الاديب والباحث الاستاذ جبران مسعود
من غابريل الى جبران ما الذي حصل حتى تغير اسم هذا الباحث وبات قدره ان يكون راهب للغة العربية حارسا بوابات الذاكرة كي لا تهرب منها اسماء الادباء والشعراء العرب. جبران مسعود المعجمي والموسوعي والباحث والانسان في بيت القصيد.
زاهي وهبي: مساءُ الخير أديبٌ ومثقفٌ موسوعيّ تجاوز الثمانين ولم يسأم ولم يقعُد عن العمل والبحث والتفتيش والتدقيق حتّى أعطانا وقد بلغ من العُمر عتيّة، موسوعةً يعجزُ دونها الشباب. وكأنّ عشقه للغة الضاد وإرثها العظيم يُجدّد روحها وسنيه حتّى يغدو ممتلئاً شغفاً وحماسةً وحبّاً بما يكتُب ويُقدِم من ذاكرةٍ ثقافيّة لبلادٍ تبدو للأسف الشديد مُصابةً بمرض فقدان الذاكرة. يحلّ علينا ضيفاً كريماً جليلاً وعَلَماً من أعلام لبنان الذي يبقى رغم كلّ مآسيه وأزماته منارةً إبداعيّةً منتصرةً بدم الشهداء وحبر الأُدباء، مثلما يظلّ "بيت القصيد" منبراً لأجيالٍ وتيّاراتٍ وأمزجةٍ إبداعية متنوّعة، بيتٌ يتّسع ويُضاء بقاماتٍ باسقةٍ كضيفنا الجليل الأديب والباحث الأُستاذ "جبران مسعود". أهلاً وسهلاً بك شرّفت "بيت القصيد"
جبران مسعود: شكراً على هذه المقدّمة
زاهي وهبي: تستأهل أكثر. أولاً مبروك الموسوعة، موسوعة الأدب العربي التي من ثمانية أجزاء، ثمانية مُجلّدات كبار صادرة عن "دار نوفل"
جبران مسعود: دار "هاشيت أنطوان”
زاهي وهبي: "هاشيت أنطوان”. عملٌ فعلاً تستحقّ عليه التحيّة والإكبار، إضافةً أيضاً إلى أعمالِك السابقة ومنها المُعجم المعروف "الرائِد" وهو رائِدٌ في مجاله. تقول أُستاذي في مقدّمة الموسوعة قُمتُ إلى عملي هذا وقد بلغتُ من العُمر عتيّة، سؤالي قبل أن نُشاهِد ربورتاجاً مع حضرتك هو، ما الذي دعاك وقد بلغتَ من العُمر عتيّةً أن تقوم إلى مثل هذه المهمّة؟
جبران مسعود: كما ذكرت في مقدّمتك شغفي باللغة العربيّة، شغفي بالتراث العربي بالذاكرة الثقافية العربيّة لاسيّما حين أرى هذه العُجمة، هذه الهُجنة التي تُسيطر على عالمنا العربيّ إجمالاً وعلى "لبنان" خاصّةً. بتنا نُعجَب باللغة الفُصحى عند بعض الأُدباء ولكننا قلّما نراها عند الكثيرين منهم وعند الإعلاميين وعند عامّة الناس. هذا ما دفعني إلى أن أكون كما قُلت لبنة في هذا البناء الضخم الذي هو الثقافة العربيّة. عملي ليس الأوّل ولن يكون الأخير
زاهي وهبي: طبعاً
جبران مسعود: ولكنّه إسهامٌ في إنعاش هذه الذاكرة الثقافية العزيزة جداً على قلبي
زاهي وهبي: وهو أكثر من مُجرّد لبِنة، هو مدماك حقيقي في مجاله أُستاذي. اسمح لي أن نراكَ في "علامة فارِقة" ثمّ نتوسّع أكثر في الحديث عن اللغة والموسوعة وشؤون أدبيّة وثقافية
علامة فارِقة:
جبران مسعود:
طبعاً شرّفتموني أنت اليوم على أساس أنني أنا "جبران مسعود" المعروف كمعلِم وككاتب منذ زمن، اسمي الأساسي "غبـريال" ولكن حين بدأت بالكتابة تحوّل اسمي إلى "جبران" لأن اسم "غبـريال" أجنبي قليلاً والحال لا يمشي به
الذي أنجزته كان خلال مسيرتي التي بدأت بالمسيرة التعليمية في عمر الـ 21 سنة، والمسيرة التأليفية في عمر الـ 18 سنة، وما زلت مستمراً لغاية الآن بالتأليف ولو أنني قد أوقفت التعليم. إن شاء الله إنّ أمدّ الله في عمري سأُعطي المزيد من المؤلّفات ومن العطاء الأدبي
فخورٌ جداُ في إنجازاتي في حقل التعليم وإنجازاتي في حقل التأليف
قدوتي في الدراسة كان أُستاذي "فؤاد سليمان" الشاعر المعروف وفي الحياة كان قدوتي والدي
فُرَصٌ كثيرة رفضتها، فُرَص حتّى سياسية ودبلوماسية رفضتها ولا أندم عليها لأنني حين رفضتها كان من اللازم أن أرفضها
قبل حرب " لبنان" كُنتُ معروفاً جداً في الأوساط الأدبية والأوساط التربوية والأوساط التعليمية، لكن أنا وأدت نفسي، دفنت نفسي وأنا حيّ عندما نشأت الحرب اللبنانية التي وجدتها حرباً خبيثةً جداً، شرّيرة جداً وآثرت الابتعاد عن الجوّ الأدبي
كتبتُ كتابي كي لا تتلاشى الذاكرة الثقافية عندنا
نصيحتي لجيلي اليوم أن يرجعوا إلى الأصالة، يرجعوا إلى الأصالة الوطنيّة، الأصالة العربيّة لأنّ العولمة التي تبنّتها الدول العُظمى هي فخّ للشعوب الضعيفة
هنا صورة زوجتي والبقية هم الأولاد. هنا صور تخرّج الأولاد الأربعة عندما نالوا شهاداتهم من الجامعة الأميركية وصور الحفداء المُشكّلة
الحبّ جوهرٌ في الحياة، جوهرٌ من جواهر الحياة. لا يُمكن للمرء أن يعيش من دون حبّ، يكون ناشفاً، يكون جامداً كورقة الخريف الذي لا قيمة له. الحبّ عرفته مع زوجتي، كان الحب معها قد بدأ في حزيران وكانت تُدرِّس في الـ "I.C." معي وكان اللقاء في غرفة المُعلّمين، وفجأةً حدث نوع من الانجذاب نحوها وهذا كان حبّي الكبير، حبّي الأكبر واستمرّ 35 سنة لحين وفاتها
أشتاق للتعليم أجل، لكن ليس بشكلٍ أنّه بين الجرس والجرس أُعطي حصّة لا، أن أُعطي مُحاضرة في صفٍّ من الصفوف. أن أعطي درساً لا أُمانِع وأن أعود وأرى التلامذة أمام عيناي، الشباب والصبايا وأن أسترجِع أيام زمان
زاهي وهبي: أولاً ألف رحمة على زوجتك وأطال الله في عُمرك
جبران مسعود: ألله يُسلِّمك
زاهي وهبي: أُستاذي، سأتوقّف عند عدة نقاط مرّت في كلامك، ولكن موضوع الحبّ. كم الحبّ هو مسألة ضرورية ليس فقط في العلاقة العاطفية بين رجل وامرأة، بين إنسانين، الحبّ المُطلق بمعنى حبّ الحياة، حبّ العمل، حبّ اللغة، لغّة بلد الإنسان وقوميّته؟
جبران مسعود: الحبّ هو العطاء. لا تستطيع أن تعيش من دون أن تُعطي، أن تُعطي من قلبِك أن تُعطي من عقلِك. طبعاً هذا الحبّ يكون للطبيعة أحياناً، يكون للكتاب أحياناً، يكون للجار، للأليف، إنّما الحبّ المُتداول هو الحبّ البشري، الحبّ الذي يجذب إنساناً إلى إنسانٍ آخر. هذا الحبّ عرفته كما ذكرت هنا في المقدّمة، عرفته مع زوجتي، عرفتها كما ذكرت وطال الحب خمساً وثلاثين سنة
زاهي وهبي: هلّ يستمِرّ الحبّ كلّ هذه السنوات؟
جبران مسعود: استمرّ الحبّ كلّ هذه الفترة إلى أن توفّاها الله
زاهي وهبي: نعم. شغف الإنسان في الحياة وفي الأشياء التي يُحبّ أن يقوم بها، هلّ يزداد مع العُمر أم ينقُص؟
جبران مسعود: بالنسبة لي، توقّف هذا الشغف بحبّ الحياة لفترة من الزمن، أوّلاً بما أصابني من وفاة، ثانياً ما أصاب "لبنان" من حرب لذلك قلت " أنا في الحرب وأدتُ نفسي"
زاهي وهبي: استوقفتني هذه الجملة. لماذا الحرب جعلتك تئِد نفسك؟
