مقاوِمة للاستعمار أم جنيّة؟ إليكم سيرة عايشة قَنْديشَة
تعددت الروايات حول سيرتها الشهيرة في التراث الشعبي المغربي. تارة قيل إنها مقاومة شرسة للاستعمار البرتغالي، وطوراً قيل إنها جنيّة. من هي عايشة قنديشة؟
تعددت الروايات الواقعية لسيرة "عايشة قنديشة" الشهيرة في التراث الشعبي المغربي، فهناك من أشار إلى أنها عاشت في القـرن الخامس عشـر، وأنها مجاهدة قدّمت العون إلى الجيش المغربي في محاربة البرتغاليين، حيث شكلت قوّة ممانعة صدّت هجوماتهم، ولأنها كانت عصية على المستعمر ساد الاعتقاد حينها بأنّها كائن جنيّ وليست بشراً.
وهي - في رواية أخرى - امرأة مغربية قَتل الاستعمار البرتغالي زوجها في الفترة الممتدة بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، فقررت الانتقام وصارت مقاومة شرسة له، و هي أيضاً "كونتيسة" أي أميرة أندلسية كانت ممن طُردوا من الأندلس، وحين جاءت إلى المغرب شرعت في مقاومة المستعمر.
وهي أيضاً إمرأة تنحدر من الأندلس، من عائلة موريسكية نبيلة طُردت من هناك، أسماها البرتغاليون "عائشة الكونتيسة" أي الأميرة عائشة (contessa). وقد تعاونت مع الجيش المغربي آنذاك لمحاربة البرتغاليين الذين قتلوا وشردوا أهلها؛ فأظهرت براعة وشجاعة في القتال حتى ظن البعض وعلى رأسهم البرتغاليون أنها ليست بشراً وإنما جنية. وقد حققت عايشة قنديشة لنفسها هيبة ومجداً لدى المقاومين والمجاهدين، وعامة المغاربة عندما حاربت الاحتلال بكل شجاعة وذكاء. ويُروى أنها كانت - أحياناً - تتخذ في مقاومتها مذهباً غريباً حيث كانت تقوم بإغراء جنود الحاميات الصليبية وتجرهم إلى الوديان والمستنقعات حيث تذبحهم، الشيء أرعب المحتلين الأوروبين.
وأشار القاضي العباس بن إبراهيم السملالي (1959/1877) في الجزء التاسع من كتابه "الأعلام" (ص416 و417) إلى أن "عيشة قنديشة" كانت وليّة صالحة ومتصوفة عاشت في فترة سيدي محمد بن عبد الرحمان المتوفَّى سنة 1873 م والذي كان يزورها للتبرك بدعواتها، وعايشت مجموعة من الأولياء كسيدي الزوين المشهور( ........) وكانت تغزل الشتب وتعمله حبالاً تخاط به البرادع وتقتات من ذلك، وكانت تقول زجلاً تشير فيه إلى الغلاء وانحباس المطر وذهاب الأخيار وظهور الأشرار . توفيت ودفنت بمقبرة باب غمات في مراكش.
إن الروايات التي تتداول سيرة هذه الشخصية الغريبة والغامضة كثيرة، يتقاطع فيها الواقع بالأسطورة، ويطغى عليها الجانب الخرافي كثيراً إلى درجة يصعب معها الحسم في كون هذه الشخصية حقيقية أو مجرد خرافة من نسج الخيال الشعبي المغربي؛ فهي تارة جنية بجسد أنثى جميلة وقدميْ ناقة أو بغلة، تتخذ الوديان والآبار والكهوف مسكناً لها، وتفتن الرجال بجمالها وتستدرجهم إلى وكرها حيث تقتلهم وتقتات على لحوم ودماء أجسادهم، ولا تخاف إلا من شيء واحد هو اشتعال النار أمامها. وزعم بعضهم أنها اعترضت سبيل رجال كانوا يسكنون القرى فأوشكت على الإيقاع بهم، إلا أنهم استطاعوا النجاة منها بحرق عمائمهم أمامها؛ فالنار هي نقطة ضعفها.
ويصور التراث الشعبي المغربي، أيضاً، عايشة قنديشة في شكل ساحرة عجوز شمطاء وحاسدة، تقضي مجمل وقتها في حبك الألاعيب لتفريق الأزواج، ومرة أخرى في شكل امرأة فاتنة الجمال لها قدمان تشبهان حوافر الماعز أو الجمال أو البغال (بحسب المناطق المغربية). وكل من تقوده المصادفة إلى أماكن تواجدها يتعرض لإغوائها فينقاد خلفها فاقداً الإدراكَ إلى حيث مخبؤها من دون مقاومة لتلتهمه بلا رحمة وتطفئ نار جوعها الدائم للحم ودم البشر.
