داريوش شايغان وفوضى الهوية
برغم وجود فروق واختلافات ثقافية عديدة، إلا أننا نشهد بروز حضارة عالمية كبرى، فيها فائض للتقنية وخواء أو فقد للمعنى، كما لو أن عالم اليوم "ما عاد أمامه من هدف سوى العودة الى الوراء".

قراءة: عقيل سعيد محفوض
تمثّل الهوية أحد تمزقات
وإشكالات الزمان العالمي اليوم، وثمة مقاربات كثيرة للموضوع في إطار تفسير
التصدعات والصراعات الجارية في العالم.
ويأتي كتاب "هوية
بأربعين وجهاً" للكاتب الإيراني الكبير داريوش شايغان صاحب الجهود العلمية
والثقافية الكبيرة في تحليل السياسات والتجاذبات بين الشرق والغرب، بالتركيز على
مدارك الشرق عن نفسه وعن علاقته بالغرب وحتى طبيعة السجال الراهن حول الحضارة
العالمية وتأثير التقنية على الثقافة والفكر والدين وبالطبع الهوية.
يتحدث شايغان عن الهوية
الريزومية، وهو مفهوم يستند إلى نوع من النبات المعروف بـ "الريزوم"
الذي يتميز بامتداد جذوره بشكل أفقي تحت التربة، لتظهر فوقها بشكل متواصل ومستمر،
بحيث يكون من الصعب التخلّص منه. ويتسم بأنه لا مركزية له ولا تراتب، وهو بلا
بداية أو نهاية، وأن أي جزء صغير منه يمكن أن ينمو ويتمدد ويتجدد بشكل مستمر.
وفي الكلام عن
"الريزوم" تشبيه بليغ لمعنى الهوية، وفق عالم الحداثة الفائقة أو عالم
السرعة، وفق تسميات وتعابير يستعيرها من جان بودريار وبول فيريليو.
وقبل الخوض في مناقشة مفهوم
شايغان للهوية، علينا أن نوضح عنوان الكتاب، وهو بالأساس عنوان لأحد الفصول، و"أربعون
وجهاً" أو "قطعة" تعبير يستعيره الكاتب من المسرح أو الفلكلور الإيطالي
حيث يرتدي البطل ملابس مؤلفة من أربعين قطعة مختلفة الألوان.
يتناول المحور الأول "فوضى
البحث عن هوية" حيث تصطف أشد صور الوعي الإنساني بداوة إلى جانب لعب أنتجتها أعقد التقنيات الحديثة من
دون أي منافسة، ذلك أن "كل الأشياء حاضرة في زمن واحد". (ص 35)
وهكذا لا توجد حضارة
متجانسة في العالم. وعلى الرغم من وجود فروق واختلافات ثقافية عديدة، إلا أننا
نشهد بروز حضارة عالمية كبرى، فيها فائض للتقنية وخواء أو فقد للمعنى، كما لو أن عالم
اليوم "ما عاد أمامه من هدف سوى العودة الى الوراء" (ص 46)، وإعادة
النظر فيما كان، مع هستيريا التقدم والتقانة، والتدقيق في محطاته وثوراته وعلومه
وتمركزاته، ومن إعادة الاعتبار للماضي والخرافة والهم والثقافات الأخرى الخ ..
ينتقد شايغان بشدة فكرة صدام
الحضارات الخاصة بـصموئيل هنتنغتون، ويرى أن ثمة صعوبات في رسم ملامح وتعيين
الحضارات على طريقة هنتنغتون، ذلك أن "الحداثة تركت آثارها على جميع
الحضارات"، (ص 54). وفي اليابان مثلاً ليس ثمة معاناة بخصوص الهوية، وهم
يدركون أنهم جزء من عالم الحداثة، عالم أبدعه الغرب (ص 56). هنا يضع شايغان بده
على نقطة أساسية، يقول إن البلدان الآسيوية مثل اليابان وكوريا وغيرها
"يحسبون أنفسهم موفقين، على أن توفيقهم أشبه بنجاح التلميذ المجد الذي يقدم إجابة
جيدة في امتحان بلغة أجنبية" (ص 57). وهكذا فإن وضع العوالم غير الغربية يقع
"بين حداثة تتكرس لكنها لم تستوعب تماماً، وتراث آيل إلى الانهيار ولن يعود
لصورته الأولى إلى الأبد" (ص 57).
التعددية الثقافية
تتأرجح البنى الاجتماعية
والهوياتية في غير مكان من العالم بين حدين أو ثنائيتين هما: الاندماج والهوية
الواحدة، والتعدد والهويات المتعددة، وتجد في العديد من البلدان محاولات محمومة
للتأكيد على حدي الثنائية المذكورة بصورة متزامنة، ذلك أن مجتمعاتها موحدة ومتعددة
في آنٍ واحد.
