في معرضه الفردي الأول.. عبد قاشا يتبنّى "عقيدة الدمى"
يتبنّى "عقيدة الدمى"، التي تمثّل نوعاً خاصاً من الحرية.. ماذا يقدم إلينا الفنان السوري، عبد قاشا، في معرضه الفردي الأول؟
يتبنّى الفنان عبد قاشا في معرضه الفردي الأول، المقام في "غاليري زوايا"، ما سمّاه الباحث الفني الأميركي جون غراي بـ"عقيدة الدمى"، والتي قد تبدو تجسيداً لانعدام الحرية، لكونها بلا إرادة خاصة بها، لكنها، وفق الشاعر الألماني هاينريش فون كلايست (1777 - 1811)، تُمثِّل نوعاً خاصاً من الحرية، التي لن يحققها البشر أبداً، لأنها ببساطة ليست ملعونة بفكر يعكس الذات، وبعيدة عن الوعي التقليدي الذي يجعلها في حالة من العبودية.
وفق هذه الرؤية، اشتغل قاشا بطاقة تعبيرية هائلة على تجسيد هذا التناقض بين الحرية والعبودية لشخصيات لوحاته، مؤسساً أعماله، التي قاربت 25 لوحة، إلى جانب عدد من المنحوتات، على الرغبة في التجريب المستمر، بحيث إن كلاً منها يحمل حكايته الخاصة، الأمر الذي يُشعر المتلقي بأنه أمام تصوير لمشاهد من مسرح الدمى، وأغلبها بوجوه مهرجين ضاحكين، يبدو من ملامحهم أنهم مسلوبو الإرادة، وراضخون ليأسهم، وأحزانهم، ومعاناة وجودهم، وعبثية مصائرهم التي آلوا إليها.
رغم الأحزان الكثيرة التي توحي بها أعمال قاشا، إلا أن الابتسامة المرسومة، ولو عنوة، على الوجوه، تُحيلنا إلى التناقض بين الظاهر والباطن، وفق درامية عالية تنطوي عليها تعبيرية قاشا.
فمرَّة تراهم داخل حلبة، وأخرى بين شفرتي مقصلة، وثالثة ملتحفين خيباتهم، وغيرها مع أقنعة ساقطة على الأرض، أو يكونون أسرى إرادة آخرين، لنصبح أمام حالة من استلاب الحرية المُضاعف لدُمى تُحرِّك دُمى، بينما تقترب شخصيات بعض اللوحات من موتها، وترضخ لشرط كينونتها، فتبدو مستسلمة لمصيرها.
وعلى الرغم من الأحزان الكثيرة، والتي توحي بها تلك الأعمال، فإن الابتسامة المرسومة، ولو عنوةً، على الوجوه، تُحيلنا على ذاك التناقض بين الظاهر والباطن، وفق درامية عالية تنطوي عليها تعبيرية قاشا، التي تنحو إلى أن تكون مفهوماً واسعاً للحياة، ونظرة عميقة نحوها أكثر من كونها مجرد أسلوب فني.
تقترب أعمال قاشا من كونها إسقاطاً لفكر الفنان على الإنسان والأحداث المحيطة به، بانفعالية عالية، ظهرت في المعرض من خلال عجينة لونية مفعمة بالمعنى والعاطفة، وإن غلب على بعضها طابع الكآبة، كما في اللوحة التي احتلت عمق الصالة بألوان تجمع الأبيضَ والعفنيَّ، تُذكِّرنا بما اشتغل عليه فنسنت فان غوخ، إلى جانب كثافة في اللون وتدرجاته، بحيث إن صخب بعضها لا يوحي بالفرح، بقدر ما يعكس حالة الفنان وشغفه في تقصِّي دواخل شخصياته وكآبتها، وهو ما يبرز من خلال الخطوط السوداء القاسية، والحرية في تلوين الوجوه بالرمادي أحياناً والأصفر في أحيان أخرى، والشعر بالأزرق أو البرتقالي، وغير ذلك من تضادات تنمحي فيها الملامح في بعض الأحيان، في مقابل غنىً في المشاعر التي تبثُّها الوجوه، وخصوصاً تلك التي تحتلّ معظم أجزاء بعض اللوحات، وتتميز خطوطها بخضوعها للانفعال الذاتي لدى قاشا وحركاته المتذبذبة بين العنف واللين والشدة والضعف، كما كان يدهشنا مروان قصاب باشي في لوحاته.
