عن الأدب المقاوم ودوره التاريخي

إنّ كل عمل أدبيّ لا يقل قيمةً ولا أهميةً ولا شجاعة عن عمل مقاوم سهر الليالي الباردة، ليزرعَ عبوة تحيل المحتل أشلاءً.

كتاب "أدب المقاومة في قلسطين المحتلة 1948 - 1966" للأديب الشهيد غسان كنفاني.

وُلِدت المقاومة مع الإنسان، وظلت ملازمة له منذ نشأة الخليقة، لأنه مخلوق مقاوم بطبعه وفطرته لكل ما يحسبه عنصرًا يعمل ضده، إن كان هذا العنصر ينتمي إلى محيطه، وبيئته، أو كان من المجموعات الإنسانية أو الطبيعية الأخرى.

وبما أنّ اللغة كانت ولا تزال تشكّل إحدى أدوات التواصل والمواجهة؛ فإنّ الانسان استخدمها كعنصر مؤثّر في الدفاع عن النفس. ونجد في التاريخ شواهد عدة لتأثيرها، وقد تحولت فيما بعد إلى أدب وشعر وخطابة وغيرها. لذا من الممكن القول إنّ أدب المقاومة هو التعبير من خلال اللغة التي استحالت نصًّا ومنصةً للدفاع عن الإنسان في معركته مع الآخر المعتدي، مع تعدّد هذا الآخر وتنوّعه وتلوّن صفاته. لذلك لا يخرج الموضوع عن هذا المسار التاريخي التكويني.

  لم يتوصّل الباحثون بعد إلى تعريفات أو محددات لغوية واصطلاحية مؤطرة تعرّف أدب المقاومة، لذا قد نستطيع القول، إنه قد يكون كل كلمة ونص وقصيدة ورواية ومقالة وأغنية وموقف ثقافي وفكري وأدبي في مواجهة المحتل والظالم وأعوانه. قد لا يتجلّى هذا المحتل في العدو الخارجي فقط، عبر الاحتلالات العسكرية والتهجير وهدم المنازل وقتل الإنسان من خلال الرصاصة والقذيفة، بل قد يتشكّل عبر مواجهة الظلم اللاحق بالفرد والجماعة، من قبل سلطة أو حاكم أو فئة تسحق مجتمعًا ما.

النص الإبداعي بين المتعة والقضية

 

   اختلفت أقوال النقّاد في كيفية مقاربة النص الإبداعي، وهل هو نص ينهض على الجمال ويقوم له وينعقد من أجله، ويبتعد من  كونه حاملًا لقضية ما، أم هو نص في خدمة مشاريع ورؤى يتوسلها الكاتب من أجل الدفاع عن قضية أو فكرة ينتمي إليها، ويروّج لها، بحيث يصير المتكلم في النص، كما يقول ميخائيل باختين، هو دائمًا وبدرجات مختلفة منتِجًا للأيديولوجيا، وكلماته هي دائمًا عينات أيديولوجية. مما يعني أن رؤيته تشكّل قطب الرحى في أي عمل أدبي. لذا من الصعب أن نجد عملًا فكريًا أو أدبيًا يفتقد إلى المضمون الفكري الأيديولوجي، نازعًا عن الأدب أن يكون لعبة جمالية خالصة. 

 لا يخرج الأدب المقاوم أو الملتزم عن هذا المسار، فهو قرين الوعي، الوعي الذي يلازم الكاتب والمبدع لأهمية تأريخ المراحل، والدفاع عن الأوطان والأرض والإنسان من خلال النص المنفتح على المستويات المختلفة، والذي يواكب العمل العسكري إن وجد، ويواجه الحرب الثقافية التي تهدف الى محو الذاكرة، ويعمل على تشكيل مفاهيم مختلفة تواجه ما يحمله المحتل من أفكار مسمومة تخدّر الجماعة، وتوقع بها، للدفاع عن خطابه ومنطقه. لذلك يشغل الوعي أهمية وازنة على طريق تشكّل هذا الأدب وتكوينه، ومن ثم العمل على  تحويلِه واستخدامِه كطاقة قادرة على التحريك في سياق هذه المواجهة المفتوحة.

