كيف يسخر أطفال فلسطين من جنود الاحتلال؟
الرواية تتحدث عن شباب فلسطين فهم أصحاب تفكير يومي في إفساد حياة الجنود الإسرائيليين الذين يقتحمون القرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية بسياراتهم المصفحة، وجرافاتهم الكبيرة، وكثرة إطلاق الرصاص لبث ثقافة الخوف.
-
"اللعب بالجنود" رواية الأحلام والآمال
في ظني أنّ روايات كثيرة لأدباء كثر لعبت دوراً في الحفر المعرفي لتثبيت مكانة الرواية بين الفنون الأدبية عادة، ومن هذه الروايات، الروايات القصيرة (النوفيلا) التي شغلت بفكرة واحدة، ولكن بتأييد فني محكم يشبه الرسوم الهندسية، والمعادلات الرياضية، ولعلّ من أشهر هذه الروايات القصيرة التي باتت أنموذجاً للنجاح والمهارة والحضور الأدبي، رواية "الشيخ والبحر" للكاتب همنغواي (1899-1961) التي تبنّت مقولة إنسانية نبيلة فحواها أنه من الممكن للإنسان أن يهزم لكنه لا ينكسر.
رواية أخرى أذكرها هنا، (نوفيلا) أيضاً، هي رواية "صمت البحر" للروائي الفرنسي جان بروليه (1902-1991) الذي عرف باسم (فيركور) وهي رواية مقاومة الفرنسيين للألمان في الحرب العالمية الثانية، شأنها في ذلك شأن رواية "الشيخ والبحر".
اليوم، غالبية الروايات التي تصدر للأدباء الذين نذروا مواهبهم ونشاطهم الإبداعي والأدبي للحديث عن المعاني الجليلة للمقاومة؛ مقاومة الظلم، والعسف، والعنصرية، والعدوان، والقوة العمياء، وثقافة اليأس والإحباط.. إلخ، هي روايات قصيرة (نوفيلا)، وليست روايات نهرية طويلة، كما أنها ليست روايات جيلية تتطلب من الروائي السير وراء الزمن لمتابعة شخصيات لها بعد المتواليات الحسابية (جد/ أب/ ابن/ حفيد)؛ وذلك لأن رواية (النوفيلا) باتت محكومة بصيغة الإضاءة على فكرة واحدة، يتمركز كل شيء في الرواية حولها، أعني المكان، والزمن، والشخصيات، واللغة، والأسلوب، وهذه الصيغة جعلت كتابة الرواية القصيرة (النوفيلا) صعبة جداً، لأنها تتقفى علامات نجاح القصيدة في كتابتها، ونجاح القصة القصيرة في احتشادها ومقاصدها، وسرعة النفاذ إلى غايتها المرجوة.
من هذه الروايات التي غنمت النجاح، والحضور الأدبي، والتقاط الفكرة النبيلة لتثمير تجليات المفارقة ما بين ثنائيات الحياة والموت، والحق والباطل، والعدالة والظلم، رواية الكاتب الفلسطيني طارق عسراوي الموسومة بعنوانها الدال على فحوى مضمونها "اللعب بالجنود"، هي رواية قصيرة، في نحو 110 صفحات من القطع الوسط (2024)، وفكرة الرواية الأساسية تقوم على دحض ما قاله الإسرائيليون المؤسسون للكيانية الإسرائيلية، من أن كبار الفلسطينيين سيموتون وصغارهم سينسون، فالرواية قائمة على مواجهات الأبناء الفلسطينيين للإسرائيليين الجنود العابرين للطرق الجانبية للقرى والبلدات والمدن والمخيمات الفلسطينية، وإفساد أيامهم ولياليهم، وشل طمأنينتهم، ومضاعفة قلقهم، ومحو عنجهيتهم، وإذلالهم أيضاً، وزرع الخوف في نفوسهم كلما فكروا بالاقتراب من القرى والبلدات والمدن والمخيمات الفلسطينية.
طارق عسراوي (47 سنة) من مواليد مدينة جنين في الضفة الفلسطينية المحتلة، وهو رجل حقوق، تابع دراسات عليا في مدينة عمان/ الأردن، وهو اليوم وكيل نيابة، وصاحب دار نشر طباق، وقد غنت له الفنانة دلال أبو آمنة أغنيات وطنية مهمة، صارت أناشيد فلسطينية في كل بيت، لا بل اجتازت هذه الأغنيات الحدود الفلسطينية ليتغنى بها عشاق فلسطين صغاراً وكباراً.
