طارق الناصر - رائد الموسيقى التصويرية للدراما العربية
هل ترون عظمة رم.. ما رأيكم ان تسمعونها؟ تزاوجُ الموسيقى مع الصورة، حكايتُه. متفرّد برؤيته، منذ ان طوِّب كأوّل المحدّثين في الموسيقى التصويرية للدراما العربية. طارق الناصر، لهث خلف حلمه وأمسكه بالقوة، هل خانه تغيُّر الزمن...أم لا شيء مستحيل؟
نص الحلقة
هل ترون عَظَمَة رم؟ ما رأيكم في أن تسمعوها؟ تزاوُج الموسيقى مع الصورة حكايته، مُتفرّدٌ برؤيته منذ أن طُوّب كأوّل المُحدّثين في الموسيقى التصويرية للدراما العربية، طارق الناصر لهَثَ خلف حلمه وأمسكه بالقوّة، هل خانه تغيُّر الزمن أم لا شيء مستحيل؟
لانا مدور: هل تأتي دائماً إلى هنا؟
طارق الناصر: ليس دائماً، أتمنّى ذلك.
لانا مدور: متى تأتي؟
طارق الناصر: كلّما سنحت لي الفرصة.
لانا مدور: كيف قرّرتَ أن تضع البيانو في وسط الصحراء.
طارق الناصر: لا أعلم.
لانا مدور: أغلى ممتلكات المؤلّف الموسيقي هو البيانو.
طارق الناصر: طبعاً.
لانا مدور: منذ متى البيانو هنا؟ سنتان تقريباً؟
طارق الناصر: نعم، هذا عيد مولده.
لانا مدور: هل أنت خائف من الاقتراب منه؟
طارق الناصر: كلا أراقب وضعه لأنني أحياناً أربطه ولا أعلم متى سأحلّه.
لانا مدور: كيف اخترتَ هذا الموقع؟
طارق الناصر: مخيّم صديقي موجودٌ هنا وهو من أهالي وادي رم، فأخذتُ هذه الزاوية.
لانا مدور: أنت أخذتَ تلّةً تكشف كل العالم.
طارق الناصر: زاوية،إنه مليء بالزوايا، الزوايا لا تعني شيئاً، لقد وضعتُ خيمةً في البداية ولكنها تمزَّقت خلال الشتاء.
لانا مدور: هذه هي الخيمة، هل يمكننا أن نفكّ البيانو؟
طارق الناصر: هذه المقطوعة التي عزفتها الآن هي وليدة اللحظة، ربّما تكون لعملٍ ما.
لانا مدور: ألّفتها الآن؟
طارق الناصر: نعم، هذه بداية. الموسيقى عالمٌ كامل متكامل، هي النعمة، الغناء هو سياق مهم وخصوصاً الموسيقى الشرقية التي هي جزءٌ مهم، الموسيقى لها لسانها وأحرفها وأصواتها وعلاقاتها مع بعضها، الجميع يسمعها ككل.
لانا مدور: أنظر إلى هذا المشهد، هل تسمع موسيقى ما من الصحراء؟ في وادي رم هل هناك موسيقى مُعيّنة في مُخيّلتك للمكان؟
طارق الناصر: في المُخيّلة شيء وفي المكان شيء آخر،المكان الذي تسمع فيه صوت الرياح والهواء والشتاء، الجميل هنا أنه يتمّ التركيز على الأصوات، هنا يمكنك أن تسمع صوت الذبابة، الصوت الأهمّ هو صوت الهواء لأنه المُحرّك الكبير.
لانا مدور: مسألة حاسّة السمع لديك حاضرة وقوية، ماذا لو فقدتَ سمعك يوماً.
طارق الناصر: لا سمح الله، عِلماً أنني كنت أفكّر في بيتهوفن.
لانا مدور: هل بإمكانك أن تسمع الموسيقى من دون سماع النغمة؟
طارق الناصر: اللحن يعمل بهذه الطريقة وأنا كنت أفكّر منذ مدّة ببيتهوفن، لا زلت أتساءل دوماً كيف أن بيتهوفن كان مُلحّناً وهو لا يسمع، أعتقد أن المؤلّف يرى المؤلَّفة بشكلٍ هندسي بحت.
لانا مدور: مؤلّف الموسيقى التصويرية لا يُقدَّر كما يجب.
طارق الناصر: بالتأكيد، الموسيقى كفَهْمٍ لا يتعامل معها كل الناس، الأغنية هي جزء في ثقافتنا، الكثير من الجيل الشاب يسمع الموسيقى ويبحث عنها، الموسيقى العالمية أُنتجت في الخارج وحازت بالاهتمام أما هنا الموسيقى فصفٌّ ثانٍ وهذا خطأ فادح.
لانا مدور: حين تتأمّل في الماضي هل تشعر بأنك أنت مَن فتحت الباب للموسيقيين التصويريين؟
طارق الناصر: بالطبع، ولكن يجب ألا ننسى دور المصريين.
لانا مدور: مصر شيء آخر، نحن نتحدّث في المشرق العربي.