جبران مسعود: لأنني أدركت أنّ هذه الحرب شرِسة وشرّيرة وألا مجال للكلِمة الصادقة فيها، لا مجال للأدب الصادق فيها فلهذا السبب انزويت. عدتُ بعد الحرب إلى الحياة وكنتُ قد انبعثتُ من بعد هذا الوأد وألّفتُ كتابين وحضرتُ تكريمين وعُدتُ إلى الحياة الطبيعية الأدبيّة كما كُنتُ في السابق
زاهي وهبي: ذكرتُ اسم " فؤاد سليمان" كأحد أساتذتك، الشاعر الذي كان يكتُب باسم "تمّوز"، وهو شاعرٌ مرموق وأديب كبير وتوفّيَ باكراً كان في عمر
جبران مسعود: كان في الثامنة والثلاثين من عمره
زاهي وهبي: كان في عمر الشباب. نفتقِد إلى هذه القماشة من الأساتذة اليوم والمُعلّمين
جبران مسعود: لسوء الحظّ. كان المعلّمون في الماضي حتّى الذين يعلّمون في المرحلة التكميلية الوُسطى، كانوا أشباه أُدباء أو أُدباء حتّى. المعلّمون الذين درستُ عليهم وقرأتُ عليهم كانوا في معظمهم أُدباء ولهم نِتاج أدبي. اليوم لسوء الحظّ المُعلِم مُلقِّن، المُعلِّم يتخرّج بشهادات عُليا أحياناً ولكنّه ملقِّن أكثرَ منه أديباً أو شاعراً
زاهي وهبي: طبعاً هناك فرق بين المتعلِّم والمُثقّف كما تعلم
جبران مسعود: تماماً. المُتعلِم يجمع شهادات، المُثقف هو، "المثقف" كلِمة مُصعّدة من تثقيف الرُمح، "ثقَّف الرمح" أيّ قوّمه، والمُثقف هو المُقوّم ليس في العلوم فحسب أو في الأدب فحسب بلّ في الأخلاقيات وفي الاجتماعيات. هو الرجل شبه الكامل
زاهي وهبي: يُمكننا أن نقول "المقوَّم" و "مقوِّم"؟
جبران مسعود: المقوَّم يقوِّم. المقوَّم إجمالاً من طبيعته، من شغفه ومن حبّه أن يُقوِّم الآخرين ولا يستطيع أن يحتفظ بذلك لنفسه، يُحبّ أن يُشاطره الآخرون في هذا التقويم
زاهي وهبي: أُستاذي، أعود إلى مقدّمتك في الموسوعة، "موسوعة الأدب العربي". تقول: "إيماني بأنّ ما سأقوله لن يكون تكراراً مُملاًّ وتقليداً لا يُغني". ما مردّ هذا الإيمان عندك بأنّ الشيء الذي تقوم به ليس تكراراً ولا باعثاً على الملل؟
جبران مسعود: كثيرون قبلي كتبوا في هذه الموضوعات، إمّا كتباً تُشبه الموسوعات أو كتباً فرديّة، وكلّ واحدٍ أدلى بدلوه وأفاد اللغة العربيّة والأدب العربي. إنّما أردتُ أنا أن أُعطي المزيد وأن أكون أحد هؤلاء، وقد يأتي بعدي كثيرون يُتابعون هذه المُهمّة الضرورية لإنعاش الذاكرة العربيّة
زاهي وهبي: نعم. من شدّة عشقك للغة العربيّة تقول عن نفسك بأنّك حتّى أصبحت كالمجذوب المتوحِّد
جبران مسعود: استعمَلتُ هنا تعبير الصوفيّة
زاهي وهبي: الصوفية. عادةً الصوفيون ينجذبون
جبران مسعود: تماماً
زاهي وهبي: إلى الذات الإلهية وإلى العشق الإلهي وينسون الدنيا وما
جبران مسعود: وما فيها، نعم
زاهي وهبي: ما هو سرّ هذا العِشق للغة الضادّ؟
جبران مسعود: قد يكون ذلك عائِداً إلى أساتذتي. درستُ في إحدى المراحل على أُستاذ اسمه "ميشال بشير" وهو مغمور جداً ولكنّه شاعرٌ من الطراز الأوّل. درستُ وقرأت عليه في الصفّ التكميلي الثاني في مدرسة " الثلاثة أقمار"، ثمّ انتقلت إلى الـ I.C. وكان أوّل درس في الـ I.C. مع "فؤاد سليمان" وأذكُر أنّه قرأ علينا هذا المقطع من "جبران خليل جبران"، " من أعماق هذه الأعماق أُناديكِ أيّتها الحريّة فاسمعينا ". هذه الأمور تأخذها من أُستاذك، تعلق في ذهنك إذا كنت مُستعداً للتلقّي. البعض يمرّ على هذه الأشياء
زاهي وهبي: انطلاقاً من تجربتك أُستاذي هلّ يُمكننا أن نقول بأنّ العالم العربي الذي يحتاج اليوم إلى نهضة ضرورية ومُلحّة، ممكن لهذه النهضة أن تكون في التعليم وفي تحديث وتطوير مناهِج التعليم؟
جبران مسعود: أولاً في التعليم، في المناهج، مثلاً إذا نظرنا إلى المناهِج التعليمية في "لبنان" نراها غير مُتجانسة
زاهي وهبي: ومتخلِّفة بعض الشيء
جبران مسعود: مختلِفة ولا تخضع للرقابة أحياناً كلٌ يُغنّي على ليلاه. يجب أن تكون هنالك تربية وطنية موحّدة حتّى ينشأ هذا الطالِب في هذا البلد على منهجٍ واحدٍ في التربية والتفكير الأدبي والثقافي. هذا شيء هامّ جداً
زاهي وهبي: إجادتك للغات أُخرى غير العربيّة مثل الإنكليزية والفرنسية لم تصرفك عن لغتك الأُم بينما نُلاحِظ اليوم عند أجيال مُعيّنة خصوصا ًوأننا بمجرّد أن نجيد عدداً من الجمل في اللغات الأجنبية ننسى العربيّة ولا نعود نهتم بها
جبران مسعود: لحسن حظّي أنني أتقنت الفرنسية والإنكليزية. كان لي من هاتين اللغتين معينٌ هائِلٌ جداً أفادني بالاطّلاع على آداب هاتين اللغتين وعلى الآداب العالمية مُترجمة إلى هاتين اللغتين، الأدب الروسي، الأدب اليوناني، الأدب الصيني والأدب الهندي إلى آخره
زاهي وهبي: لكنّها لم تأخذك من لغتك الأُمّ
جبران مسعود: أبداً، على العكس. هاتان اللغتان جعلتاني أتمسّك أكثر فأكثر بلغتي العربيّة لأنني أدركت أنّ أبناء هاتين اللغتين ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلاّ بالتمسّك بالثقافة التي نشأوا عليها
زاهي وهبي: لكن لماذا أصبحت اللغة العربية اليوم كالأيتام على موائِد اللِئام، أي كالغريبة بين أهلها وناسها؟
جبران مسعود: نعم، هذا يرجع كما ذكرنا إلى البرامج التربوية. الطفل على الأقلّ في "لبنان" حين يُرسَل إلى دار للحضانة يبدأ بتعلّم الفرنسيّة أو الإنكليزية. يعلّمونه الأناشيد بالفرنسية أو بالإنكليزية بدلاً من أن يبدأ باللغة العربيّة. هذا ينشأ معه ويتربّى معه ويتطوّر معه بدلاً من أن يتربّى على اللغة الأُمّ، ثم ليأخذ من اللغات ما استطاع. يا ليتني أعرِف الألمانية والروسيّة واليونانية فضلاً عن اللغتين الإنكليزية والفرنسية
زاهي وهبي: كلّ لغة أو كلّ لسان هو إنسان جديد يُضاف إلى الإنسان نفسه
جبران مسعود: ما من شكّ
زاهي وهبي: هناك كما نحسّ عند بعض العرب نظرة دونيّة إلى لغتهم العربيّة، أي تسمع شاباً أو صبيّة اليوم يقول لك "أنا لا أقرأ العربية، أنا لا أُشاهد مُسلسلات وأفلام سينمائية عربيّة". هذه العلاقة الدونية مع اللغة لا نُشاهدها عند أُمم أُخرى، عند الروس والألمان والإيطاليين والإسبان إلى آخره
جبران مسعود: هذا يرجع إلى مُركَّب النقص. مُركَّب النقص نشأ عبر العصور، منذ أيام الاحتلال العُثماني ثمّ الاستعمار الفرنسي، وهذا كلّه أبعد الكثيرين من أبناء هذه الأُمّة عن التُراث الصحيح
زاهي وهبي: كيف نُقنِع هؤلاء أنّ لغتهم هي لُغة من أجمل لغات الأرض وأنها لُغة جديرة بالاحترام والتقدير والاعتزاز في الوقت نفسه