وتمثّل التربية والتعليم أساساً
في سياسات الهوية والاندماج أو التعدد الاجتماعي، ويسوق ملاحظات البرازيلي باولو
فريري ومدرسة فرانكفورت ومفكرين مثل جاك دريدا وميشيل فوكو في هذا المجال. ويبدو
أن مطالب الملوّنين في الولايات المتحدة الأميركية بالاعتراف تطرح تحديات متزايدة
على معنى الهوية والاندماج الاجتماعي.
يفرّد شايغان حيزاً كبيراً
لمناقشة النزعات القومية وأوهامها القريبة غالباً من الهذيان، والمفضية أحياناً
إلى الجمود وتحجر الهوية. ويرى أن الهويات الحدودية أو الهجينة، (ص 88) تمثل ظاهرة
متزايدة في عالم اليوم. ويتحدث عن نقد أعمى للمركزية الغربية، ص90، ودعاوى كاذبة
عن مركزيات أو أصول أفريقية للحضارة الغربية. ويصف تلك الدعاوى بأنها "مجنحة
فارغة" وفجة ومتحجرة (98)، وشكل من أشكال الرجعية وتحمل "وصمة الوثنية
الأولى"، (ص 101).
هوية بأربعين وجها
يطرح الكاتب الإيطالي آري
دي لوكا في كتابه "الطابق الأرضي" فكرة وجود عدد من الأشخاص داخل شخصية
الإنسان الواحد، ولو أننا "مرغمون على الظهور كفرد واحد"، ص 107، ولكننا
نُعوِّد الأشخاص المتنوعين داخلنا على الصمت والسكون والتنحي. ويضيف أن معاناة
الإنسان في عالم اليوم هي مع كثرة أطياف وأبعاد الهوية، ما يجعلنا "مستعدين
لهوية مركبة"، أو هويات متزامنة.
كما أن "الفضاءات التي
تصنعنا، فضاءات متنوعة غير نقية. لم تعد جذورنا واحدة، ولم نعد نعيش لوحدنا في أرض
مغلقة"، (ص 122)، وكأننا نجمع في دواخلنا كل أحقاب التاريخ الانساني.
احتل موضوع الهوية مقاماً
كبيراً في الفضاء الإسلامي، العربي والإيراني والتركي، ولو أن الدين لا يمثل ركيزة
محضة للهوية، إذ يتداخل القومي مع اللغوي مع الاجتماعي مع الحداثي. وباعتبار أن الكاتب
إيراني فإنه يقدم إضاءات غنية عن بلده، يقول إن "استحضار التاريخ" من
قبل الإيرانيين يمثل عزاء لهم عن "إخفاقاتهم الراهنة". يضيف "إننا
نتنفس في فضاء الحسرات، وكأنما لا أمل لنا إطلاقاً سوى ذلك الماضي العتيد الذي ذاب
وجودنا في سطوته وغرق في أحلامه الوردية" (ص 131).
وهكذا فإن الحكام العباسيين
هم في نظر الايراني "شديدو التأثر بالعناصر الإيرانية، ويمكن الزعم أنهم امتداد
للدولة الساسانية بنحو من الأنحاء" (ص 132). وهذه إشارة بالغة الدلالة على
طبيعة فهم الإيرانيين للتاريخ الإسلامي والمشرقي.
الأنطولوجيا الهشة
تقترن في عالم اليوم ثلاثة
ظواهر يحتاج بعضها بعضاً هي: اللا سحرية، والتقنية (الخضوع للتقنية)، والمجازية
(صناعة المجاز).
وأما اللا سحرية فهي إقصاء
كل الصور الرمزية والإحالات، وردّها إلى أعماق النفس، أو تفريغ الرموز التي كانت تُسبغ
السحر على العالم، وتحويل الفضاء والسماء والكون إلى فضاء هندسي نمطي الأجزاء. غير
أن الإنسان لا يستطيع مواصلة الحياة من دون إحالات، ومن ثم فإن عالم اليوم يشهد
نمطاً من "إرواحية تقنية"، أي عودة كل أشكال الوعي الدفينة لتعيش بشكل
متزامن موزاييكي، ما يعني وجود أنماط من المدارك والهويات المرقعة والمختلفة
والمختلطة أو غير المتجانسة لدى الإنسان الفرد كما لدى الجماعات، في ظل عالم
ميديائي أو مجازي أو افتراضي مفتوح على تكوينات وفضاءات تقوم مقام الواقع أو ما
فوق الواقع، ونحن هنا نستعير تعبير جان بودريار.
