"أميرة المريخ" بين الحقيقة والأسطورة
المريخيون الخضر ليسوا وحدهم على كوكب المريخ (أو برسوم في لغتهم). فهناك أيضًا جنس آخر يشبه البشر إلى حد كبير، في الطول والملامح والتكوين الجسماني، والفارق الوحيد هو لون البشرة.
صدرت أخيراً عن دار آفاق في القاهرة ترجمة لرواية "أميرة المريخ" الصادرة سنة 1912 للكاتب الأميركي إدغار رايس بوروس وترجمة د. شهرت العالم. وتعد رواية "أميرة المريخ" واحدة من كلاسيكيات أدب الخيال العلمي الأميركي في بداية القرن العشرين، وقد ألهمت العديد من كتاب الخيال العلمي لاحقًا مثل جاك فينس وراي برادبري وآرثر كلارك وغيرهم، وتدور أحداثها في نسخة خيالية من كوكب المريخ، حيث الصحراء الجافة والظروف البيئية القاسية، والأجناس القليلة الباقية تكافح من أجل البقاء في هذا العالم الموشك على الفناء.
ولد إدغار رايس بوروس سنة 1875 في شيكاغو، لعائلة تنحدر من أصول إنجليزية، وتخرج من الأكاديمية العسكرية في ميشيغان، ولكنه لم يستمر طويلًا في الحياة العسكرية بسبب خلل في أحد صمامات القلب، أدى إلى تسريحه من الخدمة العسكرية.
انتقل بوروس بعدها بين العديد من الأعمال الصغيرة، حتى صار تاجر جملة بحلول عام 1911، وفي تلك الأثناء كان يستغل وقت فراغه في قراءة مجلات الخيال الرخيصة Pulp-Fiction. وقال في عام 1929 إنه يتذكر ما جال بذهنه حينها: "إذا كان الناس يقبضون ثمن كتابة هذا الهراء في هذه المجلات، فبإمكاني كتابة هراء مثله. بل في الواقع رغم عدم كتابتي أي قصة من قبل، فأنا على يقين أن باستطاعتي كتابة قصص مسلّية كهذه بل ربما أفضل من كل ما صادف لي قراءته في هذه المجلات". وبحلول شباط - فبراير 1912 كتب قصته الأولى "أسفل قمريّ المريخ" وحصل مقابلها على 400 دولار (ما يعادل 10,143 دولار اليوم) وهي القصة التي أعيد نشرها بشكل منفصل لاحقًا تحت اسم "أميرة المريخ".
في شهر تشرين الأول- أكتوبر من العام نفسه 1912، كتب بوروس روايته الأشهر "طرزان الرجل القرد"، وهي روايته الأشهر، وكتب بعدها قرابة 25 رواية حول شخصية طرزان ومغامراته، وقد تحولت طرزان إلى فيلم سنة 1918، تلته أفلام أخرى في سنوات لاحقة. وإلى جانب سلسلة مغامرات المريخ ومغامرات طرزان كتب بوروس سلاسل أخرى من الروايات، مثل مغامرات كوكب الزهرة ومغامرات القمر وغيرهما، وصارت شعبية بوروس وأعماله والأفلام المقتبسة عنها عالمية وترجمت أعماله إلى أكثر من 30 لغة وبيعت منها ملايين النسخ حول العالم.
قال راي برادبري مؤلف رواية "فهرنهايت 451" في حوار معه عن بوروس إنه: "ربما يكون أكثر كاتب ملهم في التاريخ". وقال إنه: "بتقديم المغامرة والرومانسية إلى جيل كامل من الفتيان فقد شجّعهم على الخروج وأن يصيروا مميّزين". وقال روديارد كيبلنج مؤلف رواية "كتاب الأدغال" إن روايته مستلهمة من مغامرات طرزان، ووصف بوروس بأنه عبقري العباقرة.
المريخ بين العلم والخيال
في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان العالم كله متأثرًا بنظريات العالم بيرسيفال لويل عن المريخ وخرائطه التي رسمها لسطح الكوكب الأحمر، وافترض وجود حياة ذكية سابقة وحضارات قديمة بائدة على سطح المريخ. كان لهذه الفرضيات والنظريات والخرائط أثر كبير على الكُتّاب في تلك الفترة، حيث أطلقوا لمخيلتهم العنان لتخيّل شتى أنواع الحياة السابقة على المريخ، ومدى التقدم التكنولوجي الذي قد يكون وصل إليه جيراننا في الكوكب الأحمر، ومن هؤلاء الكُتّاب كان إدغار رايس بوروس.
