اقتصاد "الكرتونة".. ومأزق نموذج التنمية في مصر (1-2)
نحاول التعرف إلى البدايات الأولى لظاهرة "الكرتونة" في الحياة المصرية خلال الأعوام الخمسين الماضية، وتحديداً منذ مطلع عقد السبعينيات من القرن العشرين.
-
اقتصاد "الكرتونة".. ومأزق نموذج التنمية في مصر (1-2)
اعتاد القطاع الأوسع من المصريين في العقود الأربعة الماضية ( 1975- 2023 ) على استخدام تعبير "الكرتونة" الانتخابية ؛ لوصف حالة الرشى التي تنتهجها الجماعات السياسية عموماً، والتنظيمات "الإسلامية" خصوصاً، وفي طليعتها تنظيم "الإخوان المسلمين"، إذ باتت ممارسة شبه معتادة من جانب أفراد هذه المجموعات السياسية وكوادرها، سواء من الحزب الحاكم قبل ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير عام 2011، أو غيره؛ استغلالاً لحالة الفقر المنتشرة بين قطاعات واسعة من السكان، واقتناصاً لأصواتهم في الدوائر الانتخابية المختلفة وقتما تحل لحظة الاستدعاء الانتخابي.
والحقيقة أن هذه الظاهرة، والتي أخذت في الاتساع والانتشار منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين، قد ارتبطت بعدة عوامل متضافرة ومتكاملة، لعل أهمها زيادة رقعة الفقر والحرمان، وتدهور مستوى المعيشة لقطاعات واسعة من المهمشين من ناحية، مقابل انسحاب الدولة عملياً من تقديم الخدمات الحيوية وتوفير مظلة فعالة للحماية والأمان الاجتماعي من ناحية ثانية، مع تنامي نفوذ الجماعات الدينية السلفية وتنظيم "الإخوان المسلمين" بصورة كبيرة، مدعومة من جمعيات ودول عربية خليجية، ومحاولتها ملء الفراغ الذي نتج من انسحاب الدولة من أدوارها ووظائفها الحيوية من ناحية ثالثة.
وبرغم انكسار تنظيم "الإخوان المسلمين" في مصر، وكثير من الدول العربية بعد الثلاثين من حزيران/يونيو عام 2013، وبعد تجربتهم المريرة في حكم مصر، وانتفاضة المصريين ضدهم في هذا التاريخ، فإن المثير للدهشة هو تنامي ظاهرة "الكرتونة"، واتساعها، وتقدمها جهات عديدة في الدولة المصرية، بدءاً من الجيش والشرطة، مروراً ببيت الزكاة، انتهاء بوزارة الأوقاف والجمعيات الأهلية التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي وغيرهم.
وهنا، يطرح السؤال: لماذا اتّسع نطاق هذه الممارسة الاقتصادية والاجتماعية في مصر؟ وما علاقتها بما يسمّى في الأدبيات الاقتصادية الحديثة، التي زرعتها مؤسسات التمويل الدولية في شبكات الأمان الاجتماعي ومظلة الحماية الاجتماعية؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الدراسة.
أولاً: بروز ظاهرة اقتصاد "الكرتونة" وتطورها
بادئ ذي بدء، يجدر التمييز بين ثلاثة مفاهيم مختلفة، وإن كانت تتلامس وتتقاطع في بعض المواقع والنقاط، وهي:
الأول: العمل الخيري والتطوعي.
الثانى: اقتصاد "الكرتونة".
الثالث: مفهوم شبكات الأمان الاجتماعي، أو شبكات الحماية الاجتماعية.
فإذا كان العمل الخيري والتطوّعي قديماً قِدَم المجتمعات الإسلامية والمسيحية والإنسانية عموماً، سواء عبر نظام الوقف الإسلامي أو المسيحي، أو من خلال نظم "الزكاة" و " العشور"، فإن اقتصاد "الكرتونة" هو نمط حديث نسبياً، يبدأ وينتهي بأهداف سياسية لمن يمارسه، سواء كان من يمارسه جماعات سياسية مختلفة، أو أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية الرسمية.