يقول الروائي والكاتب المصري سيد نجم: "إنّ أدب المقاومة تحديدًا، يتمثل في تجربتي الحرب والثورة، مع إذكاء مفاهيم وقيم الانتماء والهوية والحرية، وكل تجارب الدفاع عن الحياة الفضلى التي تعلي من شأن الإنسان. إلا أن هذا التاريخ لم يُسَجَّلْ بعد بشكل كامل، فقد حرص الحكّام قديمًا وفي العصر الحديث على تسجيل تاريخهم الشخصي، فأرّخ لهم المؤرخون، وبدماء العامة من الناس، خطّوا سطور تلك الصراعات والبطولات بأسماء الملوك والحكام. لذا تعدّ سمة المقاومة المرتكزة على الوعي الجمعي، السمة المركز التي يمكن رصدها في تاريخ الجماعات والدول والأمم، بهدف بيان وكشف جوهر العقل والوجدان الفردي والعام خلال فترة زمنية محددة، طوال تاريخ الإنسان على الأرض. والأدب والفنون جميعها تعدُّ وسيلة ناجعة وقادرة على توطيد الذات الجمعية في مواجهة العدوان، كما تؤدي دورها في كشف الآخر المعتدي، وإبراز ما يرسله من أفكار ويمارسه من أفعال، حتى يتسنى مواجهته."

وتوزعت الآراء وتنوعت، بحيث اختلفت في تحديد ماهية هذا الأدب، هل هو أدب الحرب الذي يتوجه في خطابه الى العدو الخارجي، أم هو أدب الثورة الذي يتوجه الى الداخل، كما قالت الدكتورة نجاح العطار والروائي حنا مينا. وهل أنّ الكاتب هو الذي تصنعه الجماهير، وهو الذي تبصّر بالأفكار الماركسية، كما قال الكاتب حسين مروة. أم أنّ أدب المقاومة يحدّده وجهه الإنساني العام، ولا يندرج في تصويره للصراع البشري تحت اية أطر قومية أو اجتماعية، كما يورد الدكتور غالي شكري في كتابه عن أدب المقاومة.

مرحلة جديدة

ندوة عن أدب المقاومة

 انتقل النتاج الأدبي المقاوم الى مرحلة جديدة مع خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وانطلاق مرحلة المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي، وبزوغ أسماء جديدة ولامعة في هذا المضمار. ترافق ذلك مع انتقال الغلبة في نوع النص، من الشعر، الى السرد، الذي أسس له الكاتب غسان كنفاني، مع توجّه واضح  نحو النوع الأخير، تماشيًا مع التبدّل الحاصل في المزاج الكتابي في العقود الأخيرة نحو السرد والرواية، مع ما يتيحه السرد من حرية ملحوظة، تسمح للكاتب أن يطل على المسرح برؤية شاملة لسرد الأحداث الواقعية أو التخيّلية لموضوعة المقاومة.

 تميّزت هذه الأعمال بالقفز فوق تقديس الشخصية المقاومة في النص وإحاطتها بهالة أسطورية،  كما قال أدونيس عن النصوص التي كُتبت في مراحل سابقة، بأنها كانت مُشبعة بروح المبالغة، وانتقلت بها نحو الواقعية، بحيث نُزعتْ عن الشخصية صفة الأسطورة والغلو، وتحولت معها الى إنسان عادي يحبُّ ويكره، ويخطئ ويصيب، وينجح ويخفق، ويخاف ويُقْدِمُ، ويحزن ويفرح.

من خلال هذه الإشكالية، شغل النص الملتزم مساحة نقاش في الميدان الثقافي اللبناني والعربي، وسال حبرٌ كثير في الحديث عن هذا الموضوع، في الندوات والمقالات وغيرها، من أجل الإطلالة عليه ومقاربتِه. ولعل بعض النقاش قارب انطلاقةَ أدبِ المقاومة وتاريخَ نشأته والظروفَ التي ساعدت على تشكّله، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام، ألا يُهملَ هذا الأدب، وألا نزهدَ في الإضاءة على ظاهرة مشعّة وسط هذه العتمة الممتدة من المحيط الى الخليج، ولا سيّما الكلام عن فترة الاحتلال الإسرائيلي. عن تلك الأيام  التي امتزج فيها القهرُ والألمُ والجراحاتُ والموتُ والتهجيرُ والدمارُ؛ بالفرح، ذلك الفرح المنبعث مع كل عبوة تنفجر بدورية للمحتل، فيحمل صوتُها البسمةَ والبهجةَ التي كانت ترتسم لوحةً على الوجوه المقهورة، وعزةً تتشكّل يومًا بعد يومٍ في العيون الحالمة والمنتظرة بشوقٍ مواسمَ الحريةِ والفخرِ والانتصارِ.