جبران مسعود: أنّ نُقوِّم البرامج التربوية أولاً ثمّ أن نُعطيهم الكتاب الذي يحلو لهم أن يقرأونه. في الماضي كان الكتاب المطبوع رخيصاً، كان بسيطاً. اليوم عندنا في الطباعة كُتُب جيّدة تُسوَّق، إنّما نحتاج إلى المعلِّم الصالِح، إلى المدرسة الصالِحة، إلى البرنامج الصالِح، ثمّ أن نبتعِد قليلاً عن هذه العولمة الخبيثة
زاهي وهبي: لماذا تُسمّي العولمة بالخبيثة وفي مقدّمة موسوعتك تقول أنّها غزوة كما غزوات الغرب، كأنّها غزوة جديدة مثل الغزوات التي عرِفتها بلداننا على مرّ السنين
جبران مسعود: لأنّ جوهر العولمة هو سيطرة القويّ على الضعيف، سيطرة الغني على الفقير، أن تعطي القمح وتأخذ التبن، تأخذ الزوان. هذه هي العولمة اليوم، والبعض يفتخر بها وبأنّه يتكلّم الفرنسية أو الإنكليزية وينسى لغته، أو يتكلّم لغته بلكنة أو يتعمّد هذه اللكنة
زاهي وهبي: كي لا نُفهَم خطأً، نحن نُشجِع على إتقان لغات أجنبيّة وعلى إتقان أكثر من لغة ولكن أن نُحافظ ونحتفِظ بلغتنا الأُم
جبران مسعود: يجب أن نتسلّح باللغات الأجنبية لخدمة اللغة العربيّة، لخدمة التراث العربي. أن نأخُذ ما عند الغرب من جيِّد وأن نطرَح ما هو سيّئ، إنما البعض يأخذون السيّئ في التحيّة، في التعاطي اليومي، في السياسة. العولمة هي سياسة، هي وعي، هي ثقافة، وهي اقتصاد
زاهي وهبي: تقول حضرتك أنّ هذه العولمة تنقضّ على ذاكرتنا الثقافية وتُقصي لُغتنا
جبران مسعود: ما مِن شكّ في ذلك، وهذا ما يحصل اليوم
زاهي وهبي: هلّ تعتقد أنّ هذا الشيء يحدُث تلقائياً بسبب تطوّر المجتمعات والاقتصادات الكُبرى، أم لا كما تفضّلت قبل قليل وكأنّه أمرٌ مقصود؟
جبران مسعود: أعتقد أنّه مقصودٌ في جانبٍ منه مقصود. ثم هنالك شيء آخر هو هذه التكنولوجيا الجديدة التي أنتجها هذا العالم القويّ وتمسّك بها العالم الضعيف، العالم في البلدان المـتأخرة، في البلدان الضعيفة. هذا شجّع على أن تستسلم هذه البلدان للعولمة بكلّ معانيها السياسية والاقتصادية والثقافية
زاهي وهبي: نعم، إذاً هناك استسلام في مناحٍ كثيرة سنتحدّث عنه وعن أسبابه وسنستمع إلى بعض الشهادات من زملاء ومبدعين لبنانيين في تجربة حضرتك، ولكن اسمح لنا في البداية أن نتوقّف مع موجَز إخباري سريع نُتابع بعده "بيت القصيد"
المحور الثاني:
زاهي وهبي: إذاً مُشاهدينا الكرام ضيفنا الأديب والباحث الجليل الأُستاذ "جبران مسعود". أُستاذي كما ذكرنا قبل الموجز سنستمِع إلى آراء بتجربتك وبمسيرتك، أوّلها من أحد الزملاء الإعلاميين الذين يتميّزون بإتقانهم اللغة العربيّة وبحرصهم على هذه اللغة وتدريسهم لهذه اللغة، الإعلامي والأكاديمي الأُستاذ "بسّام برّاك"، نسمعه سوياً
جبران مسعود: أهلاً وسهلاً به
كلام يوصل:
بسّام برّاك- مدير كليّة الإعلام في الجامعة الأنطونيّة: "جبران مسعود" أنيق اللفظ والكلِمة، مثل قامته. عندما يفتح بابه للاستقبال يفتح شهيّةً على اللغة، على الكلمات، على المعاجِم، وعلى جذر الألفاظ. أنا أُعطيه صفة "راهب" اللغة، راهب هذه اللغة لأنه أضاء شمعته فيها بسكون داخل جدران بيته ومع زوجته السيّدة "جوزفين مسعود" التي كانت كاتبة مهمّة جداً. كلاهما تماهيا وتصومعا، لكن في الوقت نفسه أطلّا على الناس بكتبهما، بهذا الصمت المُجاهِر الذي تمكّنا من خلاله أن يُعليا صوت اللغة العربيّة أكثر. أذكر المرّة الأولى التي التقيت به كان لقاؤنا عندما كنتُ في طور التحضير لعمل "إملاء من السرايا"، ولم يكن هذا اللقاء إلاّ مع "جبران مسعود" المرجِع، هرّبت النصّ إليه وقلتُ له، "الق لي نظرتك اللغوية عليه"، فكان كما هو، في ربطة العنق الأنيقة وهذه الابتسامة التي فيها لغة أيضاً، لغة التواصل مع الآخر، فنقّح وأعادَ، ومن حينها شيّدنا صداقة بنويّة وأبوية. اليوم أعتبر عندما أتحدّث عن "جبران مسعود، أعتبر أنّ هناك افتقاداً، أشعُر بوجع هو الوحيد الذي مكنَنا من صون اللغة من بعض الشوائِب أو من الهجمات عليها. كتبه الكثيرة يتحدّث فيها عن أهميّة اللغة العربيّة، وأثناء تحدّثي عنه أشعُر بالافتقاد في الوقت نفسه وكأنني أتكلّم عن شخص صار في "الهيولة" أي شخص لا يُمكننا أن نلتمسه اليوم بقدر ما أنّ مُجتمعنا يبتعِد رويداً رويداً عن اللغة العربيّة التي يُقرِّبني إليها "جبران مسعود". أستاذ "جبران"، أبي اللغوي هلّ تعتبر أنّكَ تمكّنت من أن تتجاوز موت "جوزفين مسعود" ووحدتكَ في البيت من خلال اللغة؟ أي، هلّ وطأت الموت في اللغة العربيّة حتّى تتفجّر منكَ براكين لغوية لغاية اليوم، في العقد الثامن من عُمرك؟
زاهي وهبي: حلو السؤال، حلو الذي قاله عنك وخلفيّته إذا انتبهت "ديوان درب القمر" لأُستاذك "فؤاد سليمان"، تفضّل الجواب عندك. هلّ وطأتَ الموت؟
جبران مسعود: أولاً شكراُ لـ "بسام" الذي اعتبرني أباً وأنا أعتبره ابناً لي، وهو عالِم كما ذكرتُم في المقدّمة، وأكاديمي من الطراز الأوّل وعاشِق للغة العربيّة. هذا ما قرّبنا كثيراً هو عاشِق للغة العربيّة
زاهي وهبي: أُستاذي حين تسمع أشخاصاً أو تشعُر بأنّ تجربتك وصلت إلى أجيال مثل جيلي أنا وأُستاذ "بسام" أو مثل ربّما أشخاص من أجيال أصغر هلّ هذا يُعطيك شعوراً بالرضى؟
جبران مسعود: نعم. بالرضى والتأثّر، أنا أتأثّر كثيراً وتكاد عينايَ تدمعان حين أسمع شهادة كشهادة "بسّام"
زاهي وهبي: نعم، والجواب على سؤاله؟
جبران مسعود: الجواب عن سؤاله فيه غصّة، طبعاً لا يستطيع الإنسان أن يتجاوز الموت، الموت هو من سُنن الحياة، إنّما تبقى الذكرى، تبقى الذاكرة، تبقى الأحلام القديمة وتعود لتنتعِش، إنّما الحياة تستمرّ
زاهي وهبي: نعم. كم بالإمكان أن تكون الكتابة مُطهّراً أو تكون مصفاةً لتكرير المتاعب والأحزان والعذابات التي يمرّ بها المرء؟
جبران مسعود: ما من شكّ، الكتاب والقلم هما من أعزّ الأصدقاء للمؤلِف، وما من شكّ في أنّهما يُبعِدان عنه كثيراً من الأشباح المؤلِمة السوداء
زاهي وهبي: أُستاذي، تتحدّث وتقول في مُقدّمة موسوعتك عن انحسار الرؤية القومية الثقافية. ما هي الرؤية القومية الثقافية؟
جبران مسعود: اللغة الفُصحى هي جزءٌ لا يتجزّأ من القومية، وأنا أعتقد أنّ اللغة العربيّة هي التي ستُوحِّد يوماً ما العالم العربي، اللغة الفُصحى هي التي ستوحِد
زاهي وهبي: رغم انتشار العاميّات والمحكيات، وهناك من يُنادي بأنّ هذه المحكيات هي لُغات قائِمة بذاتها!
