في زمن "كورونا".. هدى قساطلي ترصد عبء اللجوء في معرض إلكتروني
رغم المأساة والنكبة المُتواصِلة، ينتزع الفلسطيني الأمل من الموت مُقدّماً درساً في الصَلابة والصمود، والتغلّب على المآسي.
منذ استقرّ الإنسان على ضفاف الأنهر ينتج وأده اليومي، بدأت الحروب، والغزوات، ومن تداعياتها المُحتّمة هروب مَن أفلت من جحيم الحرب، فكان اللجوء الدائم، مادة أشبعت نَهْم عدسة الفنانة هدى قساطلي التي لم تنفكّ تلاحِق بعض مظاهر اللجوء في لبنان.
واللجوء في لبنان أمّه نكبة فلسطين، ووقوده أبناء وأحفاد المهجّرين، ومن آثاره المُستجدّة النزوح السوري بسبب جائِحة الحرب السورية المستمرة.
موضوع اللجوء عبر أعمال قساطلي تناوله "غاليري أليس مغبغب"، مركزه في الأشرفية في بيروت، في معرض إلكتروني أول، كتجربةٍ رائدةٍ في مقاومة الحصار الكوروني، قدّم الغاليري فيه مجموعة واسعة من الصوَر التي تعكس حياة مخيّمات اللجوء والنزوح، التقطتها الفنانة قساطلي على مدى سبعة أعوام بين 2012 و2019، في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في برج البراجنة في بيروت، ونهر البارد في الشمال اللبناني، وفي مخيّمات النزوح السوري في البقاع، ويجري عرضها على الموقع الإلكتروني للغاليري، مُترافقاً مع حواراتٍ تفاعليةٍ، ونقاشات حول الموضوع.
يتطرّق المعرض إلى هَنْدَسة الأماكن في حياة اللاجئين اليومية، ومن هوية السكان إلى المستقبل الغامِض المُبْهَم، ويكشف النِقاب عن الواقع الصعب في المخيّمات، وقُدرة الإنسان على الاستمرار والصمود في هكذا ظروفٍ حَرِجة.
قُسّم المعرض إلى 4 أقسام، تناولت الهندسة والمناظر الطبيعية، والحياة اليومية، والكرامة- الهوية، والغد.
في مخيّم برج البراجنة، تجلّت وقائع المخيّم بكل ما تراكم فيه من إهمال، وضيق، واكتظاظ سكاني وبنياني، وممرّات ضيّقة للمُشاة. مظاهر لا تُخفى على مَن عرف المخيّم، ومأساته المستمرّة منذ نكبة فلسطين، بأسلاكه اللا مُتناهية، وبُرَك مياه الأزقّة والممرّات، والبيوت التي تكاد تغطّي المعابر وتتلاقى في الفراغ. أكثر من 70 عاماً، والحال عينها. تطوَّر العالم، لكن برج البراجنة كأنه في الثلاّجة، محفوظ من دون تغيير، بانتظار العودة الحتميّة غير المعروف مداها، وتحقّقها الزمني، فالتاريخ المحلي، والقيّمون عليه، افترضوا أنها لن تحصل إلا إذا بقي المخيّم، وناسه، في لُجَج الحرمان، وانتفاء الشمس، وغياب أيّ اهتمام بتطوير حاله.
رغم مأساوية الواقع في المخيّم، رفع سكانه عبارة الأمل والصمود: "على هذه الأرض ما يستحق أن نموت لأجله"، وهو الوطن المُرَمّز له بالعَلم وقبّة القدس الشريف والمفتاح - رمز العودة - إلى جانب العبارة.
وفي مخيّم نهر البارد، ربّ مصيبة نافِعة، فبعد تدميره 2007 بصورةٍ لا تقلّ مأساوية عن النكبة، أعيد بناء أجزاء منه، بصورةٍ أفضل، أتاحت للهواء الطازج، وأشعة الشمس العبور بين أزقّته، بينما كان عبورها لا يستوعب أكثر من شخص واحد.
لقطات المخيّم ما انفكّت تشي باللجوء، معابر ضيّقة، وسيارات يتآكلها الصدأ، وأطفال يطلّون من نوافذ بيوتهم، أو يمرحون في فسحات مأساتهم، بوجوه باسمة مُتغلّبة على المأساة التي عايشوها منذ ولادتهم، وبعض كراسٍ على مقربة من شاطئه تتحدّث عن ديوان لبعض أبنائه، باتوا يقيمونه كلما سنحت ظروف الطقس والمناخ، وثياب معلّقة على النوافذ، وصيّادون بشباكهم يتّخذون من البحر سبب حياة.