ونحاول التعرف إلى البدايات الأولى لظاهرة "الكرتونة" في الحياة المصرية خلال الأعوام الخمسين الماضية، وتحديداً منذ مطلع عقد السبعينيات من القرن العشرين، والذي تعطلت فيه جهود التنمية ومساراتها بعد العدوان الإسرائيلي على مصر وبعض الدول العربية في الخامس من حزيران/يونيو عام 1967، وبهذا التوقف والتعثر وتركز الجهد المصري فيما أطلق عليه "إزالة آثار العدوان"، و " لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وما صاحبهما من عمليات حشد وتعبئة للموارد الاقتصادية المتاحة من أجل إعادة بناء الجيش المصري الذي تعرض لهزيمة قاسية، وتوقفت معها جهود تحسين مستوى الخدمات التعليمية والصحية، وتدنت مستويات التشغيل والإنتاج، واستقرت بالتالي عند نقطة من الزمن هي لحظة العدوان الإسرائيلي في ذلك التاريخ.
وبانطلاق حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، بدأ مسار مختلف نوعاً ما في الحياة السياسية والاقتصادية المصرية، تجسد في أربعة عناصر أساسية، هي:
الأول: بداية تخلي الدولة المصرية وأجهزتها، تحت قيادة الرئيس الأسبق أنور السادات، عن التخطيط الاقتصادي، والانغماس في سياسة جديدة أطلق عليها "الانفتاح الاقتصادي "، مستهدفة إلحاق مصر سياسياً واقتصادياً وثقافياً بالغرب الرأسمالي عموماً، والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً.
الثاني: إطلاق يد الجماعات الدينية عموماً، وتنظيم "الإخوان المسلمين" بوجه خاص في الحياة المصرية، واستعادته للروح بعد أن كاد يذهب تماماً في طي النسيان.
الثالث: إطلاق حملة عداء إعلامية وسياسية منظمة ضد ما سمّاه "اشتراكية الفقر" (وكل ما يمت بصلة للتجربة الناصرية وميراثها في التحيز الاجتماعي للفقراء ومحدودي الدخل)، ورفع شعارات من قبيل: "تخفيف العبء عن الدولة" و"ترشيد مجانية التعليم"، و"ترشيد الدعم" وغيرها من الشعارات الضالة والمضللة.
الرابع: فتح الباب على مصراعيه لحركة هجرة ونزوح هائلة لملايين المصريين، للسفر والعمل في البلاد العربية النفطية والخليجية من ناحية وبلاد المهاجر البعيدة في أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا من ناحية أخرى، وخلال أقل من اثنتي عشرة سنة (1974-1986) كان ما يقارب 21 مليوناً من المصريين قد استخرجوا وثائق سفر(1)، بما يكاد يعادل ثلث السكان في البلاد، على أمل الهجرة والعمل في البلاد النفطية، ومغادرة البلاد (فيما أطلقنا عليه "حلم علاء الدين النفطي") في ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ المجتمعات الإنسانية المعاصرة. (2)
وبتفاعل هذه العوامل الأربعة على مدى أربعين عاماً في مصر، تبلورت ملامح جديدة تماماً في البلاد، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو حتى الثقافي والاجتماعي. سوف نتوقف عند واحدة منها هنا، وهو الملمح الاقتصادي.
وبقدر ما أدت عمليات الهجرة المؤقتة أو الدائمة للعمال والمهنيين المصريين، سواء إلى البلدان العربية النفطية، أو بلدان المهاجر الأوروبية والأميركية، إلى حركة تدفقات مالية من الخارج إلى داخل البلاد، وما ترتب عليها من تحسن مستوى معيشة مئات آلاف الأسر المصرية ( تملك عقارات ووحدات سكنية – تملك سيارات وأجهزة معمرة وغيرها )، بقدر ما أدت إلى تعرض الاقتصاد المصري إلى موجات تضخم وارتفاع أسعار جامحة ؛ أدت إلى تدهور مستوى معيشة ملايين الأسر الأخرى، خصوصاً في الاحتياجات الأساسية كالغذاء والمسكن، والخدمات الحيوية كالتعليم والصحة وغيرها.