رواية "أميرة المريخ" هي أولى روايات بوروس في سلسلة المريخ، أو ما تعرف باسم برسوم، وهو اسم كوكب المريخ في لغة قاطنيه. تخيّل بوروس الحياة على كوكب المريخ وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فقد جفت البحار والمحيطات، وهلكت الحضارات القديمة، ولا يمكن لسكان الكوكب وحيواناتهم المستأنسة أو البرية العيش على سطحه إلا بغلاف جوي صناعي باستخدام تكنولوجيا قديمة من أثر الحضارات البائدة، والعدد القليل من سكان المريخ الباقي على سطحه هم في صراع مستمر فيما بينهم على الموارد القليلة، ما بين المريخيين الخضر والمريخيين الحمر والأجناس الأخرى التي يلمح إليها الكاتب في هذا الجزء تلميحًا. ويجد جون كارتر، المواطن الأميركي من ولاية فرجينيا نفسه في قلب هذا الصراع، ويقلب وجوده موازين الصراع في هذا الكوكب.
تُروى أحداث الرواية من منظور جون كارتر، وهو جندي سابق في الحرب الأهلية الأميركية، يبدأ بعدها في رحلة البحث عن الذهب والثراء في صحراء أريزونا، في ظل خطر الهنود الحمر. وفي إحدى المرات أثناء مطاردة الهنود الحمر لجون كارتر ورفيقه يختبئ جون كارتر في أحد الكهوف وبعدها يجد أنه قد انتقل إلى كوكب المريخ، بطريقة لم يشرحها الكاتب في هذا الكتاب.
ينتمي هذا الجزء من الكتاب إلى أدب الوسترن أو الغرب الأميركي، حيث الصحراء القاحلة وقبائل الهنود الحمر البدائية ورعاة البقر الشجعان. ونجد أن الكاتب قد تأثر بذلك حتى في وصف الأحداث على المريخ، فالبيئة صحراوية جافة، وقبائل الجنس المريخي الأخضر تشبه إلى حد كبير الهنود الحمر، وكذلك بطولة جون كارتر وشجاعته تضاهي شجاعة رعاة البقر في حكايات الغرب الأميركي.
يكتسب جون كارتر قدرات بدنية هائلة بعد انتقاله إلى كوكب المريخ بسبب ضعف الجاذبية، فهو يستطيع القفز لارتفاعات شاهقة ومسافات شاسعة، كما أنه يستطيع التغلّب على خصوم أضخم منه جسدًا في النزال، وغيرها من الصفات الأخرى التي تكسبه احترام المريخيين الخضر عند التقاء البطل بهم. وهؤلاء المريخيون يصفهم الكاتب بأنهم خضر البشرة طوال القامة يصل ارتفاعهم إلى خمسة عشر قدمًا، ولهم ستة أطراف ذراعان وساقان وطرفان وسيطان يمكن استخدامهما كذراعين أو ساقين حسب الحاجة. وهم قوم بدائيون ليس لديهم من التكنولوجيا سوى بعض الأسلحة، يركبون دواباً مخيفة وضخمة مثلهم، وهم قبائل في حروب متواصلة مع بعضها البعض برغم قلة عددهم، فعدد المريخيين الخضر في كل كوكب المريخ هو خمسة ملايين، يطوفون مدن المريخ المهجورة وقيعان بحره الميت.
ولكن المريخيين الخضر ليسوا وحدهم على كوكب المريخ (أو برسوم في لغتهم). فهناك أيضًا جنس آخر يشبه البشر إلى حد كبير، في الطول والملامح والتكوين الجسماني، والفارق الوحيد هو لون البشرة النحاسي الضارب للحمرة. يكتشف جون كارتر ذلك بعد معركة بين الخضر بأسلحتهم البدائية وسفينة طائرة متطورة، وتقع في الأسر واحدة من هذا الجنس الأحمر، وليست أي واحدة، بل هي الأميرة ديجاه ثوريس ابنة مورس كاجاك من هيليوم، وهي إحدى مدن المريخيين الحمر القليلة على سطح المريخ، وهم قوم أكثر تحضرًا من الخضر، ولديهم بعض التكنولوجيا والعلم، وهم من يحافظون على الغلاف الجوي من الفناء بطرق صناعية لكيلا يلفظ هذا الكوكب المحتضر أنفاسه الأخيرة.
أميرة المريخ وعالم برسوم
يقع جون كارتر في حب الأميرة ديجاه ثوريس ويسعى إلى إعادتها إلى مدينتها هيليوم وقومها الحمر الذين يشعر بانجذاب إليهم بسبب قرب هيئتهم من البشر. وتخبره الأميرة عن الأجناس القديمة المتقدمة التي سكنت المريخ منذ أحقابٍ عديدة وبلغت قمة الحضارة والتكنولوجيا قبل أن يبدأ كل شيء في الضياع والانحسار مع تقلبات الجو في المريخ. ففي صفحة 102 يروي الكاتب على لسان جون كارتر: "قالت إن المدينة التي نخيّم فيها من المفترض أنها كانت مركزًا للتجارة والثقافة يعرف باسم كوراد، وكانت مبنية على ميناء طبيعي جميل، تحيط به تلال رائعة. وشرحت أن الوادي الصغير الذي يقع على الجبهة الغربية للمدينة هو كل ما تبقى من الميناء، بينما كان الممر عبر التلال إلى قاع البحر القديمة بمثابة قناة لمرور السفن إلى بوابات المدينة. تناثرت المدن على شواطئ البحار القديمة، وكان يمكن العثور على مدن أصغر وبأعداد أقل، تتقارب في اتجاه وسط المحيطات، حيث وجد الناس أنه من الضرورة اتباع انحسار المياه إلى أن فرضت عليهم الضرورة خلاصهم النهائي، ما يُسمى القنوات المريخية".