تقوم رواية "اللعب بالجنود" على مشهدية مسرحية مشطورة إلى شطرين، في شطرها الأول الأبناء، طلاب المدارس الثانوية الذين راحوا يغنمون كل طيب من أجل تصليب إرادتهم، وتثمير وعيهم، بعد ما عرفوا تاريخ البلاد الفلسطينية، وما وقع عليها من ظلم، وما تعيشه عياناً وواقعاً من عنصرية إسرائيلية بغيضة، ميّزت الفلسطيني صاحب الأرض، وكاتب التاريخ، وباني العمران على أنه عدو، ويجب تشريده ونفيه، والتضييق عليه، وإفساد حياته، وفي الشطر الثاني يتجلى ظهور الآباء الذين يراقبون حراك الأبناء عبر نظرة مشطورة إلى شطرين أيضاً في شطرها الأول: المباهاة بهم لأنهم كسوا ألعابهم بالبعد الوطني، فبدوا ـ رغم صغر سنهم أهل عزيمة وجسارة وهم يواجهون المحتل الإسرائيلي، وفي شطرها الثاني: بدا الخوف على فلذات الأكباد من فقدهم، واعتقالهم، وقتلهم، أو إصابتهم بوجه من وجوه الإعاقة.
مقاومة هؤلاء الأبناء/ طلبة المدارس، وكما تصورهم رواية "اللعب بالجنود " تتصف بأمور عدة، منها الفطرة التي تميز العدو من الصديق، والذل من الجسارة على المواجهة، والغضب الوطني من الرضى بالخضوع والاستسلام، ومنها أيضاً التفكير المستمر في اشتقاق الأساليب الجديدة والعزيمة لمواجهة العدو، وجعل حياته خوفاً وقلقاً ورهاباً من كل المعاني الفلسطينية.
هؤلاء الأبناء المقاومون، هم، في الرواية، أصحاب تفكير يومي في إفساد حياة الجنود الإسرائيليين الذين يقتحمون القرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية بسياراتهم المصفحة، وجرافاتهم الكبيرة، وكثرة إطلاق الرصاص لبث ثقافة الخوف، كما أنهم، أعني الأبناء/ الطلبة، يفكرون في إفساد حياة المتعاونين مع هؤلاء الجنود الإسرائيليين وقادتهم طوال الوقت أيضاً وإذلالهم بالكشف عنهم، حتى لتصير أعمال هؤلاء الأبناء (طلاب المدارس) جرساً لتنبيه هؤلاء المتعاونين بأنهم اقترفوا الخطيئة الأخلاقية الكبرى بحق الوطن، وليس أمامهم سوى العودة عن أفعالهم الناقصة القبيحة، وتمثلهم في الرواية شخصية (المفيد) الذي يفيد ضابط الأمن الإسرائيلي، بالمعلومات والأخبار، لذلك نراهم هم العين الرائية والنفوذ لكل تصرف يتصرفه الاثنان: العميل (المفيد)، وضابط الأمن الإسرائيلي (الكابتن)، وبذلك تبدو صورة هؤلاء الأبناء/ طلاب المدارس، صورة الغد المشرق بالآمال التي حملها وصرّها الآباء في صدورهم طوال الأزمنة الباهتة الماضية لتظهر وتتجلى في مسارات الأبناء الذين عمّروا وعيهم الوطني، ودافعوا عنه بالثقافة التي درسوها في كتبهم، وبالأفعال التي مارسوها وعملوا عليها لمواجهة الإسرائيليين الذين غشوا القرى والبلدات والمدن والمخيمات الفلسطينية من أجل إشاعة ثقافة الخوف فيها من جهة، وإشاعة ثقافة الرهاب في المدارس الفلسطينية، من جهة أخرى.
المكان في الرواية (اللعب بالجنود) هو مدينة جنين ومخيمها، وقد بات اسم المدينة ومخيمها علامة وطنية للمقاومة والمواجهة والثبات ونصرة الحق والتجذر في الأرض، والأمر اللافت للانتباه في الرواية هو التصريح بأن بيئة المقاومة صار لها إسناد جوهري مزدوج، الإسناد الأول هو البيت الفلسطيني الذي يتعرض للتفتيش، والخراب، والتدمير أمام مرأى الأبناء صغاراً وكباراً، والإسناد الثاني هو المدرسة الفلسطينية المتمثلة بالمعادلة ثلاثية الأبعاد: المعلم، والكتاب، والطلبة، وهذه الأبعاد الثلاثية كلها مهمومة بالمقاومة، وكلها ناطقة بالتواريخ والتجارب والأحلام المستقبلية بوطن عزيز حر.
