نظرية التبعية وتحوّلات أميركا اللاتينية
في مقابل الدعوات إلى الانخراط في العالم الرأسمالي والحديث عن إمكانيات التطوّر فيه من زاوية تصنيعية، تنطلق مدرسة فكّ التبعية من دور العامل الخارجي وأثره، وتحديداً الرأسمالية، في تشويه التطوّر.
-
نظرية التبعية وتحوّلات أميركا اللاتينية
مع التقدّم الكبير لحركة التحرّر في أميركا اللاتينية، عاد النقاش مجدّداً حول نظرية التبعية (بالأحرى فك التبعية) بعدما راحت دول العالم الثالث التي انزلقت إلى أوهام التطور الرأسمالي تدفع ثمناً باهظاً لأوهامها. وقد وجدت من الملائم تذكير المهتمين بنظرية التبعية وفتح النقاش حولها مجدداً.
مقابل الدعوات إلى الانخراط في العالم الرأسمالي والحديث عن إمكانيات التطوّر داخل هذا العالم من زاوية تصنيعية (فالتر شتاين)، تنطلق مدرسة فكّ التبعية من دور العامل الخارجي وأثره، وتحديداً الرأسمالية، في تشويه التطوّر أو حجزه مقابل نظريات أخرى تركّز على العامل الداخلي، وهي لا تعني النظام التابع فحسب، بل البلد التابع أيضاً.
ظهرت هذه المدرسة في أعمال ما عرف بـ"اللجنة ECLA"، والمقصود لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية التي تأسست عام 1948، وكان العديد من روّاد هذه المدرسة قد عملوا مع هذه اللجنة قبل أن ينتقدوها. لكن ملاحظات نقدية عديدة لروّادها جوبهت بالنقد أيضاً، وذلك عندما بالغت في التركيز على الصناعة الإحلالية في غياب الشروط الاجتماعية والثقافية التاريخية الأخرى، كما فعل راؤول بريبيش عندما انتقل من تيار تقسيم العمل الدولي، الصناعة شمالاً والزراعة جنوباً، إلى تيار التصنيع، ومن مظاهرها:
1- دمج الاقتصاد المحلي بالسوق العالمي.
2- تدهور حالة التكامل بين القطاعات المحلية، وتمحور كل منها على قطاعات خارجية رأسمالية.
3- الاعتماد الكبير على السوق الرأسمالية العالمية بالاحتياجات الأساسية.
4- التبعية التكنولوجية الناجمة عن سياسة الإحلال غير الوطنية.
5- ضعف معدلات التراكم.
6- تبديد الفائض عن طريق أنماط الاستهلاك في قطاعات تتميّز بقيمة مضافة متدنية أصلاً.
7- تهميش الزراعة بالتوسع العمراني والمضاربة على الأرض.
8- ارتفاع نسبة الإعالة وتكلفة خلق فرص عمل جديدة وتدنّي إنتاجية العمل.
9- التضخم والسياسات المالية والنقدية المرافقة ولعبة البورصة.
10- سياسات الدين العام، وهي كما تلاحظ دراسة لسعد حافظ، غالباً ما تذهب لتمويل عمليات جارية تساهم في تحميل الاقتصاد أعباء لشراء سلع من السوق الرأسمالية العالمية.
11- يضاف إلى كل ذلك الفساد والبيروقراطية والترهّل الإداري.
12- وفي الحالات العربية، الفشل في إنجاز دولة السوق القومي التاريخية والفصل الاستعماري للكتل الشعبية المتمدنة نسبياً (مصر وبلاد الشام) عن مصادر الثروات الطبيعية.
أما المصادر النظرية التي عالجت نظرية التبعية على صعيد أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، فأبرزها:
1- دراسات إرجي مانويل (مفهوم التبادل اللامتكافئ والتطور اللامتكافئ).
2- دراسات بول سويزي وبول باران في كتابهما "الاقتصاد السياسي للنمو"، التي تعالج أرباح الشركات الأجنبية في قطاعات الاستخراج والبنوك والعقارات.
3- دراسات غونار ميردال في كتابه "الاقتصاد العالمي والدراما الآسيوية"، وتركيزه على جملة من الإصلاحات، وليس التحوّلات الحقيقية.
4- راغنار فوركس صاحب نظرية "الحلقة المفرغة – التخلّف سبب التخلّف"، وأساسه إنتاجية العمل المتدنية وضعف الادخار.
5- غوندر فرانك الذي أصدر أكثر من دراسة حول التراكم العالمي، إضافة إلى كتاب "الرأسمالية والتخلّف" و"تطوّر التخلّف". ويركّز فرانك على أن علاقات التبعية للمركز الرأسمالي العالمي تؤدي بالضرورة إلى إعادة إنتاج التخلّف الداخلي: برجوازيات طفيلية في القشرة، وبنى متخلّفة في صميم التركيبة الاجتماعية. وبالتالي، إن مواجهة التخلّف لا تكون في دخول العالم الرأسمالي والمنافسة داخله، بما في ذلك الصناعة الإحلالية، بل تتمثل بمواجهة الرأسمالية.
6- سنكل (من تشيلي) الذي تقاطع مع فرانك في التخلي عن النمذجة الرأسمالية كمسطرة حتمية جوهرية للتطور.
7- سانتوس (من البرازيل) الذي تقاطع مع الأفكار البوليفارية، التي تركّز على التكامل الإقليمي لمجمل القارة اللاتينية، وكإطار لتطور أقل تبعية وقادر على التأسيس لاقتصاد مستقل نسبياً.
ماذا عن آسيا وأفريقيا؟
عرفت آسيا وأفريقيا أشكالاً مختلفة لأنماط الإنتاج، بينها التجارة بعيدة المدى وتجارة الرق، وكان الفائض وفق هذه الأشكال ناجماً عن التبادل، وليس عن الإنتاج، كما عرفت أشكالاً من الاقتصاد المنزلي والعبودية المعممة (أو الجماعية)، واستحواذ فئة بيروقراطية على الريع، سواء في إطار ما يعرف بنمط الإنتاج الآسيوي النهري (السيطرة على الفيضانات)، أو في إطار أشكال أخرى من العمل الجماعي في الأرض ضمن العبودية المعممة.
والمهم في هذه الملاحظة أن هذه المقاربات الداخلية التي تقاطعت فيما يخص ما يسمى بالركود الآسيوي بحسب قراءات الثقافة المركزية الأوروبية، قوبلت بمقاربات أخرى أقرب إلى نظرية التبعية. وقد احتلت الهند مكانة معروفة في التجاذبات النظرية المذكورة، بينها كتابات ناروجي الذي أعاد تخلّف الهند وأمثالها إلى النهب الخارجي.
في حالة الهند، كما أفريقيا، ذاعت مقاربات سمير أمين بالاتكاء على تصوّراته حول المركز والمحيط، والتبادل والتطوّر اللامتكافئ، وكذلك كتاباته حول وهم التكيف مع الرأسمالية وفق شروطها، ودعوته إلى فك الارتباط معها وبناء كتلة أوسع من الطبقة العاملة، وكذلك كتاباته المعروفة حول الصين والجنوب العالمي.