"مجنون فرح".. عدسة ليلى بوزيد تنتصر للمرأة
تبدو بوزيد عيناً سينمائية منتصرة للمرأة، إذ تعكس نماذج أنثوية ثابتة وجريئة في التعبير عن رغباتها وأفراحها، في حين يظهر الرجل بهشاشة أكثر وفرح أقل رغم ثقافة الحب والتسامح التي يزخر بها الموروث الأدبي العربي.
-
ملصق فيلم "مجنون فرح" لليلى بوزيد
في أحد مشاهد الفيلم التونسي "مجنون فرح"، والذي يعرض حالياً في قاعات السينما التونسية، تقول فرح لأحمد وهما يشاهدان نافذتين متحاذيتين: هل رأيت أنهما في نفس الشقّة بينهما جدار ولكنهما لا يتكلّمان؟
واذ يرصد الفيلم ظاهرة سوء التفاهم أو هذه الجزر النفسية المتباعدة بين زوجين باريسيين اعترى نهر حياتهما جفاف الرتابة، حتى تحوّل إلى أرض قاسية لا يمكن لأيّ منهما تجاوزها نحو الضفة الأخرى للحياة الدافئة، فإنه يطرح أسئلة مبطنة حول علاقة سكان المغرب العربي في فرنسا بهويّتهم في الألفية الثالثة.
يحاول الفيلم أن يشرح عبر تراكمات نفسية ورواسب اجتماعية، بعض وجوه الخلل مركّزاً على علاقة أحمد ونيس بأعطابه الجوّانية. بينما تبدو فرح أكثر تصالحاً مع جسدها ومن دون أحكام مسبقة لتقبّل عالمها الجديد. واقع طالبة تونسية تنحدر من أسرة تسعى إلى شق حياتها الطلابية في حدود امكانياته المتوفرة بعيداً من بلدها الذي تصفه بأنه لا يبدو واضح الأوضاع حاضراً.
يقول جان كوكتو إن "السينما هي الكتابة المعاصرة وحبرها الإضاءة". لذلك، ربما علينا أن نتفطّن إلى الكادرات التي انتقتها المخرجة بحرفيّة لإبراز العالم الصغير الذي يتحرّك فيه فرح وأحمد. إذ صوّرت أغلب المشاهد في أماكن مغلقة وهي الشقق وبعض المطاعم المتواضعة ومكتبة "السوربون" والفصل حيث يدرس هذان الطالبان مادة الأدب.
إنتقت المخرجة الكادرات بحرفيّة لإبراز العالم الصغير الذي يتحرّك فيه فرح وأحمد.
وفيما تغلب على الأماكن المغلقة حميميّة لا تتجاسر أن تتحوّل إلى علاقة كاملة، إلا في المشهد الأخير من الفيلم، فانّ الفضاءات المفتوحة تمرّ سريعاً كأنها تسعى إلى إظهار ارتطامات بحياة يمكن أن تكون ألطف، في مستقبل مرتبط بالترقّي الاجتماعي الذي تمنحه الشهادة الجامعية في ما بعد للبطلين معاً.
تبدو الحياة في الضواحي كما هي العادة في الأدب والسينما المغاربية عموماً، وهي تضجّ بالمكابدة لافتكاك الحق في عيش كريم. إذ تعمل والدة أحمد ليلاً عند سيّدة فرنسية لتعود صباحاً، في حين يبدو الأب طريح الكنبة، وهو القادم من الجزائر صحافياً سابقاً يحمل قلماً انكسر هرباً من شبح الموت في عشريّة أليمة، لتحلّ محلّها جزائر أخرى تبدو صورها في التلفاز بين الحين والآخر.
وبينما لم تنقطع علاقة الأب بالقراءة واللغة، يبدو ولده أحمد فاقداً لجسد التواصل أو الوعاء الذي سيحرّره من اعتلاله الجسدي المبني على الاستيهام، وعدم القدرة على التجاوز نحو الفعل. فكل حركة في جوهرها تحرّر، وكل تحرّر يؤدّي إلى فهم أكثر لحركة الجذور. كأنما جسد أحمد شجرة عليه أن ينصت إلى ندائها الداخلي وأنساغها حين تجري ليستمر ويتقبّل الأنثى كما هي.
الأدب العربي وحديث العتبات
-
ليلى بوزيد
تصوّر ليلى بوزيد أحمد طالباً متميّزاً في المواد الكتابية، لكنه إذ يفشل شفاهياً فإنه يبدو أقرب إلى حال مرضية تستوجب تدخّل التحليل النفسي، إذ إن كل رفض للتواصل يشير إلى رفض للأنا في صورتها المستلبة، ومحاولة تغطيتها انتظاراً يائساً لأخرى أكثر قبولاً من الآخر مع رفض للمواجهة. لذلك تحاول فرح أن تنقذ أحمد ليعبر محنة الامتحان الشفاهي.
يطرح الفيلم أسئلة مبطنة حول علاقة سكان المغرب العربي في فرنسا بهويّتهم في الألفية الثالثة.
وتظهر أصوات شهيرة في الأدب العربي كمجنون ليلى والخيام والنفزاوي وهي تتلى على ألسنة العاشقين الصغيرين، أو ترتيبات الأستاذة القادمة من حضارة أخرى بعين وخيال ألهبه الوله بنصوص عشقية تتخمّر بحرارة الصحراء، لتتحوّل إلى خطاب وجداني تخلّده شاعرية وشعرية عاليتين.
وبينما يرى أحمد أن الوصال في العشق منتهى فناء الحب في المحب ليبقى مفتوحاً كحلم مستحيل، تذهب فرح بواقعيّتها إلى أن الوصال منتهى الرغبة المتحقّقة.
عن الرسالة وفتح الختم
يتلقّى أحمد رسالة تضمّ أبياتاً شعرية قديمة يعجز عن فهمها لعدم اتقانه اللغة العربية، ورغم بساطة الحكاية فإنها تبدو أقرب إلى حوار أصمّ بين عالمين. اللغة وطن وجسد وجذور يمكن أن نتنفّس من خلالها.
هكذا تطرح بو زيد إشكالية الانقطاع في عالم يتواصل افتراضياً بتكنولوجيا متطوّرة، لكنه يعجز عن فتح باب الفهم بين أجيال تمضي حاملة هويّتها كورقة عبور نحو عالم عليها أن تتجذّر في خياراته القاسية.
تطرح بو زيد إشكالية الانقطاع في عالم يتواصل افتراضياً بتكنولوجيا متطوّرة
وتبدو بوزيد عيناً سينمائية منتصرة للمرأة، إذ تعكس نماذج أنثوية ثابتة وجريئة في التعبير عن رغباتها وأفراحها، في حين يظهر الرجل بهشاشة أكثر وفرح أقل رغم ثقافة الحب والتسامح التي يزخر بها الموروث الأدبي العربي.
مسّرات لطيفة
منمنمات وكتب لم تكن ممنوعة في زمن يمتد من اصفهان وأقاصي آسيا إلى إسبانيا، ترسم الحبّ بالكلمات وتنزله منزلة الطارق المحتفى به في حضارة لم تنقطع روابطها مع الحياة يوماً. هناك في زمن النصوص حيث كان التسامح عنوان القراءة والكتابة. النصوص التي تقبل تعدد القراءات ولا تحرّم التأويل، والفيلم أيضاً يترك للمشاهد حرية البحث عن المتون وفي الهوامش حيث يمكن للحب أن يكون مصالحة مع الذات وبه يتشافى الفكر والروح.