مدينة شِبَام اليمنية: مانهاتن الصحراء
تتميز مدينة شبام في محافظة حضرموت، بناطحات السحاب الطينية الشاهقة الارتفاع، والتي يبلغ عمرها حوالى 500 سنة، ويصل ارتفاعها إلى نحو 30 متراً.
-
تذهلنا مدينة شِبَام بهندسةٍ لا نراها اليوم إلا في المدن الكبيرة والمتحضرة
لم يتوقّف اليمن يوماً عن إذهال الباحثين في شواهد الحضارة، فهذا البلد الذي يتموضع جنوبي شبه الجزيرة العربية، عاصر حضاراتٍ غارقةً في عمق التاريخ، بدايةً من الحضارات الصيهدية التي امتدّت من الألفية الثانية قبل الميلاد وحتى القرن السابع الميلادي، مروراً بمملكة سبأ وقتبان، ومملكة مَعْين وحضرموت، وصولاً إلى مملكة حِمْيَر. ولا يزال هناك كمٌ كبيرٌ من شواهد الحضارة الإنسانية في اليمن، التي ما تزال معالمها قائمةً إلى يومنا هذا.
ربما يكون سدُّ مأرب هو أول ما يخطر في بالنا عند الحديث عن المعجزات الهندسية للحضارات اليمنية. إلا أنَّ تاريخ هذا البلد يغصّ بمئات الشواهد والمعالم، وربما آلاف منها، التي لم تنَل حقّها من الرعاية والترويج.
من ضمن هذه المعالم، تقف مدينة شِبَام لتذهلنا بهندسةٍ لا نراها اليوم إلا في المدن الكبيرة والمتحضرة، فهذه المدينة المسوّرة تُعتبر أقدم شاهدٍ على حرفية الهندسة المعمارية اليمنية، وتتجلّى صورة هذه الحرفية في ناطحات السحاب الطينية الشاهقة الارتفاع، التي تشكّل أبنية المدينة بالكامل، وهي التي أكسبت المدينة لقبها الحالي: "مانهاتن الصحراء" أو "شيكاغو الصحراء".
تقع مدينة شِبَام في محافظة حضرموت، وتبعد عن العاصمة صنعاء حوالي 990 كيلو متراً، وعن المكلا، عاصمة محافظة حضرموت، 350 كيلو متراً.
وعلى الرغم من أنَّ أبنية المدينة الموجودة اليوم تعود إلى القرن الـ16، إلا أنَّ النقوش الأثرية الموجودة فيها تشير إلى أنَّ المدينة تعود في التاريخ إلى القرن الـ3 الميلادي، حيث كانت تعتبر عاصمةً لمملكة حضرموت.
بنيت المدينة على طراز المدن المسوّرة، ويعتبر سورها العالي اليوم السور الأقدم الذي ما يزال على حاله في اليمن. أما أبنية المدينة الشاهقة الارتفاع فقد بُنيت بشكلٍ متلاصقٍ، واستُخدم في بنائها الطوب الطيني، الذي كان يُجلب من شطآن الأنهار القريبة.
اكتسبت شِبَام أهميتها قديماً بسبب أهمية موقعها في وادي حضرموت، حيث قيل: "إذا أردت أن تحكم وادي حضرموت، فيجب أن تحكم شِبَام"، ولذلك فقد تعرّضت على مرّ العصور لغزواتٍ متكررةٍ، وهذا ما يفسر التحصين الذي يحيط بهذه المدينة، بدايةً من الحصون الدفاعية المبنية على خطوطٍ متوازيةٍ، والسور الدفاعي العالي المحيط بالمدينة، وصولاً إلى البناء الشاهق للبيوت، والذي يسهّل عملية حمايتها في حال خرق الخطوط الدفاعية الأولى.
أما البيوت المتلاصقة، والتي يتراوح ارتفاعها بين 5 و8 طوابق، فتصل بينها ممرات تدعى "مَسلف"، سهّلت تنقّل المدافعين عن المدينة، بالإضافة إلى السراديب، أو ما يعرف بـ"الخُن". واليوم، تُستخدم هذه الممرات لتنقّل النساء بين البيوت، من دون الحاجة للنزول إلى الشارع.
-
تقع مدينة شِبَام في محافظة حضرموت وتعود أبنيتها إلى القرن الـ16
ويُرجِّح الباحثون في تاريخ اليمن سر الغزوات المستمرة على مدينة شِبَام بغناها، حيث تميّزت بموقعها الهام الذي يتوسط وادي حضرموت، وشكّلت نقطة التقاءٍ لمعظم الوديان الفرعية، كما أنّها كانت نقطةً أساسيةً على طريق قوافل البهارات والبخور والحبوب والتمور.
وعلى الرغم من أنَّ درجات الحرارة في تلك المنطقة يمكن أن تصل إلى 40 درجةً مئويةً، إلا أنَّ البناء الطيني يخفف وطأة الجو الحار، إلا أنَّ هذا ليس الشيء الوحيد المذهل في هندسة بناء ناطحات السحاب الطينية هذه، فجدران الأبنية صُنعت بطريقةٍ عبقريةٍ، إذ تقلّ سماكتها كلما ارتفعنا في الطوابق لتخفيف الضغط عن البناء، بالإضافة إلى شكل البناء الهندسي نفسه.
عادةً ما تسكن عائلةٌ واحدةٌ فقط في المبنى، الذي يمكن أن يصل ارتفاعه إلى 30 متراً، حيث استخدم الطابق الأول كإسطبلٍ للحيوانات، واستخدم الطابق الثاني لتخزين الطعام و المؤن، أما الطابق الثالث فاستخدم كمسكن للعائلة، تفوح منه رائحة البخور، وتنطلق خارجةً من الشبابيك الخشبية التي تزين تلك الأبنية.
قاومت الأبنية قساوة السنين، لنراها اليوم شاهداً على التاريخ، بفضل العناية الدورية بها، فالترميمات والإصلاحات كانت تتمُّ بشكلٍ دوريٍّ للحفاظ على البناء من الانهيار والتآكل المستمر، بفعل الرياح والأمطار وعوامل التعرية الحرارية والفيضانات، كما حدث عندما تضررت أساسات العديد من المباني بالفيضانات في العام 2008، بالإضافة إلى العوامل البشرية المتمثلة بالحروب والهجمات، كما حصل في العام 2009، عندما استهدفت من قبل تنظيم "القاعدة"، بالاضافة إلى القصف خلال الحرب على اليمن.
استمرت الجهود للحفاظ على هذا الإرث التاريخي، سواءً من خلال السكان المحليين، أو بالتعاون بين المنظمات العالمية، ليس فقط للحفاظ على المدينة كمِعلمٍ أثريٍّ وتاريخيٍّ، وإنما أيضاً كمسكن للعديد من العائلات اليمنية. وكانت إحدى هذه الخطوات الإنقاذية "مشروع التنمية العمرانية" في شبام، الذي تأسس في العام 2000، بتمويلٍ مشتركٍ بين الحكومتين الألمانية واليمنية، وتمَّ من خلاله ترميم أكثر من 200 منزل.
الجدير بالذكر أنَّ منظمة "اليونسكو" كانت قد أضافت في عام 2015 مدينة صنعاء القديمة وشبام على قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر، وقد تمَّ إدراجها في العام 1982 في قائمة "اليونسكو" للتراث العالمي.