ألمانيا تبقى ألمانيا

هو منتخب ألمانيا الذي اشتهر تاريخياً بأنه لا يستسلم حتى الرمق الأخير ويعود من بعيد. أمس، في سوتشي، بهدف طوني كروس "التاريخي"، استعاد الألمان ذكرياتهم. في مونديال 1982 مثلاً، حصل ذلك في نصف النهائي الشهير أمام فرنسا. ألمانيا تبقى ألمانيا.

تسديدة كروس "التاريخية" أنصفت ألمانيا (أ ف ب)

بأعصاب فولاذية وثقة قلّ نظيرها وأمام أنظار الملايين حول العالم، أمسك طوني كروس الكرة. إنها الدقيقة 95. المرمى أمامه وتاريخ لألمانيا العظيمة في المونديال معلّق على تسديدة. ضغط رهيب على نجم ريال مدريد. هو نفسه في الشوط الأول أخطأ وكلّف بلاده هدفاً. وضع الكرة في مكانها. تمتم كلمات مع ماركو رويس. حرّك الكرة، ثبّتها له زميله، ثم أطلقها كروس صاروخية من زاوية تكاد تكون مستحيلة لتنفجر في الشباك.

فرحة جنونية للاعبي ألمانيا في الأثناء. الكاميرا تتّجه إلى مشجع بقميص ألمانيا بدا مذهولاً. كانت تعابير وجهه تختصر الذهول الذي أصاب العالم... ألمانيا بقيت في كأس العالم.

كانت أمسية مونديالية غير كل الأمسيات. في سوتشي، أمس، صُنع تاريخ. قول ليس مبالغاً. صحيح أن ألمانيا بهذا الهدف لم تتوَّج بالمونديال، لكنها كانت على بعد ثوان من خروج تاريخي (بنسبة 99%) من كأس العالم لأول مرة بعد فشلها في أول مباراتين. هذا، لوحده، في حسابات الألمان يعادل التتويج باللقب، وربما أكثر. ألمانيا لم تعهد هذا الموقف مسبقاً، وأبت أن يحصل.

هنا قوّة الألمان. هنا فرادتهم. هنا "لعبتهم". في ظروف مماثلة، وتحت كل هذا الضغط الرهيب، فإن منتخبات أخرى تحمل اسماً كبيراً تفشل. بالأمس استعاد الألمان لقبهم بأنهم المنتخب الذي لا يستسلم. الذي يُقاتل حتى الرمق الأخير ويعود من بعيد. استعادوا ذكريات فوزهم الشهير على فرنسا بعد التأخر 1-3 في الوقت الاضافي في نصف نهائي مونديال 1982. 

"المانشافت" لم يكن يلعب مباراته أمام السويد في برلين بل في سوتشي. إيطاليا كانت تلعب قبل أشهر للتأهل إلى المونديال أمام السويد نفسها في ميلانو بين جماهيرها، لكنها فشلت. هنا الفرق.

في الحقيقة، وقبل كل شيء، فإن تسديدة كروس "التاريخية" أنصفت ألمانيا. كان من غير العدل أن لا يفوز الألمان أمس. سيطروا سيطرة مطلقة على المباراة منذ اللحظة الأولى. يكفي القول أن نسبة استحواذهم على الكرة وصلت إلى 92 % في الدقائق العشر الأولى وأنهم مرروا خلالها 122 تمريرة مقابل 6 تمريرات فقط للسويديين، وأنه أتيح لهم فيها هدفان محققان. الألمان أنهوا المباراة بنسبة استحواذ وصلت إلى 75,6 % مقابل 24,4 % ومرروا 601 تمريرة مقابل 154 وسددوا على المرمى 18 كرة مقابل 7 وخلقوا 6 فرص محققة في الشوط الثاني لوحده وقف لها الحارس السويدي بالمرصاد تارة والقائم الأيمن لمرماه تارة أخرى. يكفي القول أن الألمان هاجموا طيلة الوقت، فيما تمركز السويديون في منطقتهم. أما الأهم من كل ذلك أن ألمانيا ظلّت تهاجم ولم تستسلم رغم أنها لعبت منذ الدقيقة 82 من دون مدافعها "المتهوّر" جيروم بواتنغ الذي تلقى بطاقة صفراء ثانية وطُرد من الملعب.