أصبحت سيرة "عايشة قنديشة"، على تعدد رواياتها، أشهر حكاية تداولتها الأجيال في المغرب، وتصرف فيها الرواة تصرفاً جعلها تتأرجح بين الواقع والأسطورة، وبين الإيجاب والسلب، كما أصبحت موضوع بحث ثري لعدد كبير من علماء الاجتماع والأنثربولوجيا في العالم مثل الباحث الانثربولوجي الفنلندي وسترمارك westermark (1862/1939) الذي قارن بين هذه الجنية المهابة الجانب وبين"عشتار" آلهة الحب القديمة التي كانت مقدسة لدى شعوب البحر الأبيض المتوسط وبلاد الرافدين من القرطاجيين والفينيقيين والكنعانيين الذين كانوا يقيمون على شرفها طقوساً مقدسة، وافترض أن تكون عايشة قنديشة هي ملكة السماء عند الساميين القدامى حيث اعتقدوا أنها كانت تسكن العيون والأنهار والبحار والمناطق الرطبة بشكل عام. وتناولها أيضاً عالِمُ الاجتماعِ المغربي ذو الأصول الفرنسية بول باسكون Paul Pascon (1958/1932) في كتابه "أساطير ومعتقدات من المغرب".
عايشة قنديشة من الأسطورة إلى عالم الفن والإبداع
تحولت سيرة عيشة قنديشة إلى مصدر إلهام لعدد كبير من الفنانين والمبدعين من سينمائيين ومسرحيين وروائيين وتشكيليين، رسموها لوحة وجسّدوها على الخشبة وألفوا من سيرتها روايات. من هؤلاء الفنانة التشكيلية الفرنسية آناييس آغميل التي عرضت لوحاتها في مدينة أغادير المغربية سنة 2015 تحت عنوان: عايشة قنديشة (شخصية لدى المغاربة هدفها تخويف الناس منها). وقد أثثت الفنانة معرضها بلوحات تبرز ملامح المرأة المغربية حسب تصورها الفني، الذي قادها إلى البحث في تاريخ الأساطير المغربية الشعبية عن وجه يجهل ملامحه المغاربة لكنهم يسمعون عنه كثيراً، فاهتدت إلى عايشة قنديشة باعتبارها أسطورة عرفتها الأجيال بالمغرب، لكن لا وجود لها في الواقع.
وعرضت فرقة "سوق أرت" مسرحية "شْكونْ هي عايشة؟" (من هي عايشة؟) التي قامت بسرد سيرتها اعتماداً على الخيال بطرق حديثة معتمدةً في عرضها على العمل الجماعي الشبابي الذي أضفى على المسرحية طابعاً خاصاً من خلال لوحات للرقص والغناء.
كما تناول سيرة عايشة عدد من المبدعين مثل عبد المجيد بنجلون (1981- 1919) في مجموعته القصصية "وادي الدماء" التي تتحدث عن مقاومة المغاربة للاستعمار الفرنسي، وقد تحدث عن عايشة قنديشة المقاومة التي قتلَ الاستعمارُ كل أفراد عائلتها فانتقمت منه بقتل جميع جنوده واختفت عن الأنظار لتدخل في الذاكرة الشعبية وتتحول إلى حكاية تتداولها الأجيال.
أما الروائي المغربي مصطفى الغتيري فقد أصدر رواية عن "دار النايات" بسوريا سنة 2008 تحمل عنوان "عائشة القديسة" يركز فيها على تحول هذه الشخصية من امرأة تاريخية مقاومة إلى "جنية" تتربص بالبشر، ومن ثم إلى أسطورة توارثتها أجيالٌ من المغاربة. يقول مصطفى الغتيري للميادين نت: "توظيفي لأسطورة عايشة قنديشة في رواية " عائشة القديسة"، كان محكوماً بأبعاد عدة منها:
البعد الأول: فني وجمالي، بحيث أن غرائبية الحكاية وعمقها الماورائي يساهمان بلا شك في اثارة انتباه القارئ ومن ثمة إقباله على النص. لأن ما يهمني أساساً في الرواية هو خلق حكاية فنية تنال إعجاب القارئ.
البعد الثاني: تنويري، يتمثل في إثارة الانتباه إلى ذهنية الإنسان المغربي والعربي عموماً، التي تعاني من نوع من الشيزوفرينيا، فهو من جانب يدعي امتلاكه للحداثة والفكر العقلاني ومن ناحية أخرى خاصة حين تواجهه صعوبات في الحياة سرعان ما يرتمي في حضن الخرافة ضارباً عرض الحائط بكل التراكمات العقلانية التي كان إلى وقت قريب يدعي تسلحه بها. إنها مفارقة قوية تستحق الانكباب عليه من أجل فهمها، وتعد رواية (عائشة القديسة) مساهمة بسيطة في هذا الاتجاه.
البعد الثالث: تطهيري، أقصد نوعاً من الكتاراسيس بالمفهوم الأرسطي، أي تحرير الناس وتطهيرهم من هيمنة هذه الجنية على عقولهم، فكما هو معروف ما يزال كثير من الناس خاصة على الشواطئ المغربية يعتقدون بالوجود الحقيقي لهذه المرأة الشريرة، فحاولت الرواية مناقشة الخلفية التاريخية لانبثاق هذه الجنية في المخيال الشعبي، لعلها تساهم في التحرر من الخوف منها".
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]