فيلما "اللقطة الأخيرة" و"الناس اللي فوق".. وسؤال الدهشة السينمائية
يعيدنا فيلما "اللقطة الأخيرة" و"الناس اللي فوق" السوريان إلى سؤال الدهشة السينمائية.. ماذا يقدمان للمشاهد؟
يعيدنا فيلما "اللقطة الأخيرة" و"الناس اللي فوق" في عرضهما الخاص يوم أمس الخميس 30 حزيران/يونيو ضمن فعالية "بيت السينما" المقامة في "كندي دمشق" إلى سؤال الدهشة السينمائية، المتعلق باستخدام جميع الوسائل المتاحة، بدءاً من النص والأفكار التي يطرحها، مروراً بالتمثيل والإضاءة والصوت والمونتاج وغيرها من العمليات الفنية المرافقة، وانتهاء بإدارة المخرج لها، ورؤيته القادرة على استنباط المعنى، وإثارة الأسئلة، وتحقيق المتعة، وصولاً إلى الإدهاش، وما يُرافقه من تخزين المَشَاهد في ذاكرة المتلقين نتيجة تفاعلهم مع ما رأوه.
فيلم "اللقطة الأخيرة" لكاتبه ومخرجه القاسم أحمد (إنتاج المؤسسة العامة للسينما) يحكي قصة شاب (يجسده خالد شباط) يعاني من معاكسة الحياة له، إذ يُرفَض طلب توظيفه بطريقة مواربة، من دون أن نعرف طبيعة الوظيفة التي تقدم لها والشهادات التي يحملها. وعندما يعود إلى منزله الذي يعيش فيه مع رفيق سكنه الفنان التشكيلي (يجسده يوشع محمود)، وخلال محاولة الأخير مواساة صديقه، يكشف له من دون قصد أن حبيبته ستتزوج غيره.
ولأن أكثر من ضربة على الرأس توجع، نصحه الفنان التشكيلي بممارسة هوايته في التصوير الفوتوغرافي، فيما هو يواظب على ممارسة شغفه مع النساء الجميلات. فعلاً، يُخرج الشاب المكلوم روحياً الكاميرا الخاصة به من صندوق مُصدَّف، ويصعد إلى سطح البناء الذي يسكن فيه، فيرى رجلاً يعبر الشارع. وعندما يَهمُّ بتصويره، يقع ذاك الرجل ميتاً. يستغرب الشاب ما حصل، لكن ببرود شديد. عندها، يُقرِّر الذهاب إلى بيت خطيبته. وعندما يُصوِّب الكاميرا نحوها عند مدخل البناء، يخونه قلبه ومشاعره تجاهها، لكنه عندما يُشاهد خطيبها الجديد، يُرديه قتيلاً بلقطة، وهو ما فعله بزوج أمّه أيضاً.
وعندما يعود إلى منزله ليستريح من مشقّة يومه، نرى صديقه الفنان التشكيلي يُجهِّز الكاميرا لتصويره. لم يُمانع رغم معرفته بمدى فَتْكِها، لينتهي الفيلم باللقطة الأخيرة المُصوَّبة نحوه.
السيناريو بحاجة إلى ضبط، والغوص في نفسية الشخصيات والبحث في المُسبِّبات التي حوَّلت الشاب المخذول إلى قاتل، حتى لو كان القتل عبارة عن تهيؤات أو تجسيداً لهواجس مريضة، وهو ما كان سيجعل أثر الكاميرا بين يدي الشاب أكثر قوة، بحيث لن يقتصر انفعاله أثناء أول عملية قتل لرجل في الشارع بهذا البرود اللاإنساني.
ينبغي الاشتغال على التفاصيل الصغيرة التي تُعزِّز وقع الصدمة عند المشاهدين، ودراسة إيقاع التصعيد الدرامي بعناية أكبر، وكذلك معالجة أثر التَّحوُّل في شخصية البطل بعد اكتشافه الجديد، إذ بقي على وتيرة واحدة من اللامبالاة. لم يزدد فرحاً، ولا متعةً، ولا حُزناً، ولا تأثراً، ولم تُحوِّله الكاميرا إلى شخص آخر، أكثر أخلاقيةً مثلاً، أو أكثر توحُّشاً.