بعيداً عن المناخات اللونية الصاخبة، تتعزز مكانة الخطوط في لوحات الغرافيك المشغولة بمناخات سوداوية أكثر، تُجسد عبثية حياة الدمى، فنشعر أمام بعضها بأننا ضمن أجواء كافكاوية مُغرقة في البؤس واللاجدوى، فمرة تكون رؤوس الدمى على حافة المقصلة، وأخرى مركونة في الأدراج، وثالثة بلا أذرع ومنزوعة القفازات، وفي أعمال أخرى تغوص يد الدمية في إحدى عينيها و"تَتَجَعْلَكُ" ملامحها كتعبير بوحي بانتظارها المديد، بينما تعيش دمىً أخرى استسلامها بفرح، تبتسم كأنها أمام عدسة كاميرا على الرغم من مجاورة حيوان بري لها، وتستقر يد إحدى الدمى داخل أحشاء أخرى اعتباراً من الفم في مواربة جديدة لمفهوم الإرادة والحرية، لتأتي لُعبة الأقنعة المتزاحمة، التي اشتغلها قاشا في لوحاته النافرة بمادة "الفون"، ومنحوتاته الصغيرة، كتعزيز لرؤيته الفنية ذاتها، بتصوير دراما أفكاره بأبعاد ثلاثية، وتلوينها بألوان فاجعة الحياة العبثية. وبين قساوة الصلصال وطزاجة "الفون"، نشعر بأننا في مواجهة ما يمكن تسميته "زَمَن المرارة"، وأوقات تخميرها في الحاضر المستمر.
"الميادين الثقافية" التقت الفنان عبد قاشا في افتتاح معرضه الفردي الأول، وأوضح، في تصريح خاص، أنه ينظر إلى الحياة على أنها مسرح، وأن الدمى هي أحد عناصر ذاك المسرح الأساسية، قائلاً: "لا يمكن الاستغناء عن أي دمية، فلكل منها دوره. وعلى الصعيد التشكيلي، فإن الدمى قادرة على إيصال طيف واسع من الحالات التعبيرية، بين الفرح والحزن، بين السكينة والأسى، بين الطمأنينة والتوتر... وشعورها قادر على الوصول إلى أي شخص، سواء أكان طفلاً أم بالغاً. هذا من الناحية الشكلية، أمّا بحثي الأساس فكان ضمن اللوحة وتكوينها الفني، باللون والخطوط والكتل. وأرى أن معرضي هو مجموعة تجارب فنية، بدأتها خلال فترة الدراسة في كلية الفنون الجميلة التي تخرجت منها منذ عامين، علَّها تفتح لي أبواباً جديدة من البحث والتجريب، بغية الوصول إلى ما يُفاجئ المتلقين في معارضي المقبلة".
وعن العجينة اللونية في لوحاته، والتي تحولت إلى منحوتات بالروح ذاتها، بيَّن قاشا أن اللوحات تضمنت حالة تعبيرية، تحمل في كثير منها شيئاً من القسوة. لذا، شعرت بأنه لا بُدَّ من تلطيف أجوائها، وخصوصاً أن العجينة اللونية كانت قاسية كتكوين. لذا، حاولت نقل العجينة من سطح اللوحة إلى منحوتات يستطيع المتلقي أن يحاورها بسهولة أكثر، ولاسيما أنني أرى أن منحوتاتي أبسط، نوعاً ما، من لوحاتي".
قاشا: الدمى قادرة على إيصال طيف واسع من الحالات التعبيرية وشعورها قادر على الوصول إلى أي شخص سواء أكان طفلاً أم بالغاً.
أمّا بالنسبة إلى لوحاته الغرافيكية، فقال إن "الغرافيك هو المجال الأقوى عندي، والذي أستمتع به أكثر، وهو ما كان استمراراً لمشروع تخرجي الذي ضمَ 25 لوحة. حينها، لم أملك الوقت لأقدّم أعمالاً نحتية، وهو ما حققته في هذا المعرض، الذي سعيت، من خلاله، بسبب تنوّع الاشتغالات بين اللوحات واللوحات النافرة والمنحوتات، لأن أضع المتلقي أمام حوار بينه وبينها، وأن أحرّضه على التفكير أكثر من إعطائه إجابات واضحة، كالتناقض البسيط الذي ينطوي عليه وجه المهرج الباسم، لكنه حزين في أعماقه".
يُذكَر أن المعرض يقام برعاية وزارة الثقافة السورية، ويستمر حتى الـ30 من حزيران/يونيو الجاري.