"صلاة القلق" لمحمد سمير ندا : رواية التاريخ وسرديّة النكسة

هذه الرواية كُتبت بأسلوبٍ شعريٍّ وملحميٍّ، ما جعل النص موسيقياً وسلساً على أذن القارئ، فيه من الانسجام الحسّي ما جعل الرواية فائضة بالمشاعر الإنسانية الجيّاشة.

  • رواية
    رواية "صلاة القلق" لمحمد سمير ندا

نقرأ رواية "صلاة القلق" الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية [بوكر 2025]، نتجوّل في الزمن الموازي، من نكسة 1967 المستمرة إلى زمنٍ آخر، وفي أمكنةٍ معزولةٍ عن العالم حيث " النجع المناسي" المنطقة التي تقع بصعيد مصر، ويعتبر أهلها أنّها حقل ألغام للعدو الصهيوني الذي يحاول احتلالها والسيطرة عليها باعتبارها قريبة من الحدود، ويعيش أهل "النجع" قلق الوجود ومواجهة حرب الإبادة للدفاع عن حقّهم في بلادهم وهويّتهم، ويمثل  "خليل خوجة" صوتهم الإعلامي للعالم وهو صاحب صحيفة  "صوت الحرب"، وهو أيضاً، المسؤول عن عمليات التجنيد ضدّ العدو الصهيوني، و"الشيخ أيّوب" إمام المسجد الذي يقيم صلاة جديدة سمّاها "صلاة القلق"، وإيمان أهل النجع بالحكايات القديمة، ومقاومتهم جزء لا يتجزأ من دفاعهم عن الخريطة بأكملها، وهم تربطهم علاقة الدم بفلسطين والبلاد المجاورة لهم، ويعيشون القلق ذاته، القلق الذي تعيشه المنطقة بأكملها، فتتردد الأسئلة الوجودية باستمرار في الرواية، هل نحن من الخريطة أم خارج الخريطة؟ هل نحن من هذا العالم؟ ولا سيما في صفحة 109 يقول:

" النجع بأكمله غائبٌ عن خرائط الدولة الرسميّة، بينما قوافل التجّار والغجر تمرُّ بالنجع من دون أن تلتزم بالخرائط التي تُنكر وجودنا، " فتردّد من قادها حظٌّ عاثر إلى مجادلتها: ماذا تقصدين؟ فتجيب شواهي حانقة: لو أنّ النجع دُفن برمّته في الخرائط الرسميّة، فلماذا نذكر بحدوث معجزةٍ كمعجزة القدّيس الذي مرّ في أرضٍ طوي موضعها في سجلات الدولة، فأحال قحولها (حقولها) اخضراراً".

كما تتقسم الرواية إلى جلسات للكتابة وكأنّها توثيق لأحداث الحرب من هواجس وأوهام القلق والوساوس، والحاجة الدائمة للكتابة وتوثيق الزمن لتشكيل سرديّة النكسة، وفي كل فصلٍ وضع الراوي اقتباساً من أغاني عبد الحليم حافظ التي غنّاها في زمن حرب النكسة 1967، وهي إشارة إلى التراث الذي يشكل حالة البلاد وشكلها في تلك الحقبة من الزمن، كما أنّ الرواية كُتبت بأسلوبٍ شعريٍّ وملحميٍّ، ما جعل النص موسيقياً وسلساً على أذن القارئ، فيه من الانسجام الحسّي ما جعل الرواية فائضة بالمشاعر الإنسانية الجيّاشة، تأخذنا إلى عوالم أخرى، وتشعل الأسئلة الفلسفية داخلنا: من نحن؟ هل نستطيع أن نتحرر من ذواتنا؟ هذا السؤال هو رحلة أهل النجع في العالم الغائب عن عالمهِ، وتطرح أسئلة الإبادة والهويّة والحرب المستمرة من زمنٍ إلى زمنٍ، مع اختلاف المشاهدوالحكايات، وليس لدى أهل النجع سوى الصلاة،"صلاة القلق" كما سمّوها، وربما هي بالنسبة لهم الإنصات إلى الذات والتفكر في الوجود، وحقل الألغام كالوباء الغريب، يعتقدون أن قريتهم مفخخة به، ربما، هو الخطر الأكبر على وجودهم المهدد بالتلاشي، و"اللغم المفخخ" هو رمزيّة الخداع المقنّع المزروع في الأرض الذي يشتهر فيه العدوّ الصهيوني، في كلّ أرضٍ يحتلّها، وربّما، هو النيزك الذي سقط من الفضاء كالقمر الصناعي، قد يُحدث وباءً خبيثاً في المستقبل، فيبقى سرّهُ مجهولاً، كحقلٍ من الألغام، وهو تأكيدٌ على النكبات المتجددة بأساليبٍ مختلفة، وأزمنةٍ مختلفة، وأدواتٍ مختلفة، حيث يشعُّ ضوءاً عظيماً من السماء يصيب الأجنّة في الأرحام، فيولدون برؤوس غريبة، كما تضيء الرواية على مقاومة النسيان بالتذكر، والخوف من النسيان باعتبارهِ جزءاً من الموت، ويُشير الروائي محمد سمير ندا إلى أهمية الشعارات التي كانت ترفع في تلك الحرب، وخطابات جمال عبد الناصر وقوّة تأثيرها،وانتشارها بين الناس، وهناك قصص كثيرة في هذه الرواية المبهرة، والتي تحتاج إلى دراسة كبيرة للإضاءة على عوالمها الرحبة المفتوحة على المصائر المتعددة، هل هي رواية النجع والتراب والحرب والغرائب الخمس؟ أم هي رواية العالم المشحون بالحروب والمعارك والبحث عن الأسطورة / المخلص؟ وأصحاب العقول الرشيدة؟ يقول في صفحة 231 :  