في مباريات كهذه يظهر معدن الأبطال. كروس كان بطلاً أمس. صحيح أنه تسبّب بالهدف الأول وأنه لم يقدّم مباراة كاملة مثالية أو على غرار مبارياته التي يكون فيها في قمة مستواه، إلا أنه، وبنصف إمكانياته، خرج فيها في النهاية بطلاً. الأمر لا يتوقّف على هدفه الرائع، بل على شخصيته القيادية وتحمّله المسؤولية رغم الضغط الكبير بعد ارتكابه الخطأ في الهدف الأول وهذا ما ظهر برفعه نسق أدائه وقيادته اللعب في الشوط الثاني. بالأرقام، كروس قام بـ 122 تمريرة ولمس الكرة 144 مرة. مدهش.

لكن ثمة لاعب آخر كان له دور محوري في الفوز الألماني، ألا وهو ماركو رويس. نجم بوروسيا دورتموند كان يخوض مباراته الأولى في مسيرته أساسياً في المونديال، هو الذي حُرم من مونديال 2014 وكأس أوروبا 2016 للإصابة. رويس كان في الموعد أمس. سجّل وتحرّك في كل الأماكن في الهجوم وحتى أنه عاد للدفاع عند قطع الكرة. ليس قليلاً ما فعله رويس خصوصاً أن الضغط كان كبيراً عليه بعد أن شارك في المباراة على حساب النجم مسعود أوزيل. رويس، أمس، كان كمن يثأر من الاصابات التي ظلمته كثيراً.

وبطبيعة الحال في مباراة كهذه وبالنظر إلى مجرياتها يبرز دور المدرب. يواكيم لوف عاش مشاعر مختلفة في هذه المباراة وكانت له كلمته الكبرى في الشوط الثاني خصوصاً أن الضغط الأكبر كان عليه بعد التأخر في الشوط الأول وبعد نتيجة مباراة المكسيك والانتقادات التي طالته. لوف منذ البداية حاول تعويض المباراة الأولى عبر إقحام رويس بدلاً من أوزيل وسيباستيان رودي بدلاً من سامي خضيرة. كان موفقاً جداً في الخيار الأول، أما بالنسبة للثاني فلا يمكن الحُكم على ما قدّمه رودي بعد خروجه بعد نصف ساعة مصاباً ليعوّضه إيلكاي غوندوغان. لكن بصمات لوف كانت واضحة في الشوط الثاني بإشراكه ماريو غوميز بدلاً من جوليان دراكسلر غير الفعّال مجدداً ونقل تيمو فيرنر إلى مركز الجناح الأيسر، وقد لعب الأخير دوراً مميزاً باختراقاته وعرضياته كما أنه كان أحد أسباب الفوز بحصوله على الخطأ الذي سجّل منه كروس.

كما أن لوف كان موفّقاً عندما رمى بورقة الموهوب المميز أيضاً والذي ينتظره شأن كبير في الملاعب، جوليان براندت، في مخاطرة كبيرة مكان المدافع يوناس هيكتور خصوصاً في ظل النقص الدفاعي بطرد بواتنغ، ليلعب موهوب باير ليفركوزن رغم الدقائق القليلة التي شارك فيها دوراً مهماً في تنشيط الهجوم الألماني وزيادة الضغط وقد سدّد كرة قويّة في القائم الأيمن.

لكن لمسات لوف لم تظهر فقط في تبديلاته، بل في طريقة اللعب. إذ بعد أن اعتمد الألمان كثيراً في الشوط الأول على العرضيات العالية التي تلقّفها الدفاع السويدي نظراً للبنية الجسدية والطول الفارع للاعبيه، فإنه اعتمد في الشوط الثاني على الاخترقات عبر الأطراف ولٌعب الكرات العرضية الأرضية والمتوسّطة التي أربكت السويديين وشكّلت خطورة وجاء منها هدف رويس.

لكن هذا لا يمنع من أن لوف صبر كثيراً على توماس مولر وكاد أن يدفع ثمن ذلك، إذ إن لاعب بايرن ميونيخ كان أسوأ لاعبي "المانشافت" وحتى يمكن القول أن ألمانيا لعبت بعشرة لاعبين قبل طرد بواتنغ نظراً لوجود مولر اسماً في الملاعب دون أي انتاجية.

هكذا، فإن يوماً كبيراً عاشه المنتخب الألماني أمس في سوتشي. بقي الألمان في روسيا. لكن ما حققوه كان أكثر من ذلك بكثير، إذ يمكن القول أن مع صافرة نهاية المباراة أمام السويد، بدأ، بالفعل، مونديال ألمانيا.