عبد الوهاب بوحديبة: المفكّر المستنير
شكّلت أعماله، فيما يتعلّق بالثقافة الإسلامية وعلاقتها بالجسد، إعادةَ بناء لذهنية تُتيح سعة في الخيال والسلوك، وتجنح نحو الاجتهاد. بعد عام على رحيله.. مَن هو عبد الوهاب بوحديبة؟
في الـ 17 من كانون الأول/ديسمبر 2020، غادرنا عالِم الاجتماع والمفكّر التونسي عبد الوهاب بوحديبة، تاركاً وراءه إرثاً جليلاً ومسيرة علمية زاخرة، إذ كان أحد أعمدة الجامعة التونسية، وهو من الجيل المؤسِّس والذي طبع بمنهجيته ودروسه ومؤلَّفاته أجيالاً لاحقة، وكان تلميذاً للفلاسفة بونتي وباشلار وهيبوليت وباستيد وريكور وغيرهم.
صاحب كتاب "الجنسانية في الإسلام"، الصادر عام 1978 باللغة الفرنسية، والذي يحمل مصطلحاً مفتاحاً هو "الجنسانية"، يحتلّ مكانة مهمة راهناً على صعيد البحوث في الإنسانيات، ويمثّل عمله حقلاً مهماً في الحفريات المعرفية التي تتجاوز الفلسفة وعلم النفس، إلى علم الأعصاب والجينات، وكذا البحث في التغيّرات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية، شمالاً وجنوباً.
مسيرة علمية حافلة بالإنجازات
خلال حفل تأبيني أُقيم مساء الخميس، في الـ 16 من الشهر الجاري، في "بيت الحكمة" في تونس العاصمة، بمناسبة مرور عام على رحيل بوحديبة، قال الفيلسوف فتحي التريكي، الذي أشرف على كرسيّ اليونسكو للفلسفة في العالم العربي، إن "فلسفة بوحديبة هي فلسفة أصيلة ذات أبعاد ثلاثة. يتحدّد بُعدها الأول في التحليل الاجتماعي والثقافي والنقدي، والذي نجده في جُلّ كتبه، والذي يربط دائماً بين الدعوة الملحّة إلى استقصاء الظواهر الاجتماعية بالأساليب التقنية العلمية والارتقاء إلى التنظير استئناساً بمفاهيم الفلسفة والدعوة إلى أن نعيش أفضل. ويتمثّل البُعد الثاني من خلال قاعدة إيثيقية نلخّصها في مفاهيم مسكيهوية، ونعني المسالمة والسماحة والمسامحة. أمّا البُعد الثالث فتمحور حول فكر فلسفي كوني أصيل، يعتمد مظاهر الحياة اليومية وتعابيرها وآمالها، لا محالة، لكنه يرقى بها إلى الكمال الإنساني".
التريكي، الذي نُشرت كلمته هذه ضمن كتاب أعدّته "مؤسسة بيت الحكمة"، أشار إلى أحد مؤلَّفات بوحديبة، وهو "الثقافة والمجتمع"، مؤكداً أنه "نص مفتوح على الفلسفة وعلم النفس والأنثروبولوجيا ودراسات المخيال والحكايات الشعبية"، وتساءل "هل كان للنزعة الوضعية التي تُيّم بها البعض، أن تفهم إغراء الألوان وغواية الروائح والعطور وسحر الأنوثة العربية القاطنة فينا، كما ورد في الكتاب؟".
أمّا الفيلسوف محمد محجوب، وهو أحد مؤسِّسي "معهد تونس للفلسفة"، فلخّص فكر بوحديبة في قوله "لعله يمكنني أن أستجمع الثنايا الفكرية لعبد الوهاب بوحديبة ضمن محورين متوازيين، هما "محور الوفاء للمعنى"، وتدور حوله تأملاته في رمزيات الحياة. فالمثقف والجامعي والمفكر والباحث ليسوا سوى مفكّري الأمة. لذلك، فإن عملهم الحقيقي هو الإصغاء إليها في جميع الرمزيات التي تتكلم وتنطق من خلالها: رمزية الجنس والحياة الجنسية. رمزية الطفولة ورمزية الهامشية، التي ليس الإجرام إلاّ أحد أعراضها، ورمزية الذاكرة في بحثها، لا عن الزمن المفقود فقط، بل أيضاً عن المعايير الضائعة. أمّا المحور الثاني فهو ما يمكن أن أسمّيه، على أثر بوحديبة، "المعرفة المناضلة". إن الإنصات إلى المجتمع، ومحاولةَ فهم ظواهره وتغيراته، لا يقصدان إلاّ إلى الفعل فيه. فمواكبة المجتمع وفهمه لا يمكنهما أن يكونا مجرد تصديق عليه. على المفكر والعالم أن يسعيا لتغيير المجتمع، وأن يرصدا مواطن العطالة فيه، وليس له من سبيل إلى ذلك إلاّ الكلمة".
