"ما لا يُروى": واقعية ميسم هندي استكشاف للذات

من خلال تبنّيها النهج المباشر تسعى ميسم هندي للقضاء على أي حواجز أو غموض بين الفن وجمهوره.. ماذا قدّمت لنا هندي في معرضها الأول؟

يستضيف غاليري "مرفأ" في بيروت المعرض الإفرادي الأول للفنانة اللبنانية ميسم هندي، تحت عنوان “ما لا يُروى” (Unspoken).

وتعرض هندي (1986) في معرضها أشخاصاً متعدّدين، عاديّين، وفي وضعيات عادية في أماكن حياتهم، في صالة منزل، أو شارع، أو غرفة نوم، أو مستراح، أو مقهى، كأنهم أشخاص معروفون، وجوه وأجساد واضحة المعالم والتعابير، تقارب وجوههم البورتريه، وتبتعد قليلاً نحو التعبيرية، تجمعها نظرة القلق، والوجوم عاكسة بهم وقائع الحياة التي نعيش، وانعكاسات الواقع اللبناني المأزوم على وجوههم.

"ما لا يُروى" هي الحكايات القابعة خلف الجفون، وفي حركة الأجساد، والممارسة اليومية على سيجارة، أو فنجان شاي، وربما خمرة أيضاً. هي حال اللبنانيين، وقاطني لبنان، حيث تظهر وجوه عاملين متواضعي الحال، أو متدرّب على اليوغا، أو مقاتل موشّم الجسد، أو فتاة في ضياع تنتظر من المجهول ما لم يتحقّق، أو سيدة تحتسي القهوة الصباحية على شرفتها خلف زهور ونباتات الشرفة.

  • ميسم هندي
    ميسم هندي

المُشاهد للمعرض يشعر كأنّه في الشارع بما يراه من وقائع الحياة اليومية بصورة حادّة الخطوط، ومباشرة بألوانها الكثيفة، ولا غرابة أن تكون الفنانة قد زارت العديد منهم، واستمعت إلى رواياتهم، وقصصهم، معبّرة عن ذلك بقولها: "تكتم هذه اللوحات قصصاً عن الأصدقاء والعائلات، هم أصدقائي وعائلتي. يتشابه قلقهم أحياناً مع قلق الرائي، وهم أناس عاديون، في بيوتهم العادية، في مدينتهم العادية". 

تشبه الأعمال بواقعيتها المباشرة، اللوحات الفوتوغرافية، لكنها تتجاوز التصوير بحرفة فنيّة، بالريشة واللون، وتعلّق هندي على ذلك بقولها لـــ "الميادين الثقافية": "لا أعتبر أن دور الرسم الواقعي تصوير الواقع كما هو، بل هو يُحَرّفه، حيث يمكن للفنان تصوير واقع آخر، شخصيّ، يتجاوز واقعية التصوير والتوثيق".

وتوضح بالمقارنة مع التصوير الفوتوغرافي، أن "الرسم عكس التصوير الذي يلتقط لحظة من الزمن ويجمّدها، فالرسم يحرّرها من جمودها، وأعرف ذلك لأنني أحب توثيق ونشر مراحل العمل على اللوحة، فهي تتغيّر، وأحياناً يسكن وجوه الصور التي أخذتها شخصيات أخرى".

مناحٍ أخرى يمكن تلمّسها  بحيث "يتيح لي الرسم الواقعي اكتشاف الموضوع أكثر، ويمكنني أن أصل لأكثر من نتيجة للموضوع نفسه أو الشخص"، بحسب هندي التي تتعامل مع اللوحة كأنها رحلة شخصية وخاصة جداً، وتقول: "ربما لا أتشارك قصتها حتى مع الرائي، وحتى لو بدا له أن عناصر اللوحة مألوفة". 

للرسم الواقعي أهمية خاصة لدى هندي، رغم أنّ قلّة تعتمده، فإنه لا يندرج في إطار الرسم الكلاسيكي، والبورتريه المباشر، لكن الواقعية تتيج لهندي، وفق تعبيرها، "الغوص في جوهر الشخص أو الموضوع، وأستطيع من خلال الرسم أن ألتقط ليس فقط مظهر الناس الجسدي، ولكن أيضاً مشاعرهم، وصراعاتهم، وإنسانيتهم لتصبح كل ضربة فرشاة خياراً مدروساً لنقل مشهد أو سرد قصة". 

وليست الواقعية المفرطة في الرسم خياراً متردّداً، ففيه تجد الفنانة هندي أهمية أخرى على الصعيد الشخصي للفنان حيث، كما تقول: "تتحوّل عملية الرسم نفسها إلى تفاعل حميم بين الشخص أو الموضوع وبيني، كما يتيح لي الانتباه للتفاصيل ولتنوّع الضوء والألوان، لخلق تمثيل يتجاوز الطبيعة المستحيلة للحظة التصوير". 

وتؤكد هندي أن لوحاتها مباشرة "بشكل مقصود لأنني أؤمن بقوة التعبير الصادق وغير "المفلتر"، ولذلك استعملت عناصر مألوفة، ولأنني أهدف إلى التواصل بأفكاري، وعواطفي، وملاحظاتي بطريقة مباشرة".

ومن خلال تبنّي النهج المباشر، تسعى هندي لـــ "القضاء على أي حواجز أو غموض بين الفن وجمهوره"، مضيفةً أن "الاتجاه المباشر في لوحاتي هي وسيلة لالتقاط وتسليط الضوء على الصفاء والفورية لتجربة الإنسان، مما يتيح لي استكشاف تعقيدات العواطف، والعلاقات، والقضايا الاجتماعية، من دون تخفيف تأثيرها". 

إلى جانب آخر من خياراتها، تؤمن هندي بأن "الفن يجب أن يثير، ويتحدى، ويستدعي ردود فعل حقيقية، وأن يكون عملي مباشراً في تعبيراته، فهو طريقة لتحقيق ذلك".

بين الواقعية والتصوير

نزعة الواقعية لدى هندي تحيلها للتصوير الفوتوغرافي فهي تحب الفوتوغرافي، كما تستعمله كتقنية بديلة عن الموديل الحيّ، كما تقول، مستدركةً: "لكنني أعتبر أنني أستطيع التعبير أكثر من خلال عدستي الفريدة؛ أستطيع اللعب بالألوان، والتكوين، والمنظور لخلق شعور مرتفع بالواقعية أو اللاواقعية أو تحدّي التمثيل التقليدي للموضوع". 

وتعود للتمييز بين الرسم والتصوير، منحازة للرسم كفنّ يمكن فيه التوجّه نحو عوالم ومعانٍ مختلفة، وبرأيها فإن الرسم يقدّم تجربة لمسيّة وغامرة لا يمكن تكرارها في التصوير الفوتوغرافي، مثل عملية مزج الألوان وتطبيقها على القماش، ومشاهدة التحوّل، وتشكيل الصورة، لتمر اللوحة بعدة شخصيات حتى تستقر على شكلها وتعبيرها الأخير. 

وتخلص إلى ربط الرسم بالحب: "كنت أرسم الجلوس كفعل، ثم عرفت أنني أرسم من أحبّ لأعرفه أكثر".