طارق الناصر: لقد بدأتُ بهذا الشكل، كان عُمري 22 عاماً ولكنني أثبتُ جدارتي في العمل عبر الحاسوب المحمول في التسعينيات وقمت بشبكه مع آلة الفيديو بنفس التايم كود. عند التحضير للمسلسل لم يكن الموضوع سهلاً وكانوا سيختارون شخصاً آخر مكاني في مسلسل نهاية رجل شجاع، فقمتُ بتجهيز الشارة سريعاً وجهّزتُ الموسيقى وتوجّهت إلى طرطوس، مقرّ التصوير كان في بانياس والتصوير من طرطوس إلى اللاذقية، حينما لمسوا خبرتي في العمل أصبحت هناك قراءة أخرى للموضوع لأنني كنت صغيراً. هنا في الأردن كنت أبحث عن نجدت أو أي شخصٍ لأنفّذ له موسيقى تصويرية، وأذهب إلى أماكن التصوير كي ينتبه لي المخرج أو يعطف عليّ وأعمل معه ولم يحصل ذلك، هنا كنتُ في أوائل العشرينيات، كان الأمر صعباً، أن يأتي شاب إلى سوريا لتلحين عمل يشكّل افتتاحاً لمرحلةٍ جديدة في باكورة الإنتاج، وكان الإعداد والتجهيز على هذا الأساس.
لانا مدور: كيف كانت لديك الثقة بالنفس في ذلك الوقت؟
طارق الناصر: ليس لديّ خيار، أنا مثل طارق بن زياد، منذ التوجيهي حرقتُ السفن، رفضتُ متابعة التعليم، وكان أمامي خيار الفشل أو النجاح. والدي سمح لي بأن أتّخذ هكذا قرار بعدم خوض التوجيهي لأنني كنت شغوفاً بالموسيقى، هذا الخيار الذي اتّخذته قبل أربع سنوات من مسلسل نهاية رجل شجاع حفّزني على التطوّر، فكنتُ أخطو خطوة إلى الأمام في كل سنة.
لانا مدور: عدم موجود خيار هو الذي دفعك إلى التطوير؟ ما الذي أخافك؟
طارق الناصر: القلق لا زال موجوداً.
لانا مدور: لماذا؟
طارق الناصر: هذا طبيعي.
لانا مدور: فكرك مشغول دائماً؟
طارق الناصر: طبعاً.
لانا مدور: ألم يخفّ شغفك مع الزمن؟
طارق الناصر: يتغيّر صعوداً ونزولاً.
لانا مدور:كم عُمرك؟
طارق الناصر: 52.
لانا مدور: هل مررتَ بمرحلةٍ لم تُنجِز فيها شيئاً؟
طارق الناصر: نعم، وأحياناً لم أفكّر بالموسيقى.
لانا مدور: تغيّر مهنتك؟
طارق الناصر: كلا وإنما أبقى قريباً منها، لقد اكتشفتُ بعد تَرْكي للموسيقى لثلاث سنوات أن لوحة مفاتيح الحاسوب ملوّثة بطلاء الحائط، فهذا يعني أنه كان مركوناً منذ مدّة. شعرتُ بعدم تقدير لما تقدّمه الموسيقى للعمل وانسحبتُ من المشهد، وبرأيي إن الموسيقى لها مسرحها وهي ليست بحاجة إلى دراما.
لانا مدور: هل كانت هذه أصعب مرحلةٍ في حياتك المهنية؟
طارق الناصر: لقد كانت صعبة ولكنها ليست الأصعب.
لانا مدور: أيّها كانت أصعب؟
طارق الناصر: بين الفترة والأخرى تكون هناك مرحلة صعبة، وهذا جزء من التجربة عموماً.
لانا مدور: هذا لأنك تعمل في المجال الإبداعي؟
طارق الناصر: كلا بل لأنني أريدها أن تخرج بالشكل الصحيح.
لانا مدور: هل شعرتَ يوماً بأنك عاجز عن القيام بأمرٍ ما؟
طارق الناصر: أنا أوظّف كل طاقاتي ولكن ربما يكون العجز في الإمكانيات، في الإنتاج، أنت تكافح حين تحاول إقناع المنتج في موضوع الميزانية، أنا دائماً ما أحاول الإقناع بأن نمشي في هذا الاتجاه، هذا الأمر حتى تسجيل مسلسل الملك فاروق ومن هناك بدأنا بوضع الكمنجة في المسلسل.
لانا مدور: هل ذهبتَ إلى جورجيا حينها؟
طارق الناصر: كلا، أذربيجان.
لانا مدور: سجّلتَ الموسيقى هناك؟
طارق الناصر: نعم. التحدّي الأصعب كان أنني أشارك في عملٍ مصري عن إبن مصر.
لانا مدور: كيف أخذتَ المشروع؟
طارق الناصر: الأستاذ حاتم علي رحمه الله كان هو مخرج العمل، كان الطاقم الأساسي من الشام، أنا فقط من الأردن، وكان الإنتاج في مصر الغنيّة بالمُلحّنين.