كل هذه الأشياء أفقدت المتلقين عنصر التعاطف، وألغت إمكانية الدهشة المُتوخّاة، بحيث إن تصوير يوم واحد من محنة ذاك الشاب، ظلَّ قاصراً عن تجسيد حقيقة معاناته الوجودية، وتالياً أبقى مغزى الشريط السينمائي القصير ضبابياً وبوصلته غير مضبوطة بدقة.
أما الفيلم الوثائقي "الناس اللي فوق" لمخرجه فراس محمد (إنتاج شركة Stories Film)، فقد غاص في عوالم ليل دمشق، بدءاً من الراقصة الجميلة التي انفصل والداها، ولم ترد أن تعيش عالةً على أحد، لتكتشف أن جسدها وما يُقدِّمه من متعة لرُوَّاد الملهى الليلي الذي تعمل فيه قادرٌ على أن يسدّ رمق حياتها، من دون ابتذال، وبلا أن يضطرها إلى ممارسة الفاحشة.
في المقابل، هناك الناس المتعبون في سوق الهال، من عتَّالين بملامحهم المنهكة وإصاباتهم الروحية المديدة، وسائقي السوزوكي الذين يفترشون مقعدها الصغير من أجل فسحة راحة، وباعة لحومٍ تخلَّصوا من خوفهم الأول في ذبح العجول والأغنام، وصارت مناظر الدماء بالنسبة إليهم طبيعية، وبائع الصبارة الصابر الذي يقلع شوكه بيده، ورجل تخلَّى عنه أبناؤه وإخوته وزوجاتهم، فصار الشارع مأواه وملاذه، وسائق الدراجة النارية الذي يُراعي زبائنه ويرأف بحالهم، على عكس سائقي السيارات العمومية بأجورهم اللامعقولة.
مشاهد باذخة من الألم المديد، والاتكاء على عفوية كلام أُناس القاع في ليلهم الطويل، جعلت الشريط الوثائقي (20 دقيقة) مواربة سينمائية للحديث عن مدينة دمشق، من عمق ليلها إلى مشارف نهارها، من دون أن يضع فراس محمد من صوَّرهم في قفص الاتهام، وبلا أدنى رغبة في محاكمتهم أخلاقياً.
حافظ على مسافة واحدة من الجميع، بكاميرا ثابتة معظم الأحيان، وزاوية تصوير تلتقط ببساطة ظلال الألم على الوجوه، وترسم لوحة غير سياحية عن العاصمة، جاعلاً من نقلاته في توثيق المكان بناسه وشقائهم نابضاً بالحياة، ليأتي المونتاج بصيغته الرابعة، كما شرح المخرج، هو الأكثر قدرة على إيصال مغزى ما يريده.
استلهم فراس محمد الرؤية التي حققها المصري نعمان عاشور في مسرحيته التي حملت عنوان الفيلم نفسه "الناس اللي فوق" مع فارق جوهري، هو أن الوثائقي السوري القصير اقتصر على تسجيل مقاربته السينمائية على "الناس اللي تحت" من دون أي لجوء إلى المقارنة مع أصحاب الذوات وقصورهم وثرواتهم الضخمة، في مقابل بشر القاع الذين صورهم، فيما عدا مرور سريع على فندق "الفورسيزن" ذي النجوم السبع وسط دمشق.
بقيت نظرة محمد منتمية إلى فن "الأوتشورك" المسرحي الروسي في تقصِّيه قضيه محدودةً في فاعليتها وإدهاشها، وخصوصاً مع التشبيك المتسارع للمَشاهِد، وانعدام التصعيد في ذاكرة ألم الأشخاص المُصوَّرين، بل البقاء على وتيرة واحدة من عرض حالهم، بحيث جاء الفيلم محاولة بسيطة في تسجيل بعض ملامح القاع الدمشقي. وقد زادت زخمها بعض الشيء موسيقى المناخ العام المحيطة بالشخصيات، والتي سجَّلها رامي الضللي، لتنتهي تلك المحاولة بتدخُّل واضح من المخرج، عندما ركبت الراقصة مع سائق الدراجة النارية في طريقها إلى منزلها البعيد، متخليةً عن مساحيق التجميل التي كانت تضعها في بداية الفيلم.