"فليرمِها بحجر": اتساع ثقافة الكاتب وغنى معلوماته

يجد قارئ "فليرجمها بحجر" نفسه أمام رواية يتداخل السرد فيها مع الحوار عبر مشهديَّات "الفلسفة الوجوديَّة"، من دون أن يهمل الكاتب التفاصيل.

  •  رواية
    رواية "فليرمِها بحجر" لملهند الناصر

وأنت تقرأ رواية "فليرمِها بحجر" ("داري بوكس للطباعة والنشر"/ آب/أغسطس 2023)، للكاتب والمخرج السينمائي السوري المقيم في كندا المهنّد الناصر، تغمرك اللذة لكثرة الانفعالات والأفكار الثوريَّة التي تحفل بها سطور الرواية، ابتداءً من المقدّمة التي يتحدَّث فيها الراوي "الليث" عن العدميَّة والأزليَّة، وصولاً إلى النهاية التي أحرق بها "أناه العليا" في عباب القطيع، فعاد مجرَّد رجل تغلّبت غرائز مجتمعه على ثورته، وماركسيَّته، والحبّ المتجانس في لظى الثورة ضمن دراساته المسرحيَّة العالميَّة في روسيا، مروراً بزرادشت وهمبرت همبرت.

قبل تصفّح الرواية، تطالعك صورة الغلاف التي يطغى عليها اللون الأحمر، وتظهر امرأة تتدثّر برداء أحمر، مغمضة العينين، مستسلمة للإصغاء، ربما لروحها، وربما لأناها العليا، أو للصوت الداخلي الساكن في أعماقها. قد تكون هذه المرأة هيرا، أو عشتار، وقد تكون هيستيا إلهة الصبا والشباب والجمال، أو أفروديت إلهة الحبّ والجمال والنشوة، أو أثينا إلهة الحكمة والقوَّة، وقد تكون خلاصة ذلك كله: الأنثى بكل حكمتها وصبرها وصمتها وحسنها. 

على الغلاف الخلفي، تجد نصّاً أنثروبولوجيّاً، ليس مقتطعاً من الرواية، ولعل الكاتب وضعه على صفحة الغلاف كرمية لصنارته المليئة بالمعرفة والحكمة، ليخلق لدى قارئه الفضول حول محتويات الرواية، فيطرح أسئلة على نفسه: هل في هذا الوجود من لا يزال يتذكّر "بروميثيوس" عملاق الإغريق المقدَّس الذي حارب إلى جانب الآلهة الأولمبيَّة، واستطاع بحنكته ودهائه أن يسرق النار من جبل الأولمب ويعطي قبساً منها للبشر لأجل تدفئة الشعب المتجمّد من البرد؟ من يتذكّر "هرقل" أو "هيرقليس الجبّار" البطل المولود من سلالة الإله زيوس في الميثولوجيا الإغريقيَّة، الذي كان يمثّل في الحضارتَين الرومانيَّة واليونانيَّة أيقونة الأدب والفنّ الغربي والثقافة الشعبيَّة؟

تحدَّث المهند الناصر في روايته أيضاً عن "هيفاستيس" الإله الأعرج الذي عاش مكبّلاً بأصفاد التشوّه طيلة عمره، فهل جاء بروايته هذه مستعيداً أمجاد الإغريق؟

في بعض الفصول، يجد القارئ أنَّ الكاتب أدرج الحوار ضمن مشهديَّات مسرحيَّة، الأمر الذي يجعله أكثر استمتاعاً بقراءة الرواية، من دون أن يصيبه ملل الحوارات التي قد ترمي بثقلها على النصّ السردي فتعيق انسيابيَّته، قبل أن يعيده الكاتب مجدَّداً إلى النصّ السردي عن طريق الدمج بين النمطين، من دون أي تأفف محتمل من القارئ.

ويظهر من خلال التأمّل في الرواية المكتوبة بإحساس عالٍ، مدى عمق واتساع ثقافة الكاتب، وغنى معلوماته، وتبحّره في علم النفس والأنثروبولوجيا، وعلم الفلسفة والأديان، وكثرة المراجع التي طالعها، والرسائل الأكاديميَّة التي اجتهد في تقديمها، لتخرج الرواية غنيَّة بالثقافة، ونظريَّات الفلسفة الوجوديَّة.

ويطالعك الراوي بعقده النفسيَّة، وهو المخرج المسرحي وكاتب السيناريو "الليث" الذي يتقاذفه "همبرت همبرت" بطل "لوليتا" ناباكوف، و"زرداشت" مؤسس الديانة الزرداشتيَّة، من خلال تقمّصه شذوذ "الأوَّل" باضطراب البيدوفيليا عند ممارسة هذيانه بقرار الزواج من نور المراهقة ابنة الخمسة عشر عاماً، التي تحلم فقط في أن تكون ربَّة منزل تستقبل زوجها عند عودته من عمله في المساء، لتفعل كل ما يريحه جسدياً وتمارس إغواءها الطفولي عليه في غرفتهما المستقبليَّة، قبل أن يجد نفسه تائهاً في دهاليز "الثاني" المقتبس اسمه من الضياء وهالة النور الربانيَّة.