جبران مسعود: هي لهجات وليست لُغات، وأنا اختلفتُ في الماضي مع أصحاب هذه النظرية
زاهي وهبي: نعم، مع الشاعِر الراحل "سعيد عقل"
جبران مسعود: نعم مع "سعيد عقل" ومع غيره من الذين حاولوا أن يلغوا الفصحى أو أن يُهمّشوها على حساب اللهجات العاميّة، وألقيت يومذاك عدّة مُحاضرات في بعض المحافل وكتبت في بعض المجلّات من غير أن أذكر اسماً لم أذكُر اسماً
زاهي وهبي: نعم، لم ترُدّ على أشخاص بل رددت على رأي أو على فِكر
جبران مسعود: قلت أنّ تحطيم اللُغة الفُصحى هو تحطيم للرابط القوميّ الأساسي في العالم العربي
زاهي وهبي: لكن أُستاذي، هلّ تستطيع اللُغة الفُصحى أن تكون لغة حياة يومية، لغة ما هو مُعاش يومياً؟
جبران مسعود: لا. نحن نتكلّم في اللغة اليومية اللهجة العاميّة، إنّما تُلاحِظ أنّ اللغة الفُصحى لم تبقَ لغةً فُصحى كما كانت في الجاهلية، هي لُغة تتطوّر، لغة الصحافة اليوم هي لُغة فيها شيء من العامية بمعنى لُغة فصيحة مُبسّطة. تستطيع اللغة الفُصحى أن تُماشي العصر، أن تُماشي الحاجات، لا أن تبقى تقهّراً، إنّما تُستخدم في الحياة اليومية بطبيعة الحال كما في كلّ البلدان. في "فرنسا" يتكلّمون لهجاتٍ عاميّة إنّما اللغة الفُصحى فتبقى هي اللغة الأساس في الأدب، في الثقافة
زاهي وهبي: حال اللغة العربية، هذا الانفصام بين اليومي وبين القاموسي أو الكتابي أو بين الشفهي وبين المكتوب له ما يشابهه أو ما يُعادله في اللغات الأُخرى؟
جبران مسعود: لا أعتقد أنّ ذلك بقدر القوة الموجودة في اللغة العربيّة مع العِلم أنّ نحو 70 في المئة من الكلمات العاميّة هي فصيحة
زاهي وهبي: صحيح
جبران مسعود: تقول مثلاً أو نقول: "انا اُخمِّن هكذا" وأُخمِّن هي من فعل خّمّن
زاهي وهبي: نعم، التخمين
جبران مسعود: وهي كلِمة فصيحة وهناك الكثير من الكلمات العاميّة فصيحة إنّما ما الذي يفرق بينهما؟ قواعِد اللغة، بمعنى قواعِد الصرف والنحو والإعراب
زاهي وهبي: حين كنّا صغاراً في القرية كان الأُستاذ إذا أحد التلامذة مثلاً ضرب تلميذاً آخر بحجر وأذى له رأسه كنّا نقول "فدغه". منذ فترة وأثناء بحثي في أوراق وكتب وجدتُ أنّ كلِمة "فدغ" هي فصيحة
جبران مسعود: كثير من الكلمات، إنما كما قلت، الاختلاف هو في الإعراب. في اللغة الدارجة تقول "شفت واحد ماشي" وبالفصحى تقول "رأيته ماشياً"، فقواعِد الإعراب لا تُطبّق في اللهجات العاميّة
زاهي وهبي: نعم. أُستاذي، هلّ تقوم رؤية ثقافية قومية في معزِلٍ عن مشروعٍ نهضويّ قومي؟ بمعنى، في ظلّ هذا الخراب العربي هلّ نحلُم برؤية ثقافية قومية جامعة مُشتركة؟ سمّها ما شئت
جبران مسعود: العالم العربي اليوم عالماً ميؤوساً منه في الوقت الحاضر. مُعظم الدول العربيّة تُباع وتُشترى في سوق النخاسة الدولية
زاهي وهبي: للأسف
جبران مسعود: هذا ما يؤثِّر كثيراً على الثقافة وعلى اللغة. طبعاً اللغة والشعور القومي والنهضة السياسية يتكاملون
زاهي وهبي: حتّى الاهتمام، إذا تُلاحِظ أُستاذي ميزانيات وزارات الثقافة العربيّة أو موازناتها السنوية لا تُقارَن بموازنات الوزارات الأُخرى، تجدها شحيحة جداً، لماذا؟ عند الأمم الأُخرى يختلِف الموضوع. في أوروبا ترى مثلاً وكنّا نتحدّث قبل بدء الحوار، بيوتاً للفنانين ومزارات ومتاحِف، لماذا نحن مختلفون عنهم هكذا؟
جبران مسعود: هذا دليل تخلّف، هذا تخلّف، هذا هو العصر الرديء. نحن نمرّ في العصر الرديء خصوصاً بعد "الربيع العربي" الذي سمّوه ربيعاً عربياً وهو مؤامرة دولية كُبرى على هذا العالم العربيّ حتّى لا يتوحّد، حتّى لا يبقى قوياً، حتّى لا يشعُر بالعِزّة القومية
زاهي وهبي: نعم. في خمسينات وستينيات القرن الماضي كانت هناك أحلام، كانت توجد تطلّعات كُبرى، وكأنّ جيلكم حينما كنتم شباباً في تلك الفترة كأنّ ظروفكم كانت أفضل من ظروفنا
جبران مسعود: ما من شكّ في ذلك. كنّا نتعاطف مع أيّة قضيّة عربية. مثلاً أذكُر أنني في سنة 1947 كنتُ في السابعة عشر من عمري ونظمتُ قصيدتي عن "فلسطين". كُنّا نشعُر بالقضايا العربيّة. إذا قامت نزعة عربيّة مُعيّنة في بلدٍ عربيّ مُعيّن كنّا نعيش تلك النزعة
زاهي وهبي: نعم
جبران مسعود: كنّا نعيشها ونتمنّى أن نُشارِك فيها. اليوم نسمع عن كذا عدد من القتلى في البلد الفُلاني وفي القطر العربي الفُلاني وكأنّه خبرٌ عاديّ ولا نتفاعل معه
زاهي وهبي: هلّ تعتقد أنّه من الممكن لهذا الخراب الكبير أن يزيد في وعينا؟ أن يؤسّس لنوعٍ من صدمة، نوعٌ من هزّة للوعي وللضمير وللعقل العربي؟
جبران مسعود: آمل ذلك، آمل ذلك، إنما لا أعتقد أنّ هذا سيحدُث في الوقت القريب
زاهي وهبي: نعم. حضرتك لم تكتُب فقط قصيدة في عمر السابعة عشر بل أصدرت في عمر الثامنة عشر أوّل كُتُبك
جبران مسعود: أوّل كتاب لي هو "الرماد الأحمر". الرماد هو عبارة عن التقاليد البالية والأحمر يعني أنّ تحت هذه التقاليد البالية
زاهي وهبي: توجد نار
جبران مسعود: نار وجمر يكوي، وكان كتاباً متطرّفاً ضدّ الإقطاع الديني والإقطاع الزمني والتقاليد البالية، ودعوت فيه إلى التزاوج، إلى أن تتزوّج المسلِمة مسيحياً والمسيحيّة مسلماً
زاهي وهبي: نعم، الزواج المُختلط
جبران مسعود: الزواج المُختَلَط، حتّى أنّ إحدى المدارِس حرَّمته
زاهي وهبي: إحدى؟
جبران مسعود: إحدى المدارِس حرّمت قراءته
زاهي وهبي: أفّ!