الهوية في عالم اليوم،
مفتوحة على كل ضروب الهجنة والتلاقح والاختلاط والانشقاق والتشظي والاندماج والتخليق
والتغيير وبروز مضامين جديدة، بما يظهر "وهمية العالم وشبحيته"،
و"إعادة تنشيط وتثوير الإنسان المعاصر إلى درجة الانفجار"، (ص 140).
وهذا يضع العالم أمام مأزق
مركب ومفتوح، وثمة صعوبة في التفكّر والتدبّر فيه، أو ثمة شبه استحالة في القبض
عليه، وكيف يمكن تشخيص الحلول اللازمة. غير أن شايغان الذي يرى أن عالم اليوم يعكس
حال الغرب وتأثيره على كل شيء، يرى أن الغرب هو المشكلة وهو المطالب بالحل، وكما
يقول فاغنر في بارسينال، "لا مرهم للجرح سوى السلاح الذي أوجده"، والجرح
والسلاح بيد الغرب اليوم، وعليه تولي الأمر، و"إذا كان ثمة نور فلن يكون إلا
من الغرب" (ص 144).
هنا واحدة من المآخذ
الكبيرة على الكاتب، إذ يعد الغرب قدراً للعالم، وأنه هو الحكم النهائي في الأمر،
ولا يغيب عنا أنه أنهى كل أمل لدى العوالم غير الغربية من أن تعود إلى التاريخ،
إلا بما يتيحه الغرب لها أو ما يمكنها أن تنتزعه منه!.
كيف أمسى العالم شبحاً؟
شهد العقل أفولاً
تراجيدياً، وقيل إن العقل ضاع في غمرة التقنية، وثمة "نزعة روحية" تتحرك
بموازاة التطورات التقنية المذهلة، وأخذ الإنسان تستهويه قراءة الطالع، ويبدو أنه "ما
عاد يثق بعقله"، وكأن ما يحدث في داخله، "ليس نزعة روحية، وإنما عودة
تعسفية للخرافات"، (ص 156).
وثمة تكاثر غير مسبوق أو
"توالد انفجاري" للفرق
والجماعات والأديان وشبه الأديان في المجتمعات الغربية. وقد بيعت أربعة ملايين
نسخة من "أصول عقائد الكنيسة الكاثوليكية"، منذ عام 1992. أما مبيعات رواية
الخيميائي لـبولو كويلو فوصلت إلى عشرة ملايين نسخة. (ص157). هذا يعني أن العالم
اليوم يعود إلى السحر وإلى نوع من الانبهار، وإلى "الحاجة إلى الأمور غير
العقلانية، وإلى تكريم المجهولات وعبادتها، وإلى النزوع الطفولي للغرائب". (ص
155).
كان من شأن الثورة التقنية
والتحوّلات النفسية التي يشهدها عالم اليوم أن "تنقلنا من الحقيقة إلى المجاز،
بمعنى أن نصل إلى واقع ينصهر فيه الزمان والمكان ويتكاثفان ليصنعا زمناً حقيقياً
آنياً مباشراً"، (ص 167)، وبروز نوع من المدارك والصور والهويات المعلقة،
ونحن هنا نتدخل على النص، بإيحاء استناده (النص) إلى السهروردي، (ص 169)، والهويات
المنعكسة، والهويات المجازية، والرقمية.
يشهد عالم اليوم تكاثفاً في
الإحداثيات الزمانية والمكانية، وضياعاً لإحداثيات الجغرافيا المألوفة والمعروفة، بشكل
"يسلب الحجم من المكان" بتعبير بول فيريلو، ص 181. وهذه خسارة لا تُعوض،
بتعبير شايغان، ذلك أنها "تؤدي إلى ضمور الأمور المحلية المألوفة تحت وطأة
الزمن الحاضر غير المحدد"، ص 81. كما "تتيح الانتقال من الداخل إلى
الخارج ومن الخارج إلى الداخل"، ومن الذهني إلى العيني، ومن
"الهنا" إلى "الهناك"، ص 184، ما يمثل أحد محاور التأويل الروحي في
جميع الثقافات. وسوف يتحول الإنسان إلى كائن معتمد بالكلية على التقنية، ص 190، التي
تصبح أقرب للوباء ومولد مخاطر لا نهاية لها.
بعد تكثيف لآراء بول
فيريليو وجان بودريار عن عالم الزمان والمكان والصورة والإدراك في عالم اليوم، ينهي
شايغان الجزء الأخير من الكتاب، بالقول إن "استشراف مستقبل البشرية ينذر
بالخطر" في عالم يرزح "تحت وطأة الكوارث والويلات، إذ كل شيء في هذا
العالم يبدو مقلوباً ومعكوساً وعرضة لشتى المتناقضات التي تربك الاتزان، فلا شيء
محدداً ومعلوماً في هذا العالم على الإطلاق، ولا شيء يتموضع في مكانه
الحاسم". ص 197.