كانت أعمال بوحديبة حول الثقافة الاسلامية وعلاقتها بالجسد، إعادة بناء لذهنية تبدو في ظاهرها محكمة الانغلاق، لكنها تضم بعض الاشراقات التي تتيح سعة في الخيال وفي السلوك، وتجنح نحو الاجتهاد ورحابة الأخذ بأسباب السعادة في الحياة.
من جانبه، قال الدكتور مصطفى النصراوي، وهو أستاذ ورئيس جامعة سابق، مستفيداً من مجمل حديثه عن معرفته ببوحديبة ومنهجه المتفرد، إنه "لا يكتفي بالقراءة النفسية للتراث القصصي، بل يهتم أيضاً بالمقدس، من خلال استجلاء المعاني النفسية لعدد من الآيات القرآنية، وأهمها آيات "سورة يوسف"، مثل فتنة الجمال والخطأ البشري".
أمّا المدير العام السابق للنشر في "بيت الحكمة"، خالد بن يوسف، فشدّد على النشاط المكثف والمتنوع لهذه المؤسسة العلمية في إبان فترة تولي بوحديبة رئاستَها، ومنها الندوة الدولية بشأن "حداثة ابن رشد"، التي انتظمت بمناسبة المئوية الثامنة لهذا العلَم الكبير، والندوة الدولية "ابن خلدون ومنابع الحداثة"، والتي انتظمت بمناسبة المئوية السادسة لوفاة صاحب "المقدّمة"، وكذلك الندوة الدولية المخصصة لحجّة الإسلام الغزالي، وغيرها.
المسيرة والفكر
كان بوحديبة (1932 - 2020) متعدد الاختصاصات، وأشرف على مراكز جامعية، وكان من مؤسسي دوريات ومختبرات بحث متخصّص داخل الجامعة التونسية. اهتمّ بالجنس والفكر والهوى والعطر والألوان في الإسلام، وما يهدّد انسجام الإنسان داخل المجتمع التونسي. كما كان مولَعاً بتأصيل الهوية العربية الإسلامية، في ثوابتها التاريخية، معتمداً على معرفة أنثربولوجية متينة، من دون أن يشذّ عن المدرسة الإنسانية المعرفية الغربية في تمشّيه البحثي.
كما اشتهر بنزعته التوافقية بين الإسلام المستنير والحداثة الغربية، في بُعدها العلمي ومجالات تقدُّمه، وهي حداثة تكرّس مبدأ ترقّي الشعوب في بنائها على المستوى القيمي، على نحو يخدم الجانب التشاركي في ترسيخ المعاملات الاجتماعية الصحية والمتوازنة، وبين الاحترام للجانب الروحي المشرق في حضارتنا الإسلامية، من دون أن يغفل الركن المظلم الذي تكدّست فيه الأفكار الظلامية لعقود، الأمر الذي استوجب نقدها.
لم يكن بوحديبة مفكّراً صِدامياً في منحاه البحثي، اختياراً وتبويباً. لقد ظل متناغماً مع المنظومة الفكرية، بحيث وظّف أدواته المعرفية ضمن تجذُّره في بيئته. وحافظ على وفائه للقيروان، الحاضرة الإسلامية بزخمها التاريخي، كما أنه لم يغفل التحولات التي يشهدها المجتمع التونسي، وألّف بحوثاً في هذا المجال.
وكانت أعماله، بشأن الثقافة الإسلامية وعلاقتها بالجسد، إعادةَ بناء لذهنية تبدو في ظاهرها مُحْكَمَة الانغلاق، لكنها تضمّ بعض الإشراقات التي تتيح سعة في الخيال وفي السلوك، وتجنح نحو الاجتهاد ورحابة الأخذ بأسباب السعادة في الحياة.