لانا مدور: كيف دخلتَ السوق المصرية؟
طارق الناصر: حاتم كان قد حسم أمره بأن أنفّذ موسيقى العمل وحاولوا ثنيه عن هذا القرار، ولكن الموسيقى كانت مناسبة جداً للعمل وخياري للكمنجة في ذلك الوقت كان مناسباً جداً أما لو كان شيئاً آخر فلن تكون النتيجة هي نفسها.
لانا مدور: كم انتظرتَ لتتزوّج؟
طارق الناصر: لقد تأخّرتُ، ربّما خمس سنوات.
لانا مدور: ماذا كانت المشكلة؟
طارق الناصر: الديانة، هي مسيحية.
لانا مدور: رفض أهلها؟
طارق الناصر: لقد تحدّثتُ إلى والديّ زوجتي قبل يومين، نحن أصبحنا عائلة واحدة، هم أهل إبنتي. حينما تجدين نصفك الثاني فلا مجال لإضاعة الوقت، إما أن تتقرّب إليه وإلا قد لا يكون هناك مجال للقاء مرة أخرى.
لانا مدور:هيا لنعود إلى البيانو.
طارق الناصر: من المُسْتَغْرَب أن تكون في مكانٍ كهذا وتترك خيمتك وسيناريوهاتك وتعود مسافة 300 كلم إلى عمّان.
لانا مدور: أهل المنطقة هنا أمناء.
طارق الناصر: نعم، الأمان بالله، كان قراراً صعباً بأن أترك البيانو هنا.
لانا مدور: هل تسمع موسيقاك بعيداً عن المسلسلات؟
طارق الناصر: نعم حدث أن سمعتُ موسيقاي في أحد المسلسلات.
لانا مدور: نسخ؟
طارق الناصر: نعم، ولكن لندع الأمور تسير.
لانا مدور: ألا تكترث؟
طارق الناصر: أحياناً أغضب ولكن من الحكمة أن تدع الأمور تسير. صديقي الفنان عامر الخفّش قال لي ذات مرة إن المهارة ليست فقط بأنك أنجزت العمل الأول وإنما التحدّي بأن تنجز عملاً آخر بنفس المستوى، فكان "الجوارح" وخرج معي هذا اللحن.
لانا مدور: حين تمشي في الشام تسمع موسيقى الجوارح في البيوت والمحلات.
طارق الناصر: كنت أتوجّه إلى السوق في الشام فسمعتُ أحدهم يدندن بلحني هذا، كان هذا بالنسبة لي تسديداً، أنا أريد هذا، أن يصل اللحن بسرعة، لذلك نحن نحبّذ العروض المباشرة لأنها فيها تواصُل مباشر مع الجمهور، تعزف وترى ردّ الفعل مباشرةً وتُكمل.
لانا مدور: نحن في العقبة.
طارق الناصر: بالنسبة لي المشهد لا يكتمل بوادي رم وحده ولا بجانب البحر دوماً، الحياة المريحة تستهوي الإنسان.
لانا مدور: منطقة الأمان.
طارق الناصر: نعم، الإيقاع في الأصل هو ضربة على الحافِر وضربة على السندان.
لانا مدور: ما هي الأمور التي تجعلك سعيداً في حياتك؟
طارق الناصر: أن يكون مَن أحبّهم بخير، سابقاً كان يشغلني موضوع الموسيقى أما الآن فإني أرى الحياة بشكلٍ أبسط، أن تعيش لحظاتك الحقيقية مع مَن تحبّهم هو المهم.
لانا مدور: إذا قلتُ لا شيء مستحيل، أكمل الجملة.
طارق الناصر: بالتأكيد لا شيء مستحيل، إذا لم يخبر الشخص بتجربته الشخصية فإن التاريخ أثبت، هناك العديد من التجارب لأشخاص مُهمّين كان يستحيل أن تنجح في وقتٍ معيّن، مثلاً حين استقرّ صاروخ إيلون ماسك كان ذلك بعد عدّة محاولات، لو فكّر بأن الأمر مستحيل لما نجح هذا المشروع العبقري. لا شيء مستحيل، ولكن التنفّس تحت الماء مثلاً غير طبيعي، هناك أمور طبيعية وأخرى غير طبيعية، ولكن المستحيل يكون أمامنا كي نختبر معدننا الأصلي، حين تقول من المستحيل أن أفعل كذا، حينما تحاول وتحارب هذا المستحيل تكتشف أنه كان مؤقتاً لأنه بعد فترة يتلاشى ولا يبقى هو الخطر الأكبر أو المستحيل.
لانا مدور: هل تحبّ الصوَر القديمة أم الحديثة؟
طارق الناصر: كيف؟
لانا مدور: سنصوّرك صورة بولارويد، موافق؟
طارق الناصر: طبعاً، أريد صورتين.
لا شيء يُبقي قلبك حياً كالشغف، كما تتجدّد الحياة جدِّد نفسك، إذهب إلى أرضٍ جديدة، غامِر، إبتسِم، أرقُص في الشمس وتحت المطر، داوِ جراحك بالموسيقى واعزِف لصقيع أيامك لحناً دافئاً لأنّ لا شيء مستحيل.