جبران مسعود: إنّما انتشر انتشاراً هائِلاً. ومما يُشرِّفني في هذا الكتاب أنّ "مارون عبّود" تحدّث عنه في الإذاعة اللبنانية
زاهي وهبي: الأديب الكبير وهو من هو
جبران مسعود: الأديب الكبير، وعندما قصدته في "عاليه" كان اُستاذاً في "عاليه" وعندما رآني قال لي، "هذا أنت الذي تحدّثت أنا عنه؟ أنظر يا ابني، يُمكنك أن تفتخِر طوال حياتك أنّ "مارون عبّود" تحدّث عنك"، وهذا كان صحيحاً
زاهي وهبي: أُستاذي، حضرتك أساساً من بلدة "أرصون" في "المتن"
جبران مسعود: نحن في الأصل من "أرصون" نعم
زاهي وهبي: وقلت لي قبل الحوار انّ الكثير مما كتبته هو من وحي "أرصون" والجبل اللبناني
جبران مسعود: من وحي " أرصون"، كنّا نصطاف في "أرصون" وعندنا بيتُ هناك وعندنا رزقٌ هناك، إنّما كنّا نصطاف لنحو شهرين ونعيش حياة القرية، حياة القرويين. مع البقرة والحمار عند الفلاّح ومع العيون والينابيع، ونصطاد. وكنتُ حين أصطاد والآن أندم على الصيد طبعاً، أقطف عنقوداً من العِنب من كرمِنا هناك وأضعه في "عين حاكورة قيس" وأتأمّل. الأفكار التي دوّنتها في ما بعد أكثرها كان من وحي طبيعة أرض "أرصون"
زاهي وهبي: قبل أن نتوقّف مع استراحة حضرتك ابن منطقة "الأشرفية" في "بيروت"
جبران مسعود: نعم
زاهي وهبي: تغيّرت "الأشرفية" أليس كذلك؟
جبران مسعود: تغيّرت كثيراً بوجود هذا البناء الجديد وناطحات السحاب. كثيرون من أهل "الأشرفية" حين أُجلوا عن بيوتهم سكنوا خارِج "الأشرفية"
زاهي وهبي: هلّ تتكيّف مع هذه المُتغيّرات؟
جبران مسعود: قليلاً جداً
زاهي وهبي: قليلاً. على كلّ حال ماذا سنفعل، هذه سنّة الحياة
جبران مسعود: واقع الحياة
زاهي وهبي: واقع الحياة. سنُتابِع مع حضرتك وسنتحدث أكثر عن الشِعر والنثر عند العرب من خلال موسوعتك نستمِع إلى المزيد من الآراء بتجربتك ولكن بعد استراحة سريعة
المحور الثالث:
جبران مسعود: (فيديو مُسجّل) عندي حوالى ثلاثين كتاباً بين دراسات أدبيّة، بين قصص، بين روايات، بين أبحاث لغويّة، وخصوصاً "الرائِد"، قاموسي "الرائد" الذي أسس لطريقة جديدة في عمل المُعجَم. في الماضي كانت المعاجِم مرّت بأطوار. مثلاً أوّل مُعجم عربي هو كتاب "عين" لـ "الخليل بن أحمد". أسمته كتاب "العين" لأنّه يبدأ بحرف العين. لماذا بحرف العين؟ لأنّه أخذ الحروف من مخارجها، من مخارِج الحلق بمعنى أنّ العين هي أعمق حرف في الحلق وأخذ يصعد بالأحرف إلى أن وصل إلى الأحرُف اللسانية مثل "الثاء" و"الذال"، وأسماه كتاب "العين". بعد ذلك صدر كتب مثل كتاب "لسان العرب" لـ "ابن منظور" بحيث تجد الكلمة من الحرف الأخير وليس من الحرف الأول. مثلاً شرِب، هرَب، ضرب تجدينهم في حرف "الباء"، وكانت الغاية من هذا الكتاب للشعراء الذين يريدون استحداث قافية كلِمات معيّنة، مثلاً قافية على حرف الباء، فيجدون في حرف الباء كلّ هذه الكلمات. هذه الطريقة كانت أساساً من أجل هذه الغاية. بعد ذلك في القرن التاسع عشر استُحدِثت طريقة جديدة للمعلِّم "بطرس البستاني" في كتابه "محيط المحيط"، الذي جمّع الكلِمات تحت جذرٍ واحِد، يسمّونها "العائلة الواحدة"، مثلاً مدرسة، تدارس، اندرس، كلّها تحت حرف "الدال" وكلّهم يرجعون إلى جذر واحِد وهو حرف "الدال"، هذه أيضاً سهّلَت. طريقتي أنا كانت الحرف الأوّل، هذه كانت طريقة جديدة والآن مُعتَمَدة في كلّ المعاجِم العربيّة ومُعتَمَدة في المعاجِم الثنائية، مثلاً عربي- فرنسي، عربي – إنكليزي، عربي- روسي، يتّبعون هذه الطريقة ويُشيرون في مقدّماتهم أنهم رجعوا إلى مُعجم "الرائِد" في طريقة تصفيف الكلام
زاهي وهبي: وهذا هو " الرائِد"، مُعجم أو قاموس مُهِمّ جداً وهو من منشورات "دار العلم للملايين"، يفيد كلّ مهتمّ، ليس فقط في اللغة إنّما في الكتابة والدراسة وبكلّ مناحي الحياة بحيث يُمكن للمرء أن يُثقف نفسه من خلاله. لم نتمكّن من حمل الموسوعة معنا إلى الاستديو لأنّها
جبران مسعود: (يضحك) عشرة كيلوغرامات
زاهي وهبي: عشرة كيلوغرامات، ثمانية مجلّدات كبيرة، لكن دعنا أيضاً قبل أن نتحدّث أكثر أن نسمع رأياً إذا سمحت، هذه المرّة من مسرحي معروف وفنّان لبناني هو الأُستاذ "مروان نجّار"
كلام يوصل:
مروان نجّار – كاتب مسرحي وتلفزيوني: لأننا أولاد حيّ واحِد، لأنّ والده الكاهِن العظيم الذي حين كنّا صغاراً كان هو الذي يُعطينا البُعد الروحي في المنطقة وهو الذي زوّجني، وهناك الكثير من الذكريات الطيّبة مع آل "مسعود"، كانت توجد علاقة إنسانية خاصّة لا يُمكن أن تتواجد مع هكذا إنسان. أعطاني النفس الأدبي إلى جانب حّبنا للّغة، أحببنا بالأدب. تصوّري شغلة مملّة إلى درجة بقدر التعابير الجاهليّة القديمة تحوّلت عندنا إلى دُرَر علينا أن نتعامل معها. حتّى عندما علّمنا "جبران مسعود" كانت سنة ذهبيّة في حياتي، كان حينها يكتُب قاموس "الرائِد" وعشنا معه ولادة القاموس، أنا أكثر من غيري، لأنني دخلت إلى بيته وشاهدت "الفيشات" وحملت معه أوراقاً وشاهدت كيف كان المُعجم يُطبخ من داخله إلى خارِجه. أذكُر بأنني طبّقت الشِعر القديم الذي أصبحنا نتقنه بفضله، طبّقته وكتبت للأُستاذ "جبران" قصيدة مديح. قلت له:
أجبران "أرصونَ" بن أعلى أرومةٍ و"أرصونُ" مجدٌ وابن "أرصون" أمجدُ
بغيرك هلّ تلقى البلادة رائِداً ولولاك هلّ يرقى البيانُ ويسعدُ؟
مروان نجّار: وأتذكّر منذ سنتين حين كنت على الغداء معه، لأنني لا أقطع علاقتي مع أساتذتي وفي طليعتهم الأُستاذ "جبران"، فاجأني بأنّه أتاني بنسخة Photocopy عن الورقة التي أعطيتها له في تلك السنة، حين كان عُمري أقلّ من سبع عشرة سنة. طبعاً أكتب شعراً عظيماً، لكننا سجّلنا لحظة عظيمة كبّرها هو أكثر عندما احتفظ بها. لـ "جبران الخوري مسعود" معي الكثير، منذ أن كنتُ صغيراً إلى أن أُصبح كهلاً إذا الله مدَّ في عُمري، لا أنسى أثر "جبران مسعود" عليّ. أُستاذ "جبران"، عندما أسست مدرستك منذ زمن، وفي السنة التي تلت ذلك على ما أذكُر حين كنت أتحدّث معك وقلت لي أنّك بعثت 80 تلميذاً إلى البيت، قلت لك: " هلّ معقول بأن أحدهم قد بدأ المدرسة وصرف كلّ هذه المصاريف ولم يؤمِن شيئاً بعد ويُرسل تلاميذه إلى البيت، بينما الذين يؤسسون مدارِس يبحثون عن التلامذة؟"، وقلت لي عبارة، " أريد أن أتوسّع في العمق ولا أريد أن أتوسّع في الأُفُق". هلّ لا تزال لغاية الآن مقتنعاً أُستاذ بأنّ الحياة التي عشتها والحياة التي نحن عشناها وراؤك والنصيحة التي نريد أن نُعطيها للذين جاؤوا بعدنا تتطلّب أن نتوسّع إلى هذه الدرجة في العُمق؟
زاهي وهبي: جزيل الشُكر للأستاذ الفنان "مروان نجّار"، تفضّل
جبران مسعود: كان شاعراً حين كان في المرحلة التكميلية
زاهي وهبي: نعم، بعد ذلك أخذه المسرح
جبران مسعود: وكان ممثلاً كذلك في الصفّ وفي رحلات الطلاّب. كان يُضفي على الجوّ بهجة خاصّة من فنّه
زاهي وهبي: لكنه لا يزال كاتباً يكتُب للمسرح وللتلفزيون
جبران مسعود: تماماً
زاهي وهبي: إذاً لا تزال تؤمن بتلك المقولة التي قلتها له ذات يوم حول التوسّع في العمق وليس في الأُفق؟