وصاحب ذلك، للأسف، تراجع قوى الإنتاج في مصر، واتساع الاختلالات الهيكلية في بنية الاقتصاد المصري في غير صالح قطاعات الإنتاج السلعي (كالزراعة والصناعة والكهرباء والطاقة)، بل في صالح قطاعات الخدمات والتجارة والبناء والتشييد والمصارف والبنوك والمال، ما زاد من الفجوة، ودفع بفئات واسعة إلى حد العوز والفقر.
والمصيبة أن هذه التغيرات قد تزامنت مع تحولات عميقة في السياسة المصرية، سواء باندفاعها لاتّباع آليات السوق، أو التحرر من مفهوم التخطيط الاقتصادي ورفع شعارات "تحمل المواطنين لبعض الأعباء" (كما سبق وأشرنا)، ما ترتب عليه انسحاب الدولة تدريجياً من دعم أهم القطاعات الخدمية الحيوية وتطويرها كالتعليم والصحة ومراقبة الأسواق وضبط الأسعار، ما أوقع بملايين المصريين، سواء في المدن أو الريف، في الفقر والعوز.
وقد كشفت الدراسات الرسمية حول انتشار المناطق العشوائية في مصر عاماً بعد آخر عن بلوغ عددها 869 منطقة عشوائية في عام 2006، يتركز فيها نحو 13.7% من سكان محافظة الدقهلية، و 9.6% من سكان محافظة الشرقية، و8.6% من سكان محافظة القاهرة، وهكذا في بقية المحافظات (3)، لقد كانت الدولة طوال الفترة الناصرية ( 1952-1970) تقوم، عبر انتهاج سياسات التخطيط، بضبط إيقاع الحياة والأنشطة الاقتصادية، سواء ما تعلق منها بضبط الأسواق والسيطرة عليها، أو ضبط الاستهلاك، ومن خلال دورها كمنتج مرجح وتاجر مرجح ( التوزيع ) ؛ فحافظت خلال عقدين من الزمان على قدر من التوازن المعقول بين الأجور والمرتبات من جهة، وبين الأسعار والاستهلاك من جهة أخرى. (4)
كما كان لمجانية قطاعي التعليم والصحة دور في تخفيف الأعباء عن الأسر المصرية، والآن، وبعد الانفتاح الاقتصادي، لم تعد الدولة راغبة، في إطار تحيزاتها الاجتماعية الجديدة لرجال المال والأعمال والسماسرة والمستثمرين، لم تعد راغبة في تحمّل الجزء الأعظم من هذه الأعباء، وتركتها لعوامل السوق وآليات العرض والطلب.
وهنا، تسرب تنظيم "الإخوان المسلمين" في ظهوره الثالث (1971-2013) وبقية الجماعات الدينية السلفية، الذين طالما أعلنوا العداء لكل ما يمثله المشروع الناصري من تحيز للفقراء وتخطيط اقتصادي واشتراكية، تسربوا إلى حيث يستطيعون أن يخلقوا ركائز نفوذ سياسي واجتماعي طويل الأجل، مستغلين انسحاب الدولة المصرية من بعض وظائفها وأدوارها الاجتماعية من ناحية، وانتشار حالة الفقر والعوز في الأحياء الفقيرة والقرى من ناحية أخرى.