" أفكّر : لمَ لا يجود الله عليَّ بعالمٍ لا يسكنهُ سوى صبيةٍ صامتين، لهم جميعاً ملامح حكيم، ابن الخوجة المعمّد بالبراءة، ذي الوجه الموشوم بالحزن والفقد والشوق؟ "  

هو الهاجس الكبير من المستقبل، أين الحكيم؟ وما هي ملامحهُ في رؤوس الأجنّة الغريبة كالسلاحف التي ولدت بعد الوباء الشنيع الخارج من النيزك المفخخ؟ كلّها أسئلة مفتوحة ولا من إجابة واضحة تشفي الناس من القلق، والشعور بالفقد. أمّا شخصية زكريا النسّاج الذي يعيش أحلامهُ النضالية وهو يتساءل:" أيظنّني حقّاً زكريا النسّاج؟ أم تراهُ يعرف أنّني زكريا موسى الريماوي، ابن قرية القسطل الذي ناضل أبوه برفقة عبد القادر الحسيني حتّى استشهد الحسيني فغادر فلسطين؟"، هنا تتضح شخصية زكريا النساج ومدى تطلعاته، ولاسيما حين يتقمص دور الراوي في الرواية فيتكلّم الراوي بلسانه، فيأخذ حيّزاً مهماً من الرواية، وعائلة النساج الكبيرة،فيكون أحد أبنائه طبيباً في مستشفى العباسية للصحة النفسية، وهو الذي ذهب لمقاومة العدو الصهيوني ولم يرجع.

الرواية واسعة، ويتنقل فيها الراوي من شخصية إلى أخرى، وفي النهاية يكشف الراوي أنّهُ ابن خليل خوجة الصامت الذي يبحث عن الدواء لعلاج الصامتين في النجع، لكنّه يلجأ للكتابة والقراءة للخروج من حالة الصمت إلى حالة النطق الأكثر تأثيراً في الحرب، ويبدأ بقراءة الأوراق حيث تتحوّل فصول الرواية إلى أوراق مرقمة يقرأها حتى النهاية، وتصبح نهاية الرواية هي البحث عن الأصوات الحقيقية، وطمس أصوات الحرب والقذائف، وجمع نغمات الصوت لتكوين نشيد واحد، ربما يكون نشيد النصر المنشود، فنبرة الصوت مرتبطة بالحق في الكلام والوجود والصراخ، والصمت هو ضياع الحقيقة وكتم صوتها، فالحرية هي الصوت في العقول لطرد الصمت والشعور بالهزيمة وإن كانت بحجم النكسة، وتبقى الصلاة في نهاية المطاف هي خشوع المنتظرين في "نجع المناسي"وسبيلهم الوحيد للخروج من قبضة المستبدّين والطغاة.

اخترنا لك