ومصطلح القنوات المريخية هو أحد المصطلحات العلمية التي صكّها بيرسيفال لويل وتحدث عنها بالتفصيل في أحد كتبه وهو "المريخ وقنواته" ونجدها أيضًا في خرائطه التي رسمها لسطح المريخ.
وطوال الرواية نرى من خلال عينيّ جون كارتر بقايا هذه الحضارة القديمة، فيقول في صفحة 108: "اكتسى الفناء كلية بالنباتات الصفراء الشبيهة بالطحالب التي تغطي عمليًا سطح المريخ كله، إضافة إلى وجود العديد من النافورات، والتماثيل، والمقاعد الطويلة، والأشياء الغريبة الشبيهة بالبرجولا وتشهد جميعها على جمال ذلك الفناء في أزمنة ماضية، عندما زيّنها شعب أشقر ضحوك، دفعته قوانينه الكونية الصارمة الراسخة ليس فقط خارج بيته، وإنما خارج كل شيء ما عدا أساطير أحفادهم الغامضة."
يحرص بوروس على ذكر تفاصيل حياة الناس على سطح المريخ؛ بيوتهم ومزارعهم وطرق حفاظهم على المياه القليلة التي تذوب من القطبين، والحفاظ على الغلاف الجوي الصناعي، وبناء المنازل بطريقة تحميهم من الوحوش المفترسة، وعاداتهم وتقاليدهم وأعمالهم وأسواقهم وطبقات الحكم.
الرواية مفعمة بهذه التفاصيل الحية، مما جعل الرواية عملًا ملهمًا لمن تلاه في مجال الخيال العلمي، فقد اعترف راي برادبري بأن الرواية ألهمته عند كتابة عمله المسمى "السجلات المريخية" الذي يستخدم أفكارًا مشابهة عن المريخ المحتضر. كما كانت روايات بوروس عن برسوم ملهمةً للكاتب الأميركي لافكرافت في قصته "رحلة الحلم لكاداث المجهول".
وفي مجال السينما ذكر جيمس كاميرون أنه في كتابة فيلم "أفتار" تأثر بروايات بوروس عن المريخ، وألهمت الروايات جورج لوكاس، مؤلف سلسلة "حرب النجوم".
الجدير بالذكر أن ديزني أنتجت فيلم عن رواية "أميرة المريخ" وأطلقت عليه اسم "جون كارتر" بميزانية باهظة بلغت 250 مليون دولار والذي يعد رقمًا قياسيًا في هذه النوعية من الأفلام. ولكن الفيلم لم يلقَ استحسانًا كبيرًا بسبب ضعف الحبكة والشخصيات والتركيز على الإبهار البصري بدلًا من تفاصيل العالم الواقعية الحية التي بناها بوروس في عالمه. لم يحقق الفيلم عائدًا سوى 300 مليون دولار وهو ليس رقمًا كبيرًا بالمقارنة مع ميزانية الفيلم الضخمة، مما دفع ديزني إلى إلغاء الجزء الثاني من الفيلم والمبني على الجزء الثاني من روايات برسوم الذي يحمل اسم "آلهة المريخ".
ألهمت روايات بوروس برنامج الفضاء الأميركي، والعديد من العلماء الذين كبروا وهم يقرأون هذه الروايات، ومنهم العديد من رواد مجال استكشاف الفضاء والبحث عن الحياة في الكواكب الأخرى، فقد قرأ كارل ساغان ـ العالم الفلكي الشهير ـ الروايات في صغره، وحملت أثرًا على مخيلته في سنوات نضجه، ولعقدين من الزمان ظلت خريطة المريخ كما تخيّلها بوروس معلقة في الممر خارج مكتب ساغان في جامعة جامعة كورنيل العريقة.
بقي أخيرًا أن أشير إلى أن ترجمة د. شهرت العالم جميلة وسلسة، وخصوصاً في ترجمة الأسماء المريخية التي ابتكرها بوروس لعالمه، وقد أعلنت دار آفاق عن قرب صدور الجزء الثاني من سلسلة برسوم والذي يحمل عنوان "آلهة المريخ" من ترجمة العالم أيضًا، وهو خبر سعيد يبشر بنيتهم لإكمال أجزاء هذه السلسلة، ليتابع القراء مغامرات جون كارتر على سطح الكوكب الأحمر الساحر.