتّداول مع مصطلح الليبو، بينما أُطلق لقب أثيوبيا Ethiopia على أفريقيا ما خلف الصّحراء الكبرى وهو مُصطلح إغريقيّ، وهكذا كان اسم شمال القارّة أفريقيا وما خلف الصّحراء أثيوبيا، ثم عُمّم على كل أفريقيا اليوم.
لكن ما حدث هو انتقال اللّقب بطريقة عنيفة إلى تكتّل عدائيّ يُحدّد من خلاله من هو الأفريقيّ ومن هو غير ذلك بحسب معايير اختصِرت في لون البشرة، فالأفريقي الذّي سمح لأفريقيا بمشاركة أفريقيّته كاسم يُتّهم اليوم بأنه غير جدير بالاسم في مفارقة عنصريّة مقيتة. لكن الأفريقي المطرُود من لقبه له دور في أن يستأثر الأفريقيّ الآخر باللقب الذّي اكتسبه. وذلك يحدث حينما يقدّم في حديثه العام أو الخاص لقب الأفارقة لذوي البشرة السّوداء من دون وعي منه، فيستثني نفسه، وكأنّه يتنازل شفهياً عنه، وضمنياً يحتقرُ انتماءه إليه بأن يظلّ شماليّاً أو من سكان المغرب الكبير.
لقد شارك في صناعة هذا التّكتل، في كلّ مرّة لا يقدّم نفسه كأفريقي وينادي الآخرين به، ومن هنا لا يمكنُه اليوم تحميل الآخر الذّي قبِل بأن يكون له الحقّ في إعادة توزيع اللّقب على ما شكّل ذاته بالطّريقة الجديدة التّي عنت مطلب الأفروسنتريك "أفريقا كلّها سوداء"، ولطالما رأينا في لقاءات صحافيّة مباشرة اعتراض الأفارقة الجنوبيين على وصف الأفارقة الشماليين لهم بالأفارقة بسؤالهم الهويّاتي: ألستم أنتم أيضاً أفارقة؟
واليوم تتزايد بوتيرة مُتصاعدة مشكلة الأفارقة ما بين الشّمال وما وراء الصّحراء الكبرى، ويبدو أن الأمر سيستمرّ إلى أن تقفز عليه حروبٌ لم تكن في الحسبان ليتم استغلالها، فهل يوجد أفضل من ملف الكراهية حينما تؤطّره سلطةٌ ما على هيئة الدّفاع به عن خطر يستحيل حدُوثه؟
عام 1928 نشأت حركة "الأفروسنتريك" وذاع صيتُها على نطاقٍ واسع، وكان هدفُها هو القضاء على الجنس الأبيض في أفريقيا الشّمالية والجنوبيّة وخصوصاً الأمازيغ والنّاطقين باللغة العربيّة والأوروبيين في جنُوب أفريقيا، وتمّ التّرويج لفكرة أنّ الحضارات المصريّة القديمة والنوميديّة والقرطاجيّة ما هي إلا حضارات زنجيّة، وقد قال يوماً أحد منظّريها مالكوم أكس: عندما تنظرُ إلى تمثال فرعونيّ مصريّ قديم عليك الرّبط بين الرّجل الأسود والمصريّ القديم فتأكّد أنك تنظرُ إلى نفسك وأنّ الرّجل الأبيض يريد أن يسرق هذا التّاريخ له.
صدى هذه المقُولة ما زال يمتدّ إلى يومنا هذا ويتزايد عدد المُنتمين إلى فكرة أفريقيا خالية من اللّون الأبيض. إنّه ردّ وجُودي على ذلك الاحتقار التاريخيّ للزّنوج من طرف قيم العالم الأبيض، فاستخدام الجغرافيا كتبرير ما هو إلا نزعة لبناء حدود الفصل العنصريّ نفسه ولا يختلفُ أحد على إدانته مثلما أدينت العنصريّة التّي مارسها البيض تجاه السّود في أراضٍ أطلقوا عليها ضمنياً أراضي البيض، فالعالم المُتصالح مع فكرة الإنسان والتّرحال تحكمه فكرة وحيدة حرّة، وهي حريّة هذا الكائن مهما كان لونه أو انتماؤه في الانتقال من مكان إلى آخر.
لكن منذُ أيام عادت الفكرة بطريقة فجة ومُتسارعة يردُّ فيها أفارقة شمال أفريقيا على أفارقة جنوب الصّحراء، وتزامن هذا مع إلغاء حفل الفنان الكوميدي الأميركي كيفن هارت في مصر وهو الذّي يعدّ واحداً من الذّين يؤمنون بحركة الأفروسنتريك، والهجومات التيّ يمارسها اللاجئون في تونس والمغرب من اعتداءات متبادلة ما جعل الرئيس التّونسي قيس سعيّد يخرجُ بخطاب كراهية مباشر وهو سلوك سيؤطر لتزايد العُنف وشرعنة الاعتداء على الآخر البريء تحت شعار الدّفاع عن البلاد.