والزمن في الرواية، هو زمن ما بين الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، والانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)، وجدولة النتائج لأعداد الشهداء، والجرحى، والمعتقلين، والبيوت التي دمرت أو نسفت، والحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي خرّبت، فطالتها الأذيات الكبرى وأفعال الطلبة المقاومة التي سمّوها (بروفات) ولعباً، لأنّ أبرز نشاط الفتية هو اللعب، وأفضل اللعب، كما قرّ في وعيهم، هو اللعب بالجنود الإسرائيليين الذين تجاسروا على الدخول إلى المناطق الفلسطينية، أو المرور بالقرب منها، فهم يقومون بتفخيخ الطرق التي ستعبر منها سيارات الجنود ومصفحاتهم، وقد باتت هذه الطرق معروفة ومحفوظة، وقد بات الإفلات من التفخيخ كابوساً لجنود الاحتلال ومأساة يومية، ومعنى (اللعب بالجنود) يتجلى في أن هؤلاء الطلبة/ الأبناء لا يمتلكون ألغاماً، ولا عبوات ناسفة، كل ما يمتلكونها هو أنهم يأتون بكتل حديدية، أو بطاريات منتهية الصلاحية، أو أجهزة كهربائية تالفة، ويمدون لها أسلاكاً ظاهرة، ويزرعونها في وسط الطرق التي ستمر بها سيارات ومصفحات الجنود الإسرائيليين، وهي، رغم ذلك، مؤثرة من ناحية جس (عرق الخوف) في نفوس الجنود الإسرائيليين الذين يوقفون سياراتهم ومصفحاتهم قبل الوصول إلى المفخخات الطرقية، ويطلبون النجدة، ثم يعالجونها وهم طيّ الخوف الشديد، وحين يتبين لهم أنها مفخخات بلا حشوات، يلعنون ويزمجرون ويهددون ويتوعدون، بينما الأبناء/ الطلبة يراقبونهم من بعيد وهم يضحكون، وكذلك الأمر يحدث حين يرفعون الأعلام الفلسطينية على أعمدة الكهرباء، والأشجار، فيطلب الجنود الإسرائيليون الرافعات لإنزالها، ويطلقون النار على الأعلام لحرقها وتمزيقها؛ كل هذا يبدي تحدي الأبناء/ طلاب المدارس للجنود الإسرائيليين، من أجل كسر طمأنينتهم وهم داخل مصفحاتهم وجرافاتهم المهولة، ومن أجل استنزاف أوقاتهم، وهم يقومون بفحص المفخخات الطرقية، وإنزال الأعلام الفلسطينية، ومن أجل إضعاف معنوياتهم حين يدركون كل هذا..هو لعب أبناء الفلسطينيين ولهوهم.
وتشير الرواية إلى أمر مهم آخر، وهو أن الطلبة استقطبوا أبناء العملاء المتعاونين مع الجنود الإسرائيليين وقادتهم، وعددهم قليل، لكي يكونوا معهم في مواجهة الجنود الإسرائيليين، ولو على سبيل اللعب بالجنود والتفرج على طقوس خوفهم وخيباتهم التي يعيشونها في الطرقات الفلسطينية، وقرب الأشجار في مداخل البلدات والقرى والمدن والمخيمات الفلسطينية، وقرب أعمدة الكهرباء التي تبدو مزينة بالأعلام الفلسطينية ذات الألوان الشارقة، ولكي يقول الإسرائيليون لمن هم حولهم إن الدخول إلى الفضاء الفلسطيني ما عاد نزهة، وأن على الجندي الإسرائيلي أن يمشي مع خوفه ورعبه أينما حل حين يدخل الأراضي الفلسطينية، وأن يعي ويدرك بأنه لص سرق الأرض، وليس له القدرة على الاحتفاظ بها.
رواية "اللعب بالجنود" لـ طارق عسراوي، رواية شغوف بالمستقبل والآمال كي تصير الأحلام وقائع جلية على أيدي أبناء المستقبل وصناعه، وليس عند الفلسطينيين من أحلام أبدى وأهم من الحرية، والعودة إلى الديار التي احتلت، والعيش بكرامة، وطرد المحتل الإسرائيلي الغريب إلى خارج الفضاء الفلسطيني، كمكان، وتاريخ، واجتماع، وعمران، وعقيدة، وثقافة.. وصيغة عيش.