رغم المأساة، والنكبة المُتواصِلة، ينتزع الفلسطيني الأمل من الموت، مُقدّماً درساً في الصَلابة، والصمود، والتغلّب على المآسي، فتطلّ عبارة لمحمود درويش، بخط اليد على إحدى الجدران: "على هذ الأرض، ما يستحق الحياة"، مع اسكتش لوجه درويش "شاعر من بلادي".
وفي البقاع، المأساة مزدوجة، ولئن كانت مظاهر النزوح السوري قد انضمّت إلى مخيّمات الفلسطينيين في البرج والبارد، إلا أنه تأسّس على خلفيّة المأساة السورية، أساساً، وانضمّت إليه مجموعات نازحين من اللجوء الفلسطيني – ظاهرة لا بدّ من بروزها كلما ورد الحديث عن اللجوء المُلتَصق بالحال الفلسطينية.
في مخيّمات البقاع، خِيَم أكثر تباعُداً من أزقّة المخيّمات الفلسطُينية، خيمها من لمام مواد بلاستيك، مع عوارض لتثبيتها، وطُرُق ترابية حوّلها الأطفال إلى ملاعب لهم، وكأن لا أحد معني بهذه المجموعات من البشر، تظهرهم عدسة قساطلي مهجورين، مُهْمَلين، يعيشون على هامش الحياة، في انتظار ما.
في عام تكريمها، يقيم "غاليري مغبغب" 5 معارض لقساطلي هي: "الدالية الشاطىء المُهدّد"، و"طرابلس الشرق: المدينة الجامعة"، و"أشجار مقدّسة، وأشجار مُضحّى بها"، و"بيروت أيقونة الغياب"، و"مخيّمات اللجوء"، ولئن أفلت الأول من الحَجْر المنزلي، فقد وقع بها معرض اللجوء، واستبدل إلكترونيا، بينما المعارض الثلاثة المُتبقيّة، فينتظر مصيرها تطوّرات "الكورونا"، وما بعد.
والفنانة قساطلي من مواليد بيروت، 1960، تخرّجت بدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون في باريس 1984، وأتمّت الدكتوراه في الأثنولوجيا (عِلم الأجناس البشرية) وعِلم الاجتماع المُقارَن، من جامعة نانتير في فرنسا، سنة 1987. ركّزت في عملها على الأبحاث والتصوير الفوتوغرافي، وكانت خبيرة مُتخصّصة في أبحاث مشاريع مدينية جامعية، وأخرى عن التنمية المُستَدامة.
سنة 1987، تبنّت مكتبة مركز جورج بومبيدو في باريس 100 من لقطاتها، وسنة 1992، استضاف "معهد العالم العربي" في باريس أول معرض فوتوغرافي لها.
منذ ذلك الحين، تُعرَض صوَر قساطلي بصورةٍ دائمةٍ في صالات عرض ومراكز الفن في بيروت وأوروبا.
بالتوازي مع المعرض، وكجزءٍ منه، جرى عرض فيلمين فنيين وثائقيين، بالتشارك بين الغاليري و"مهرجان الأفلام الفنية الوثائقية"، الأول بعنوان: “خلف الموسيقى" (Beyond the Music, Barenboim -said academy)، مخرجه دافيد بيرنت، 2019، من 52 دقيقة، بالإنكليزية والألمانية، يتناول جهود الأكاديمية الساعية إلى توحيد القِيَم الإنسانية، والموسيقى، والفلسفة، وهي محاول تفاعُل ثقافية تمتد جذورها في الصداقة بين بارنبويم، والمفكّر الفلسطيني أدوار السعيد.
الثاني، "أبو عرب حادي العودة" فيلم لمُعتزّ محمّد، 2017، من 52 دقيقة، بالعربية، يوثّق حياة وعمل الفنان الفلسطيني "أبو عرب"-شاعِر ومُغنٍّ فولكلوري- الذي يُعتَبَر الذاكِرة الحيّة للموسيقى الفلسطينية، وهو الذي جسَّد في عطائه الفني قضايا وشؤون المهجّرين من أرضهم من أبناء بلده، عبر أشعاره وأغانيه.
يستمر المعرض حتى 14 أيار/مايو الجاري.