جبران مسعود: لا أزال نعم. لا أزال أؤمن بهذه الوصيّة نعم وشكراً لـ "مروان"
زاهي وهبي: يقول ويسألك بأنّه هلّ هذه النصيحة تصلح للجيل الآتي بعدنا؟
جبران مسعود: العصر اليوم هو عصر السطحية إجمالاً، عصر السُرعة، لذلك نرى الفتى أو الفتاة أمام الحاسوب أو الكومبيوتر لأنهم يجدون فيه سهولة بدلاً من اللجوء إلى الكتاب
زاهي وهبي: نعم
جبران مسعود: نحن اليوم في عصر السُرعة وعصر السهولة
زاهي وهبي: هذه سمة الكوكب كلّه، سمة العرب للحقيقة
جبران مسعود: سمة العالم إجمالاً، لكن عند غيرنا نرى عُمقاً كذلك، نرى سطحيةً ونرى عُمقاً. النسبة الأكبر إجمالاً اليوم هي للسطحية
زاهي وهبي: أريد أن أتحدث قليلاً عن الشعر لو سمحت لي لأنّ موسوعتك، صحيح هي عن الأدب بمُختَلف مجالاته ولكنّك تُفرِد للشِعر مساحة واسعة في الموسوعة. كما هو معروف لدى العرب صناعتان النثر والشِعر، هلّ لإحداهما فضل على الأُخرى؟
جبران مسعود: الشاعر شاعِرٌ والناثر ناثرٌ، كلاهما جناحا الأدب. لا أجد فرقاً كبيراً بين " المتنبّي" وبين "الجاحظ"، "المتنبّي" سيّد السادات في الشِعر والجاحِظ سيّد السادات في النثر لكلّ واحدٍ منهما فضل
زاهي وهبي: لماذا نشعُر بأنه لدى الكثيرين رغبة في أن يكونوا شُعراء وهم يكونون ناثرين مبدعين في نثرهم؟
جبران مسعود: تماماً. السبب أنّ الشِعر يُغنّى، الشعر موسيقي، لذلك الشاعِر في الماضي كان يُنشِد شِعره، وكانوا يقولون أنشد فُلان القصيدة الفُلانيّة ولم يكونوا يقولون ألقى هذه القصيدة، بمعنى أنّ ميل الشِعر الموزون المُقفّى إلى اللحن وإلى الغناء جعل الكثيرين يتمسكون بالشُعراء
زاهي وهبي: الشعراء العرب يتعاطون مع الشِعر حتّى اليوم في بعض المُجتمعات العربيّة، وكأنّ الشاعِر أعلى رُتبةً من سواه
جبران مسعود: هذا ما قلته في المقدِّمة. قلتُ من قال أنّ الشاعِر أعلى مرتبة من الناثر؟
زاهي وهبي: هلّ أعطانا النثر نصوصاً بمستوى وقيمة ما أعطانا إيّاه الشِعر العربي؟
جبران مسعود: خذ "نهج البلاغة" مثلاً، خذ "نهج البلاغة"، هو قمّة الأدب، قمّة العطاء الفِكري والعاطفي والوجداني. في "نهج البلاغة" تجد النثر وتجِد النفحة الشِعريّة ضمن هذا النثر
زاهي وهبي: إذاً المسألة ليست مُبارزة أو مُفاضلة بين الشِعر والنثر
جبران مسعود: كلاهما يتكاملان
زاهي وهبي: يتكاملان مع بعضهما البعض
جبران مسعود: أنا بدأت بالشِعر، أنا بدأتُ وكنتُ في السادسة عشر من عمري وبدأت شاعراً وعندي ديواناً من أربعين قصيدة لكنّي لستُ شاعِراً
زاهي وهبي: كيف عرِفت أو تيقّنت أنّك لستَ شاعِراً؟
جبران مسعود: لأنني لم أُكمِل الطريق
زاهي وهبي: إلى ماذا يحتاج الشِعر؟ إلى جانب الموهبة طبعاً، إلى ماذا يحتاج؟
جبران مسعود: العاطفة طبعاً، العاطفة، الموهبة، المَلكة الأدبيّة، المَلكة اللغوية، هذا كلّه يُتمِّم العمل الشعريّ
زاهي وهبي: كونك تُجيد الإنكليزية والفرنسيّة، بماذا يمتاز الشِعر العربي عن سواه من شِعر بقيّة الأُمم؟
جبران مسعود: لا أستطيع أن أقول بأنّه يمتاز، لكلّ أُمّة نهج معين في الأدب
زاهي وهبي: نعم
جبران مسعود: "شكسبير" غير "المتنبّي" مثلاً، أو "فيكتور هوغو" غير "المتنبّي"، لكلّ أُمّة نهجها الخاصّ في الأدب
زاهي وهبي: نعم، لا يمكننا أن نقارِن أو نفاضل
جبران مسعود: أن تقول أنّ هذا الأدب أفضل من ذاك لا. مثلاً "اليونان" القدامى أعطوا الملاحم ونحن لم نعرِف الملاحِم إلاّ مُترجمة في العصر الحديث
زاهي وهبي: نعم، ولكن عرِفنا المُعلّقات
جبران مسعود: عرِفنا المعلّقات التي لم يعرِفها الغرب
زاهي وهبي: نعم، وتُفرِدُ للمعلّقات حضرتك حيزاً في الجزء الأوّل من الموسوعة، كما تتحدّث عن شِعر الصوفيين، عن شِعر الصعاليك، عن شِعر المروءة
جبران مسعود: صح، والوفاء
زاهي وهبي: والوفاء. كيف اخترت نماذجك أُستاذي؟
جبران مسعود: اولاً، كما لاحظت في المُجلّد الأوّل، تحدّثت عن الفنون الأدبيّة
زاهي وهبي: نعم
جبران مسعود: عن الفنون الشعريّة والنثريّة مثل المدح والرثاء والهجاء والفخر والحكمة، وعلى ضوء هذه الفنون اخترت أربابها
زاهي وهبي: نعم
جبران مسعود: في كلّ عصر أخذت من يُمثِّل هذا الفنّ أكثر من سواه. مثلاً حين نقول اليوم الغزل عند العرب، رأساً نُفكِّر بـ "عمر بن أبي ربيعة" كسيّد الغزل الحضري، ونُفكِّر بـ "جميل بُثينة" كممثل الغزل العُذري، مع أنني لم أُهمِل الآخرين. تحدّثت عن "قيس لبنى" وعن "قيس ليلى" وعن "عروة وعفراء" في الغزل العُذري وعن "العرجي"
زاهي وهبي: كان يُنسب الشُعراء في ذاك الزمن لحبيباتهم، كم هذا حلو
جبران مسعود: نعم؟
زاهي وهبي: كانوا يُنسبون أي يُعرّفوا بحبيباتهم، مثلاً "قيس لبنى" و"قيس ليلى" و "جميل بُثينة" وإلى آخره
جبران مسعود: لأن الشِاعر كان لحبيبة واحِدة، والحبيبة لهذا الشاعر
زاهي وهبي: اليوم كم ستعِدّ لتعِدّ؟ كلّ شاعِر (يضحك) كتب مائتي قصيدة لمائتي حبيبة، يلقطهن، وأنا أفهم شعراء اليوم
جبران مسعود: (يضحك) تماماً. أحياناً في الخيال وليس من الضروري أن تكون حبيبته المضبوطة
زاهي وهبي: أُستاذي، كيف تجد تطوّر الشِعر العربي خلال العصور من خلال أبحاثك ودراساتك؟
جبران مسعود: طبعاً الشِعر الجاهلي غير الشِعر الأُموي وغير الِشعر العبّاسي وغير الشِعر الحديث. تطوّرَت اللغة، اللغة نفسها تطوّرت ثمّ تطوّرت الموضوعات. مثلاً، في الجاهلية كان الكلام على الصراع القبلي، على الحياة اليومية البدوية، عن شظف العيش الجاهلي وإلى آخره، عن المروءة والوفاء، عن الفتى العربي. ثمَّ بعد الإسلام نشأ تيار هو التيار الذي أستطيع أن أقول عنه القومي، تيار قومي عربي في الصراع خصوصاً بين العرب والروم
زاهي وهبي: قبل الشعوبية
جبران مسعود: وبين العرب والشعوبيين. نشأ تيارٌ قومي في الشِعر العربي، بمعنى ابتعدنا قليلاً عن المناهِج الجاهليّة مع أنّ الكثيرين احتفظوا بالمطالع الجاهلية. الكثير من شُعراء العصر العبّاسي والأُموي
زاهي وهبي: بقوا يقيمون مطلعاً على الطريقة الجاهليّة
جبران مسعود: ثمّ ينتقلون إلى الغرض الذي يريدونه وإلى الفنّ الذي يُعالجونه
زاهي وهبي: نعم. من هم شُعراؤك؟
جبران مسعود: "المتنبّي" في الدرجة الأولى
زاهي وهبي: لماذا؟
جبران مسعود: هو عالمٌ كامِل، عالمٌ كامِل في الحِكمة وفي التفكير وفي العاطفة، عالمٌ كامِل
زاهي وهبي: قبل أن أتوقّف مع استراحة أخيرة، كم أخذت منك هذه الموسوعة من جهدٍ ومن وقتٍ؟
جبران مسعود: سبع سنوات مع بعض الاستراحات بداعي السفر مثلاً لزيارة أولادي في المهجر
زاهي وهبي: مُحفِّزاتك مثلاً عندما كُنت تشعُر بالتعب، بالسأم، بالملل؟ ما الذي كان يعود ويحفِّزك على إنجازِ هذه الموسوعة؟
جبران مسعود: أنني أُريد أن أُنهيها قبل أن أموت
زاهي وهبي: عُمرك طويل، عمرك طويل إن شاء الله
جبران مسعود: كنتُ دائِماً أقول بأنني أُريد أن أُنهيها
زاهي وهبي: عُمرك طويل. سنتحدّث قليلاً عن شِعر الحداثة وموقفك منه. يبدو أنّك غير مُعجَب أو موافِق على هذا النوع من الشِعر، ولكن بعد استراحة أخيرة نُتابِع "بيت القصيد"