لكن "زارا" لم يكن مجرَّد هالة انبثقت في روح "الليث"، إنَّما تقمَّصها، فلسفةً ووجوداً، من خلال التضادات التي عشَّشت داخل كينونته، فأصبح الشيء ونقيضه، الخير جهراً والشرّ سراً، الثورة علناً وتقليد ثغاء القطيع خفاءً، النور والظلام، الحريَّة والعبوديَّة. هنا كانت سارة برمزيّتها، هي الخير، والحريَّة، والنور، والثورة، و"زارا" بشالها الكشميري الأحمر، حاربت كثيراً داخل رأس "الليث"، الذي حاول مراراً وتكراراً أن يطبّق تعاليمها، وأن يولد من رحمها المرجوم بحجارة الأنماط المجتمعيَّة، رجلاً أثيرياً لا يشبه أترابه، فنحت بإزميل أنامله أنثاه السرمديَّة، ليمارس معها حبّه وهيامه، ويحترق في لهيبها ويطمر أناه العليا تحت رمادها.

"لقد حدّد البشر طرق التعبير عن أنفسهم منذ زمن بعيد، حدّدوا أن يكونوا بوجهين، وأن توفّق المصلحة والمصالحة فيما بينهم". يقول المهند الناصر في روايته، وربما يكون خذلان سارة تدميراً للأنا داخل كينونتنا، بينما فوز "همبرت همبرت" لم يكن سوى انتصار لغرائزنا على شريعة الحبّ والثورة.

ويعود "الليث" من مواجهة مرآته، مع طفلته غيداء، إلى الجسر الذي رمى منه "زارا"، حيث وقفت سارة على حافته وتلاشت في الأفق، احترقت وتناثرت من دون عودة، بيمينه يحتضن طفلته، وبيساره يحمل شالاً كشميريّاً أرجوانيّاً، يغطي به أناه، يحميها من رذاذ المطر وصقيع الشهوات، فيرمقها بحزن، ويختنق بغصَّته العالقة في حنجرته، ثمَّ يرمي مسرحياته غذاءً دسماً لنيران مدفأته، ويعرّج على محل حلويات فرنسيَّة، فيشتري علبة حلوى ليقدّمها لنور، المراهقة التي سيروي عطشه من جسدها فترة قصيرة ثمَّ ينساها، كأيّ أريكة ملّ من الجلوس عليها.

وفي منزله، سينظر كلما اشتاق إلى معتقداته، إلى تلك اللوحة المعلّقة على الحائط، وعندما تلبس زوجته الحذاء الأحمر سيتأكد تماماً أنَّه كان يوماً يقبّل سارة، بجسد زارا، وقد دفنهما بين طيّات "همبرت همبرت".

يجد قارئ "فليرجمها بحجر" نفسه أمام رواية يتداخل السرد فيها مع الحوار عبر مشهديَّات "الفلسفة الوجوديَّة"، من دون أن يهمل الكاتب التفاصيل اللغويَّة الجميلة، والصور الإبداعيَّة، كما أنَّه في هذه الصفحات، يحوّل التحليل الفلسفي الأنثروبولوجي للإنسان ومقوّمات الحياة النفسانيَّة، إلى مادَّة روائيَّة تجعل الأدب يمسك بمهمَّته الحقيقيَّة، وهي التغلغل في عمق النفس البشريَّة من أجل استنباط مكنوناتها.

تحكي سطور الرواية أنَّ الروح، ذلك الجزء الغامض فينا، ليست مجرَّد شعاع للنفس أو قوَّة حياتيَّة، إنما هي حكاية تناقضات بشريَّة، واجتماعيَّة، وبيئيَّة، بل تراكمات وتجارب يعيشها المرء منذ طفولته مروراً بمراهقته وصولاً إلى شيخوخته.

ويخرج القارئ من الرواية بصفحاتها الـ 232 ومن دراسة ألوانها والتلذّذ بطقوسها والاحتراق أمام ظلالها المشتعلة بتناقضات النفس البشريَّة، متسائلاً: كيف لنا أن نعيد ترميم ذواتنا بعد اندثارها في غياهب الزمن؟ ألم يحن الوقت كي نتوقّف عن الاحتراق لإضاءة شعلة ثورات لا تفعل شيئاً سوى رمي أجسادنا خلف قضبان السجون، وأن نعتق أرواحنا من دون عودة كما رفرفت سارة في ذلك اليوم الماطر؟