وهذا أمر يجعل الناس يبتعدُون عن الواقعيّة التّي تقول إنّ القانون وحده من يمكنُه حماية الفرد من الكراهية سواء كانت من طرف صاحب الأرض أو مُستضيفه وينجرّون وراء العواطف. فإغراق الاثنين ما هو إلا إفلاس آخر يطلق سراح الذّوات لتمارس رغبتها في انتزاع اعتراف الآخر بمن هو الأفريقي الأجدر. والصّراع بين الذّوات على المستوى الوجودي ما هو إلّا صراع قاتل من أجل إثبات أصالة الذّات واعتراف الآخر بها مثلما تناوله جون بول سارتر.
ولن يحدُث هذا الانتزاع إلا باستخدام العنف والكراهية والانتقام باعتبارها جوهراً في الذّات لا صِفات تاريخيّة، وكلّ انزلاق نحو معالجة الاعتداء الفرديّ أو لعدّة أشخاص بالانتقام من قبائل وبلدان كاملة بالعنصريّة والتّرويج لبشاعة الفرد على أنّها بشاعة لكلّ من يشتركُون معه في البشرة أو البلد ما هو إلا استكمال لمصادر العنف التّي قدّمها هوبز في التنافس والحذر والكبرياء، فالتنافس يدفعُهم إلى الانتقام ويولّد لديهم الكراهية ويُصبح أسلوب حياة بداعي المحافظة على الكبرياء والمكانَة، من هنا ستخرجُ كلّ الأمراض لتوريط الأبرياء أكثر من المُجرمين.
إن نجاح الآخر في حصوله على مكانة لم تستطع أنت الحُصول عليها بالرغم من أّنك صاحب الأرض تولّد لديك تلك الرّغبة في استدراجه من خلال آخر عنيف ينتمي معه في الشّكل أو اللّون لتعاقب الاثنين على التّجاوز، فتبدو أنّك تُدافع عن قيم رفيعة، لكنّ الحقيقة الضّمنية لا تعني سوى لجوئك إلى تحطيم ذلك النّجاح الذّي يزعجك، تحطيم تجاوزه في أن يكون منافساً فائزاً عليك. فهل أفريقيا تسبحُ داخل ضمير أسود؟
دعا بعض روّاد التّواصل الاجتماعي إلى الخروج في مُظاهرات في الـ26 من الشهر الجاري للمطالبة بترحيل اللاجئين الأفارقة إلى بلدانِهم بدل دعوة حكوماتِهم التّي تتقاضى أموالاً من الاتّحاد الأوروبي إلى استضافتهم وحماية أوروبا منهم، بأن تتابع إن كان دخولهم قانونياً أم لا. وهذه هي نتائج تصعيد خِطاب الكراهية بطريقة عشوائيّة، فبعد انتشار الخوف غير المُبرّر ضمنياً انجرّ كثيرون في شمال أفريقيا نحو المُشاركة فيه والموافقة عليه، وانتشرت حملات في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا تحملُ الرّغبة نفسها في التّخلص من هؤلاء الغرباء بحسب قولهم.
لقد ضاعف المشهد الخوف الجمعيّ وتطوّر إلى محاولة إنعاش فكرة "الأفروسنتريك" بطريقة غير مباشرة حيث سيلتقي الكلّ ليسبحوا داخل الضمير الأسود لهذه القارة المنهوُبة، وفي نقطة ما يختفي الأفريقي الزنجيّ والأبيض سويّة، ويصبح لون الأفريقيّ الحقيقي هو "اللامرئيّ"، هذا اللامرئي المطرود من البنية العامة وصلب المجتمع الذّي تناوله الكاتب رلف أليسون في عمله "اللامرئي"، يحضر بجسده الآلي الصامت، اللامرئي يحسب نفسه قادراً على الرؤية أكثر من المرئيّ.
فموقعه كخارج عن المجتمع ومطفأ من الوجود هو أدقّ وأشمل، ربّما لا يستطيع هؤلاء النّاس أن يصوغوا أفكارهم بشكل فلسفيّ، لكنّهم يعيشونها، فالمسؤولية التاريخيّة الملقاة على عاتق اللامرئيّ هي أن يكون "مثالاً للتضحية" لأنه بحكم طبيعة موقعه، قادرٌ على رؤية العطب أكثر، ومصلحته الوجوديّة تقتضي أن يكون هذا المِثال، لكن حينما يشنّ اللامرئيون حروباً على بعضهم فإنّ أحداً لن يلتفت إليهم، وسيفقدُون المثال الذّي اكتسبوه في صراعهم مع المرئيين، ويُصبح الخلاص منهم فيما بينهم غنيمة أيديولوجية.