المحور الرابع:
جبران مسعود: (فيديو مُسجّل) عندما كنتُ في صفّ الرابع كان عندنا "النادي الأدبي" في مدرسة الـ I.C.، وكان الطلاّب حين يكتبون موضوعاً إنشائياً حلواً كانوا يلقونه في هذا النادي حيث يجتمع الطلاّب مرّة في الأُسبوع، وكان أُستاذي "فؤاد سليمان" حينها الشاعر المعروف، وكان عندي قطعة عن "لبنان"، وأتذكّر أنّهم وضعوا على لوحة الإعلانات، أحياناً يضعون أسماء الأشخاص الذين يريدون أن يتحدثوا عن الموضوع، فوضع الأستاذ اسم "جبران مسعود" وقلت له، " أُستاذ، أنا اسمي غبريال"، قال لي، "الآن أصبحت تكتُب بالعربيّة و"غبريال" اسم أجنبي و"جبران" هو اسمك العربي"، منذ تلك الأيام في الصف الرابع في مدرسة الـI.C. واسمي "جبران مسعود"، وهذه كانت تتسبب لي ببعض المشاكل أحياناً في المُعاملات الرسمية
زاهي وهبي: هلّ من السهولة أن يُغيِّر المرء اسمه؟
جبران مسعود: صعب جداً
زاهي وهبي: بعدما يكون قد تآلف معه، وحضرتك تعلم ذلك
جبران مسعود: صعب جداً. عندما غيّرت اسمي كنتُ لا أزال حدثاً، كنتُ في السنة الثانية التكميلية
زاهي وهبي: يُقال بأنّ لكلّ إنسان من اسمه نصيب. نصيبك الأكبر كان من "غبريال" أم من "جبران"؟
جبران مسعود: من "جبران"، "غبريال" اسم الطفولة والحداثة أمّا "جبران" فكان في ما بعد
زاهي وهبي: تبدو أُستاذي عندك موقف من الحداثة الشعريّة العربيّة وتتّهم هذه الحداثة الشعريّة بتقويض بنيان الشِعر العربي، لماذا؟ وهي ليست وقفاً على العرب، هذه الحداثة موجودة في الشعر الإنكليزي والشِعر الفرنسي، في كلّ العالم موجودة
جبران مسعود: أنا لستُ عدواً لهذا الشِعر الحديث، لستُ عدواً له، إنما القضيّة هي قضيّة اسم، قضيّة تسمية. الشِعر شِعر والنثرُ نثر. الشِعر هو الكلام الموزون المُقفّى والنثر هو الكلام المُطلق، قد يكونُ مُطلقاً وقد يكون مسموعاً، إنّما الاختلاف في التسمية فقط. وأقول للكثيرين من أصدقائي، من أصحاب الشِعر الحديث، كلامكم رائِع إنّما هو نثرٌ فنّي
زاهي وهبي: مثلاً، هلّ قرأت "أدونيس"، "أنسي الحاج"، "شوقي أبي شقرا"، "يوسف الخال"؟
جبران مسعود: "يوسف" كان أُستاذي
زاهي وهبي: نعم
جبران مسعود: كلامٌ جميل جداً إنّما أنا أُصنّفه في خانة النثر الفنّي
زاهي وهبي: ما المانِع أُستاذي أن يتغيّر البنيان مع الوقت؟ اليوم نحن نجلِس في بيت لبناني قديم ونصوِّر هذه الحلقة من "بيت القصيد"، ننتهي ونذهب إلى بيوتنا وهي شقق على طِراز مُختلِف في عمارة من طوابق متعددة، ماذا يمنع أن يتغيّر بنيان الشِعر وشكله مع الزمن؟
جبران مسعود: ما السبب في ذلك؟ ما الداعي إلى ذلك؟
زاهي وهبي: بأننا لن نستطيع الإضافة على عمارة "المتنبّي" وأمثاله. من يستطيع الإضافة اليوم؟
جبران مسعود: نستطيع أن نُحدِّث الموضوعات، نتقدّم في الموضوعات. مثلاً في الشعر القومي الحديث، مثلاً في الشِعر المسرحي، "شوقي" كتب مسرحيات ولم يكن هنالِك مسرحيات في الماضي، إنما كتب المسرحيات بالشِعر الموزون المُقفّى. هنالك الشعر الحديث الذي تسمّيه حديثاً أنا أُعجَب به ككلام جميل، كأدب جميل، إنّما أنا أُسميه نثراً فنياً
زاهي وهبي: على كلّ حال، هذا موضوع نقاش يطول وقد يقدَّم فيه حلقات الإنسان
جبران مسعود: تماماً
زاهي وهبي: ويستمر في تقديمها، وهو أصلاً بدأ منذ بدأت قصيدة النثر ولا يزال مُستمراً حتّى اليوم
جبران مسعود: تماماً
زاهي وهبي: تبدو أُستاذي مهجوساً بقول "عنترة"، " هل غادر الشعراء من متردِّمٍ"، لماذا عندك هذا الهاجِس؟ هلّ بقي مكان؟ بمعنى لم يبق شيء لتقوله أو لنقوله؟
جبران مسعود: كأنّ "عنترة" يعني هذا. "عنترة" كان متهيباً
زاهي وهبي: قال، "ماذا سأقول؟"
جبران مسعود: قال، "الذي سأقوله الكثيرين قبلي قالوه"، لذلك يشكّ البعض بكلام "عنترة" ويلجأون إلى نظريّة "النحل" في الشِعر الجاهلي ويقولوا، " لا يُمكن أن يكون عنترة قد قال هذا الشِعر لأننا لا نعرِف شِعراً كثيراً قبل عنترة"، وبأنّه منحولٌ لكي يقول بأنّ قبله كان هناك شِعر. طبعاً دائِماً نستطيع أن نقول شيئاً جديداً، دائِماً نستطيع أن نقول شيئاً جديداً. قال "عنترة" كلامه وأتى بعد "عنترة" كثيرون قالوا شِعراً جديداً
زاهي وهبي: هو كيفيّة القول. البشريّة قالت كلّ شيء منذ اليونان والإغريق
جبران مسعود: فقط يختلِف القالب. لذلك يقول "ابن خلدون" أنّ الجميل في الأدب ليس المعنى بل المبنى. يقول أنّ الأدب هو مثلاً ككأس، القالب هو واحد إنما تختلِف المعاني فيه
زاهي وهبي: نعم. و"الجاحظ" قال بأنّ المعاني مطروحة على الطرقات
جبران مسعود: تماما، إنّما القالب بالنِسبة إلـى "ابن خلدون" و "الجاحِظ"، القالب هو الذي يُميِّز أديباً من آخر
زاهي وهبي: نعم، وقدرته على السبك والحبك وكلّ هذا. كتبت القصّة والرواية والدراسات المتنوِّعة أُستاذي ولكن يبدو أنّ اللغة ظلّت شغفك الأساسي. لماذا؟
جبران مسعود: مثلاً في كتابيَّ الأولين، "الرماد الأحمر" و "من مذكرات مجنون"، كانت اللغة عاديّة جداً، لغة ابن بكالوريا، ابن بكالوريا متفوِّق في اللغة. إنّما كلّما تطوّرت طوّرت لغتي، حتّى في الروايات التي كتبتها والأبحاث الأدبية التي كتبتها
زاهي وهبي: نعم. هلّ لا تزال قارِئاً جيداً حتّى اليوم، حتّى هذا العُمر؟
جبران مسعود: لا. لستُ قارِئاً جيّداً
زاهي وهبي: لماذا؟
جبران مسعود: لأنني صرفت كلّ هِمَّتي إلى قراءة المجاميع القديمة في أبحاثي اللغوية والأدبية. أنا مضطرّ للرجوع إلى الكُتب القديمة، من "الأغاني" وغير "الأغاني" ودواوين الشِعر ومجاميع النثر. إنّما قصّرت في قراءة النتاج الحديث
زاهي وهبي: ما هو أكثر ما أغراك في هذه المجاميع أو في أُمهات الكُتُب التي رجعت إليها، أكثر ما أغراك أو ما أثار إعجابك؟
جبران مسعود: هو هذا البحر من المعلومات. هذا البحر من المعلومات ومن التعليق على المعلومات. مثلاً "الأغاني" أو "الذخيرة" لابن "بسّام" و"وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لـ "ابن خلكان" ترى بحراً من المعلومات عن شعراء وعن أُدباء، عن قِصص، عن سِيَر حياة، هذا ما جذبني إليها وساعدني في عملي هذا
زاهي وهبي: كيف تُقرِّب كلّ هذه الإبداعات العربيّة العظيمة إلى الأجيال الجديدة؟
جبران مسعود: تكاد تُنسى
زاهي وهبي: للأسف، بينما "شكسبير" يحكي به كلّ العالم
جبران مسعود: تماماً
زاهي وهبي: ومسرحياته تُفدَّم جيلاً بعد جيل وعصراً بعد عصر
جبران مسعود: تكادُ تُنسى لسوء الحظّ مع أنّها ذخرٌ
زاهي وهبي: ما العمل؟
جبران مسعود: العمل أن نعود إلى برامج التربية، نعود إلى وزارات التربية إذا كان هناك من أصحاب الكفاءة في وزارة التربيّة، إلى السياسة العامّة للبلد
زاهي وهبي: قبل أن أطرح المزيد من الأسئِلة على حضرتك سنستمِع أيضاً إلى شهادة في تجربتك من الشاعِر وصديقك الأُستاذ "علي هاشِم"، نسمعه سوياً
جبران مسعود: أهلاً وسهلاً
كلام يوصل:
علي هاشم - شاعِر: ما يجمعني بـ "جبران مسعود"، يجمعني به الإنسان. أنا أنظُر إليه وأتمنّى لو أكون بعضاً منه في إنسانيته وفي فِكره. "جبران مسعود" أعتبره رمزاً شريفاً للصداقة، بتسامحه بوفائه بتضحيته بأنفته إلى آخره، أنا أعتبره مُختَصراً لـ "لبنان" الذي نحلَم به وكيف أنا أتمنّى أن يكون "لبنان" وأنظر إلى هذا الإنسان فأتصوّر "لبنان" الذي نحلم به فيه، هو إنسان مؤمن وعلماني، هو إنسان ابن رجُل دين ولكنّه يعرِف كيف يخُطّ طريقه ومفهومه للدين. "جبران مسعود" كُتلة ضخمة من الفِكر والإبداع، ولا شكّ أنّ كلّ من يُلاقيه في هذه الأيام وقد بلغَ هذه السنّ، أطال الله في عُمره، يلمس وكأنّ عقله وفِكره لا يزال يلمع في جوهره وكأنّه ابن عشرين عاماً. "جبران مسعود" إنسان اللغة تسري في دمه وفي عروقه، هو يعشق اللغة العربيّة لرُقيّها أولاً ولأنّه عربيّ ثانياً، هذا هو "جبران مسعود". أضِف إلى ذلك آخِر ما أتحفنا به الدكتور "جبران مسعود"، "الأدب في عصوره وتاريخه" الذي صدَر عن دار "هاشيت أنطوان" منذ شهرين تقريباً، وهو عملٌ مُدهش لإنسان أنا كنت أُرافقه في هذه المرحلة، واشتغل عليه ما يزيد عن سبع أو ثماني سنوات. أخي "جبران"، سلامٌ عليك لأنّك تُحبّ هذه التحيّة، أسألك، بماذا ستُفاجئنا إن شاء الله؟
زاهي وهبي: شكراً للأُستاذ "علي هاشِم"
جبران مسعود: شكراً أُستاذ "علي"
زاهي وهبي: إذاً، بماذا ستُفاجِئنا؟ هلّ لديك مشروع مُقبِل بإذن الله؟
جبران مسعود: لديّ الآن كتاب بدأت به وكتبتُ ثلاثة فصول من أصل سبعة فصول، عنوانه "غضب الأنين"
زاهي وهبي:” غضب الأنين"
جبران مسعود: "غضب الأنين" وهو غير أنين الغضب، عن ثورتنا كشباب ايّام الانتداب الفرنسي. كنّا نُطالِب بالجيش اللبناني. بعد أن نلنا الاستقلال بقيَ الفرنسيون هنا
زاهي وهبي: أي قبل الجلاء
جبران مسعود: نعم قبل الجلاء، وبقوا متمسّكين، ونحن كنّا نُطالِب ونتظاهر ونقول الشِعر إلى آخره، "غضب الأنين"، وكتاب بعد هذا الكتاب اسمه "عُظماء أقزام"
زاهي وهبي: كيف؟
جبران مسعود: "عظماء أقزام". كثيرون من العُظماء في التاريخ هم أقزام لأنّهم ملأوا الدنيا جُثثاً ودماءً ودماراً
زاهي وهبي: كانوا طُغاة ومستبدين
جبران مسعود: قادة كبار وساسة كبار إنّما هم في رأيي
زاهي وهبي: صغار
جبران مسعود: أقزام. "نابوليون"، "الاسكندر الكبير"، هم ليسوا جبابرة بل هُم أقزام في رأيي
زاهي وهبي: أنت مهموم بالذاكرة الثقافية لبلادٍ، أنا قلتُ في تقديمي لهذا الحوار، مُصابة بمرض فقدان الذاكرة. كيف نُعالِج هذا المرض؟
جبران مسعود: أولاً بالتعليم كما قلت، ثمّ بالإعلام كما تقول، بالصُحف، بالقنوات الإذاعية
زاهي وهبي: حتّى الصُحُف سابقاً كان المشرفون على صفحاتها الثقافية
جبران مسعود: كانوا أدباء
زاهي وهبي: كانوا أُدباء، وذكرنا قبل قليل "يوسف الخال"، "أدونيس"، "أُنسي الحاج"، "شوقي أبي شقرا"
جبران مسعود: ثمّ الصحافة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين
زاهي وهبي: الذين أسسوا الصحافة
جبران مسعود: كانوا أُدباء كباراً. المُعلِم "بطرس البستاني" أسس ثلاث مجلاّت مثلاً، "وليد يكن" كان صحافياً، "أديب اسحق" كان صحافياً
زاهي وهبي: "دار الهلال"، من أسس "دار الهلال" الشهيرة في "مصر"؟
جبران مسعود: "دار الهلال"، "جرجي زيدان" إلى آخره كانوا أُدباء، أُدباء وصحافيين
زاهي وهبي: كيف من اللازم أن نقنِع صنّاع القرار العرب بأنّ الذاكرة الثقافية هي شيء أساسي في نهضة الأُمّة والشعوب؟ ما زالوا اليوم يقولون بأن إنشاء برج أو بناية أهمّ من "المتنبّي" ومن "عنترة"، عما تتحدثون لي عن "المتنبّي" و"عنترة" و "منترة"؟
جبران مسعود: صنّاع القرار العرب أنت تعرِف عنهم وتعرِف بعضهم، لا يملكون من أمرِهم شيئاً، لا يملكون من أمرِهم شيئاً
زاهي وهبي: للأسف. أُستاذي، يرِد في موسوعتك عن الأدب العربي قول "زهير" في مُعلّقته "سئِمتُ تكاليف الحياة"
جبران مسعود: "ومن يعِش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ"
زاهي وهبي: تجاوزت حضرتك الثمانين حولاً
جبران مسعود: أصبحت في السادسة والثمانين
زاهي وهبي: إن شاء الله لبعد المائة بكثير بإذن الله
جبران مسعود: ذرّفتُ عليها، أصبحتُ في بداية السابعة والثمانين
زاهي وهبي: هلّ شعرت أنّ تكاليف الحياة تدفع على الملل والسأم كما شعَر "زهير" في يوم من الأيام؟
جبران مسعود: لا. أنا دائِما متفائِل، دائِماً أعمل، أصحو باكراً وأبدأ بالعمل باكراً، وأنام أثناء كتابتي أو أُفكِّر في كتابة
زاهي وهبي: هلّ تٌساعدك الكتابة على هذا التفاؤل أو على هذا الأمل؟
جبران مسعود: طبعاً لأنّني حين أكتُب أُفكِّر في هذا العمل حين يُطبع وكيف سيكون استقبال الناس لهذا العمل
زاهي وهبي: يهُمّك أن يجِد العمل صدى لدى القرّاء، لدى المتلقّين
جبران مسعود: أنا أُحبّ أدبي، لست متواضعاً أبداً. أُحبّ أدبي وأفخر به وأُحبّ أن يُحبّه الناس وأنّ يتحدّث عنّي الناس، ليس من باب الغرور إنّما من باب أن أُعطى حقّي
زاهي وهبي: نعم. إن شاء الله هذه الليلة نكون ساهمنا ولو مثقال ذرّة كما يُقال في إعطائك هذا الحقّ. أولادك أُستاذي، عندهم هذا الشعور؟ بمعنى هلّ هُم سُعداء وفخورون بأنّ والدهم "جبران مسعود"؟
جبران مسعود: طبعاً
زاهي وهبي: عندك أربعة أولاد
جبران مسعود: أربعة أولاد، عندي بنتان وولدان
زاهي وهبي: ألله يخليهم
جبران مسعود: وكلّهم حبّات قلبي مع تسعة من الأحُفاد
زاهي وهبي: تعرِف المثل اللبناني الذي يقول، " ما أعزّ من الولد إلاّ ولد الولد"
جبران مسعود: "إلاّ ولد الولد" وهذا المثل صحيح بالنسبة لي. أحياناً ابنتي تقول لي، "يا بابا هلّ تحبّ ابنتي أكثر منّي" فأقول لها "نعم" (يضحك)
زاهي وهبي: ماذا يمنحونك هؤلاء الأحفاد
جبران مسعود: عودتي إلى الطفولة، بمعنى عندما ربّيت أولادي ربما لم يكن عندي الوقت الكثير لكن الآن أصبحتُ متفرغاً لأولاد أولادي
زاهي وهبي: عندك وقت لتأخُذ وتُعطي معهم وتسترجع طفولتك. علاقتهم بكُتبك، هلّ لهم علاقة بلغتهم العربيّة، بكتاباتك؟
جبران مسعود: لسوء الحظّ لا، إنما إحدى حفيداتي قرّرت مؤخراً أن تتبنّى كُتُبي وأن تجمعها عندها وأن تكون هي قيِّمة عليها حتّى إذا ما سُئِلت يوماً ما عن جدِّها تكون هي الناطقة باسم جدّها الذي يكون قد رحل
زاهي وهبي: برَافو عليها. أُستاذ "جبران مسعود" سُعِدت جداً بالحوار مع حضرتك، شرّفت "بيت القصيد" ونوّرت "بيت القصيد"، أمدّ الله في عُمرِك وأعطاك المزيد من الصحّة والهِمّة لإثرائنا بمزيد من الكُتُب والموسوعات
جبران مسعود: أنا أشكُر لك هذه الالتفاتة، أنا مُعجب بـ "بيت القصيد"، "بيت القصيد" هو قصيدة كامِلة على كلّ حال
زاهي وهبي: ألله يخلّيك
جبران مسعود: قصيدة رائِعة جداً، وأُتابِع برنامجك على مدار السنة. وفّقك الله وجعلك من الذين يُعلون من شأن هذه اللغة العربيّة وهذه الثقافة العربيّة
زاهي وهبي: ألف شكر، ألف شُكر. طبعاً شكراً لفريق العمل، لمخرج البرنامج الأُستاذ "علي حيدر"، لمنتِجة البرنامج "غادة صالِح". لمُشاهدينا في كلّ أنحاء العالم، الشُكر الأكبر دائِماً لكم. نلتقيكم الأُسبوع المُقبِل على خير بإذن الله. شكراً