في معنى البيت/الوطن

نعود، نعمّر بيوتنا، نعمّر وطناً لا نرتضيه ناقصاً أبداً.

سقف بيتي حديد…ركن بيتي حجر

‎فاعصفي يا رياح…وانتحب يا شجر

‎واسبحي يا غيوم…واهطلي بالمطر

‎واقصفي يا رعود…لست أخشى خطر

(ميخائيل نعيمة)

**

البيت أجمل من الطريق إلى البيت.

(محمود درويش)

**

البيت وطن مصغّر. حين تكون بلا بيت يصير الوطن ناقصاً. ليس لأن الوطن فندق أو منامة، بل لأن البيت يختزل كل معاني الوطن. فهو الحضن والملجأ والدفء والأمن والأمان، هو الماضي والحاضر والمستقبل. بلا بيت يؤويه يصبح المرء مشرداً، والوطن الذي يشرّد أبناءه هو وطن ناقص.

البيت متى كان ملجأ القلوب ينساب الحب فيه من كل زاوية وكل حجر. فلا يعود مجرد هيكل من الطوب والحجارة، بل يغدو روحاً تهتز بنبضات الحياة، ومكاناً تنمو فيه النفوس، وتتعلم القلوب كيف تضحك وكيف تبكي، متى تفرح ومتى تحزن، تختبر فيه لهفة اللقاء ولوعة الفراق، ترسم بين جدرانه أمنياتها المشتهاة وأحلامها المؤجلة.

في البيت يتحوّل الوقت الجاري إلى لحظات خالدة، وتُنسَج الذكريات في كل ركن وكل زاوية. هنا تبدأ القصص وهنا تنتهي، ثم تولد مرة أخرى بألوان جديدة من الحب والأمل. البيت هو الملاذ الوحيد حين الخشية من كوامن الحياة، وهو مطرح السكينة حين يرتعد القلب بسبب خسارة أو فقدان.

في البيت تنمو الأُسر كما تنمو النباتات تحت أشعة الشمس، تتشابك العلاقات بين أفرادها كما تتشابك أغصان الشجر، منها ما يتبرعم ويزهر ويثمر ومنها ما ييبس أو ينكسر، منها ما يصير كماناً ومنها ما يصير فأساً.

البيت هو الجذور التي تربط أهله بالأرض، بالتاريخ، بالذات. هو المقلع الذي تُنقش فيه الهوية، وتتشكَّل الشخصية، وتُولد الطموحات والأحلام قبل أن تصير واقعاً في الحلّ أو الترحال، ومهما طال السفر لا يفتر الحنين إلى مسقط الرأس ومهبط الأحلام الأولى.

البيت مسقط الرأس بالولادة ومسقط القلب بالعِشرة الطيبة. حين العواصف هو الجدار الحامي من الرياح الباردة. وحين السلام يشرع نوافذه على عوالم من التمنّي والرجاء. حين العبادة هو محراب صلاة، منه ترتفع الهمسات والابتهالات إلى السماء الرحبة، وتحت سقفه تتبارك النذور والعهود. ومتى حان الاحتفال ترقص الروح بفرح الحياة، خصوصاً إذا كان بيتاً مسكوناً بالألفة والطمأنينة وراحة البال.

في كل زاوية منه ثمة حكايات لا تنتهي، وعلى كل جدار تُنقش سيرة حياة. فالبيت، في جوهره، هو ما يجعل المرء يشعر بالتواصل المتوازن مع ذاته ومع الآخرين. كل العلاقات التي تنشأ خارج البيت تختلف اختلافاً جذرياً عن تلك التي تكون تحت سقف واحد.

سحر البيت عصيٌّ على الشرح والتفسير. لعله يتأتى من الذكريات التي تتراكم مع مرور الوقت حيث كل ركن في المنزل يحمل قصة وحكاية من صخب الطفولة وضجيج العائلة إلى أمسيات القراءة والكتب والموسيقى وسهر الليالي شوقاً أو وجعاً. هذا سحرٌ لا يمكن شراؤه مهما بلغ الثمن، لأنه نتاج الحياة اليومية والعلاقات الإنسانية التي تنشأ فيه، إنه سحرٌ ثمنه حياة كاملة.

دفء البيت لا يضاهيه دفء، دفء ينبعثُ مِن وجود مَن نحب، من حديث دافئ حول مائدة العشاء، ومن العناق وابتسامات الوداع في الصباح. هو دفء الشعور بالأمان والحماية في لحظات الترابط بين أفراد العائلة الواحدة حتى قيل: الموت بين الأهل نعاس. 

الشجارات البريئة، والخلافات التي تبدو وكأنها عصيّة على الحل، والزعل المتبادَل، والحرد لأيام وليال، كلها تصير ذكرى ماتعة حين تختلف الدروب ويتفرق أفراد الأسرة في سبل الحياة المتعددة. والبيت الواحد يصير بيوتاً حين "يتخرّج" الأبناء عرساناً إلى منازلهم الجديدة.

لكن، حتى لو عاش المرء وحيداً في بيتٍ بلا أهل ولا أقرباء، فإنه يقيم علاقة مع المكان، ومع أشياء المكان. يألف سريره وأريكته وطاولته ومكتبته، ويرتبط كل غرض من أغراضه بموقف أو ذكرى. ويصير بيته مملكته وعالمه الخاص الذي لا يعادله عالم. بهذا المعنى يظل البيت معنى السكن والسُّكنى أياً كان شكل العائلة.

تتعافى البيوت بعودة أهلها. 

تذكّرت هذه العبارة، فيما أتابع عودة أبناء قطاع غزة وجنوب لبنان إلى بلداتهم وقراهم وأحيائهم المدمرة بفعل الهمجية الإسرائيلية، وجميعهم يندب ذكريات عمر دُفنت تحت الأنقاض، لكنه في الوقت عينه يصرّ على إعادة بناء بيته أجمل مما كان. البيت يكون وطناً حتى لو كان خيمة على ركام، والوطن بلا بيت يصير ناقصاً حتى لو كان وسع المعمورة.

نعود، نعمّر بيوتنا، نعمّر وطناً لا نرتضيه ناقصاً أبداً.

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.