لذا كان واجبًا على كل من يحمل قلمًا أن يسهم في حفظ أيام المجد التي عاشها الوطن والأمة. وهذا ما فعله عددٌ من الكتّاب، وعلى رأسهم الكاتب غسان كنفاني، والدكتور عبد المجيد زراقط، والدكتور علي حجازي، والدكتورة فاتن المر، والدكتور إبراهيم فضل الله،  والروائي حسن حميد، وغيرهم ممن أسهم في تأريخ مرحلة مجيدة من أيام أمتنا العربية والإسلامية.

لذا كان واجبًا على كل من يحمل قلمًا أن يسهم في حفظ تاريخ وأيام المجد التي عاشها الوطن والأمة. وهذا ما فعله عددٌ من الكتّاب المذكورون أعلاه وغيرهم ممن أسهم في تأريخ مرحلة مجيدة من أيام أمتنا. وشغلت أعمال بعضهم مساحة مميّزة في الأدب الذي يعمل على تشييد الذاكرة والوعي، وتذكير الأجيال التي لم تحظَ بمعايشة فترة الحرب الأهلية والاحتلال، والإضاءة على شبابٍ أسُودٍ آمنوا بربّهم وبوطنهم وبقدراتهم، وفتياتٍ شامخاتٍ، وأمهاتٍ مضحيات، ورجالٍ شوامخ كالجبال، شكّلوا هذه المشهديةً الرائعة. ترافق ذلك مع كل الظلم الذي لحق بالمقاومة، بأطيافها كافة، على المستوى الإعلامي، والثقافي والسياسي.

لذا، قد يكون السؤال المطروح دائمًا، على المثقفين والكتّاب والمبدعين، قبل غيرهم: لماذا يسيل الحبر أنهارًا، في أيام الهزيمة، والنكسات والنكبات؟ وتبدأ حفلات جلدِ الذات والعويلِ والنحيب؟ وفي أيام الانتصارات - وهي نادرة في تاريخنا المعاصر-  تعود الأقلام إلى أغمادها؟

هل لأننا تعودنا على الانكسارات والخيبات؟ أم أننا ما زلنا غيرَ مؤهلين لانتصارات بهذا الحجم؟ انتصاراتٌ راقيةٌ، نظيفةٌ، تشعُّ إنسانيةً ورحمة وعفوًا.

  لعل السبب قد يكون بأننا كشعوب عربية ونخبٍ ومثقفين وعاملين بالشأن الثقافي والسياسي، لم نستطع بعد أن نهضم حدثًا بحجم الأيدي التي امتدت من زنازين معتقل الخيام، لملاقاة الرجال الذين حرروا، ليس المعتقل فقط، بل حرروا العقل العربي والوطن والأمة من مفاهيم الهزيمة والضعف والاستسلام.

ما قدمته هذه الأعمال على تواضعها، يأتي في سياق حفظ هذه الإنجازات من غبار الزمن، ومن الحبر الملوّث الذي قد يستوطن أوراق الزيف والخداع والتهوين، فيصبح عباس الموسوي وهادي نصرالله وسناء محيدلي ولولا وعلي عبود، وخالد علوان وآلاف الشهداء، قطّاعَ طرقٍ ومقامرين. 

لذا، فإنّ كل عمل أدبيّ لا يقل قيمةً ولا أهميةً ولا شجاعة عن عمل مقاوم سهر الليالي الباردة، ليزرعَ عبوة تحيل المحتل أشلاءً. لأننا إذا لم نؤرخ لهذا التاريخ المجيد، نضع رقابَنا ومستقبلَ أوطاننا وأبنائنا تحت مقصلة من يريد أن تحيا الأمةُ من دون تاريخ، لتبقى الحجةُ والشعارُ أنّ العين لا تستطيع أن تقاوم مخرز الصهاينة ومجتمع الدول الظالمة، وغيره.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]

 

 

اخترنا لك