اهتمام بوحديبة بثقافة العطر في الاسلام كان نزوعاً نحو شفافية الكائن الذي لا بد له من جناح ثان هو الخيال إلى جانب العقل، لعله يشفى من تراكم التفاسير المنغلقة وتراكم التهويمات التي تحيله إلى كائن يسكنه هوس مستحيل، ورغبات انتكاسية ذات انعكاسات سلبية.
اهتمّ بوحديبة بالعلاقة بين الأنثى والذكَر، وكان شعاره "الحب يحكم الكون والذكورة والأنوثة تنوّع في الوحدة". كما بحث أيضاً في الفردوس كفضاء حلمي مشتهىً، تتحقّق فيه النشوة الكبرى وتمَّحي الأضداد. ويتحول الدنيوي الممنوع الى انسجام كليّ بين رغبات الإنسان والكون في زمن أُخْرَوي.
ومن المهم التذكير بأن كتابه الشهير، "الجنسانية في الإسلام"، الذي تُرجم إلى أكثر من لغة، منها الإنكليزية والإيطالية والتركية، شكّل مفتاحاً من مفاتيح مسيرة بوحديبة الفكرية، إذ جاء فيه "كان هذا الكتاب في الأصل أطروحة مطوَّلة تحتوي على 800 صفحة، ولما ألّفته كنت أستحضر في ذهني الجامعيّين الفرنسيين الذين سأناقش معهم الموضوع حسب الطريقة الأكاديمية والعلمية. وبعد ذلك اتضح لي أن الأطروحة لا يمكن أن تظلّ حكراً على القارئ الفرنسي المختصّ، أي الجامعي والأكاديمي، بل لا بدّ أن تصل إلى القارئ الذي يتلمّس من خلالها جوهر الحضارة الإسلامية". ويردف بوحديبة قائلاً إنه أراد، من خلال كتابه المذكور، أن يبيّن وجود شاعرية أصلية في الإسلام، الذي يحثّ على اللّذة الحلال، ولا يحرّم الاستمتاع بها، كما لا يعتبر أن الجنس إثم وخطيئة.
لم يكن غريباً على بوحديبة أن يهتمّ بثقافة العطر في الإسلام، نزوعاً نحو شفافية الكائن، الذي لا بدّ له من جناح ثانٍ هو الخيال، إلى جانب العقل، لعله يشفى من تراكم التفاسير المنغلقة وتراكم التهويمات، التي تحيله على كائن يسكنه هوس مستحيل، ورغبات انتكاسية ذات انعكاسات سلبية على الصعيد النفسي، سواء في فضائه الجوّاني أو الخارجي.
بوحديبة، الذي نشأ في كنف أسرة محافظة في القيروان، انتقل إلى باريس، وواصل تعليمه في "جامعة السوربون"، ثم "متحف الإنسان"، بحيث نال، بين عامي 1951 و1959، إجازة في الآداب، ثم أخرى في الفلسفة، وصولاً إلى الشهادة العليا في الأنثروبولوجيا والدبلوم العالي في الفلسفة، ثم التبريز في الاختصاص نفسه، قبل أن ينال شهادة دكتوراه دولة عام 1972.
عمل أستاذاً في "الجامعة التونسية"، وتدرّج ليصبح أستاذ كرسي في علم الاجتماع المغاربي والإسلامي. كما كان أستاذاً في جامعات، منها داكار ولياج وكيبيك ومونتريال وأبيدجان، وكان استاذاً زائراً في عدة جامعات.
كما شغل مناصب متعدّدة، منها رئاسته "بيت الحكمة" من أواسط التسعينيات إلى عام 2011، وعضويته في "المجمع الأوروبي للعلوم والآداب والفنون". وألّف، خلال تلك الفترة، أكثر من 150 بحثاً علمياً أكاديمياً وميدانياً في إطار نشاطه في "الجامعة التونسية" والمؤسسات العلمية الدولية.
من مؤلَّفاته " الإجرامية والتغيّرات الاجتماعية في تونس"، و"علم الاجتماع والتنمية الأفريقية"، و"على خطى ابن خلدون"، و"المدينة العربية في الحضارة الإسلامية".