يقدم شايغان في كتابه نقداً
عميقاً لمفاهيم الدين والقومية والحضارة والثقافة والتقنية والعولمة والصورة، ويرى
أن كل شيء ممكن بل كل شيء محتمل في عالم اليوم، وخاصة أنه عالم من المرايا
والتخليق والإبداع، بقدر ما هو عالم التمزيق والتفتيت والتحطيم للمدارك والرؤى
والقيم والأيديولوجيات والعقائد.
انتقد شايغان بشدة نقاد
المركزية الأوروبية وحراس الهويات كما لو أنه يدعو إلى التمسك بـ"المركزية
الغربية"، ومن الواضح أنه لا يقصد ذلك بالتمام، وإنما يحاول أن يضع الأمور
مواضعها، ولو أن ذلك محفوف بمخاطر كثيرة في عالم تغيرت فيه مفاهيم المكان والزمان.
يقول شايغان إن الغرب هو
الداء وهو الدواء، وهو المُعوّل عليه في إبراء الجراح، إن كان بإمكانه ذلك. ويتقصى
مجازياً "أربعين وجهاً" للهوية، ولكنه يدرك أن الهوية "جذمورية"،
كما في استعارة بليغة له، ويمكن لها (الهوية) أن تتجلى بألف وجه ووجه، وأن تتخفى
بألف طريقة طريقة، أو بتعبير أدق إن ثمة
عدداً لانهائي من وجوده الهوية واحتمالاتها وتشكّلاتها وتمثّلاتها في عالم اليوم.
وطالما أن شايغان يُعوّل
على الغرب في التوصل إلى حل لمسألة الهوية، فإن ذلك يحيل إلى نوع من العدمية تجاه
ما هو غير غربي، الذي يغيب ليحضر بوصفه احتمالاً أو فولكلوراً أو تهويمات بلا
ذاكرة، وأساطير، وأدلجات فجة، وأشكال وطقوس ورموز لكن من دون القدرة على أن تقوم
بأي دور فعال في عالم اليوم.
أظهر شايغان معرفة موسوعية
واطلاعاً كبيراً على الثقافة العالمية اليوم، وتنويعاً مدهشاً في مصادر التعبير
واللغة والرموز، من السهروردي إلى فوكو ودريدا وفيريليو، ومن حضارات الصين والهند
وإيران والعرب والترك إلى أوروبا وأميركا اللاتينية، ومن البوذية إلى المسيحية
والإسلام، ومن الشامانية الآسيوية إلى التصوف والعرفان الإسلامي، إلى ما بعد الأديان
أو أديان الحداثة الفائقة التي تتوالد بكثيرة جذمورية فائقة!. وهذا ما يجعل كتاب
شايغان نصاً بالغ الثراء والحيوية والقوة، حتى لو اختلفت معه في كثير من طروحاته!.
* الجُذْمُور في اللغة هو ساق نباتيَّة أرضيَّة شبيهة بالجِذر العرضيّ. عرّف الفيلسوف دولوز "الجذمور" بأنه "شكل من أشكال الوجود التي تبرز التعدد، وإن تشهد على المرجع أو الأصل الواحد. فالجذمور بخلاف الشجرة ليست له وضعية أو نقطة محددة، وإنما يعبّر عن نفسه بواسطة الخطوط (العلاقات) فحسب، فليست للجذمور بداية ولا نهاية، لكن له دائماً وسطاً (ليس مركزاً) ينمو عبره ويطفح، ومن أهم خصائص الجذمور أن له مداخل متعددة، وأنه يتضمن ممرات ومسارب للانفلات. ولعل أساس العلاقة بين مختلف النقط المتضمنة في الجذمور، إن أي نقطة يمكنها أن ترتبط بأي نقطة أخرى داخل نفس النسيج، بل ويلزمها ذلك".
* الجُذْمُور في اللغة هو ساق نباتيَّة أرضيَّة شبيهة بالجِذر العرضيّ. عرّف الفيلسوف دولوز "الجذمور" بأنه "شكل من أشكال الوجود التي تبرز التعدد، وإن تشهد على المرجع أو الأصل الواحد. فالجذمور بخلاف الشجرة ليست له وضعية أو نقطة محددة، وإنما يعبّر عن نفسه بواسطة الخطوط (العلاقات) فحسب، فليست للجذمور بداية ولا نهاية، لكن له دائماً وسطاً (ليس مركزاً) ينمو عبره ويطفح، ومن أهم خصائص الجذمور أن له مداخل متعددة، وأنه يتضمن ممرات ومسارب للانفلات. ولعل أساس العلاقة بين مختلف النقط المتضمنة في الجذمور، إن أي نقطة يمكنها أن ترتبط بأي نقطة أخرى داخل نفس النسيج، بل ويلزمها ذلك".