وقد اتخذ نشاط هذه الجماعات الدينية، وخصوصاً تنظيم "الإخوان المسلمين"، عدة أشكال متكاملة ومتزامنة، هي:
الأولى: حركة واسعة ولحوحة لجمع التبرعات وجمع الأموال (من الداخل ومن الخارج) من أجل بناء المساجد التي تعد مركز القيادة والسيطرة والتعبئة والحشد والتجنيد، ودعمتها أموال خليجية وسعودية كثيفة. وقد بلغ عدد المساجد الأهلية التي جرى بناؤها منذ عام 1974 حتى عام 2011 أكثر من 150 ألف مسجد وزاوية للصلاة في المحافظات والمدن والقرى كافة، وكلها ظلت بعيدة تماماً ولسنوات طويلة عن سلطة الدولة وخطابها المباشر. (5)
الثانية: على ضفاف هذه المساجد، غالباً، نشأت شبكة خدمات اجتماعية واسعة النطاق، يديرها أفراد وكوادر هذه التنظيمات والجماعات، ومنها:
1- افتتاح مئات المستوصفات والمستشفيات الصحية الملحقة بهذه المساجد، تقدم خدماتها لأهالي المنطقة المحيطة بالمسجد بأسعار زهيدة، في وقت تنامى فيه سلوك الطمع والجشع لدى كثير جداً من الأطباء في العيادات الخاصة، وفي المستشفيات الاستثمارية، ومع تدني الخدمات الصحية المقدمة للمرضى في المستشفيات الحكومية، فأصبحت هذه العيادات "الإسلامية"، وكذلك تلك الملحقة بالكنائس المسيحية، ملاذاً لكل مريض فقير لا يقوى على تكاليف العلاج، ولا يتحمل المعاملة غير اللائقة في المستشفيات الحكومية، وهكذا احتمى الفقراء من الرمضاء بالنار.
2- افتتاح آلاف المراكز التعليمية الملحقة بالمساجد والكنائس لتنظيم مجموعات للتقوية والدروس الخصوصية بأسعار في متناول الأسر الفقيرة، في وقت كان النظام التعليمي الحكومي المجاني يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، وانتشرت جريمة الدروس الخصوصية كالنار في الهشيم، تأكل ليس فقط المداخيل المحدودة للفقراء وأولياء الأمور، بل، وهو الأخطر، تدمر قيمة القدوة لدى أجيال وراء أجيال.
3- افتتاح عدد كبير من مراكز رعاية الأيتام ورعاية الشيخوخة؛ فوفرت مظلة، حتى ولو جزئية ومتواضعة، لفئات من الناس لا تجد الرعاية من الدولة ومؤسساتها الاجتماعية.
4- توفير مظلة مساعدات مالية وعينية لكثير من الأسر الفقيرة، بدأت موسمية (شهر رمضان – عيدي الفطر والأضحى) من حصيلة الأموال والتبرعات التي تتجمع لدى هذه التنظيمات من الداخل ومن الخارج، وهنا بدأت تظهر ظاهرة " الكرتونة " بالمعنى الذي تداوله المصريون في العقود الأربعة الماضية، والتي تحتوي على سلة من السلع الغذائية قد تكفي أسرة مكونة من خمسة أشخاص لمدة أسبوع أو أكثر.
وهكذا، كوّنت هذه الجماعات، وخصوصاً تنظيم "الإخوان المسلمين" الأكثر حركية وعقلاً سياسياً، رصيداً بشرياً كبيراً، يُستدعَى دائماً وقت الضرورة، وخاصة في أوقات الانتخابات التشريعية والمحلية.
والحقيقة أن الجماعات السياسية الأخرى، وخصوصاً أعضاء الحزب الحاكم، لم يتأخروا بدورهم عن استخدام وسائل الرشوة الانتخابية وعمليات شراء الأصوات، وتقديم الخدمات لأهالي الدوائر الانتخابية في أوقات الانتخابات تحديداً، ثم انخرط بعضهم في استخدام أسلوب "الكرتونة"، خاصة إذا تزامنت الانتخابات مع شهر رمضان أو الأعياد الدينية.
وهكذا، تسابق الجميع على استغلال فقر الناس الذي صنعته الدولة المصرية بسياستها، من أجل شراء الذمم وضمائر المواطنين.
لقد تبين في دراسة حديثة أجريت عام 2013 أن الإيرادات السنوية المتاحة لتنظيم "الإخوان المسلمين" في مصر قد تراوحت بين 6.5 إلى 7.0 مليارات جنيه (6)، فإذا عدنا إلى الوراء عقدين من الزمان نستطيع أن نقدر حجم إيرادات هذا التنظيم بعشرات الملايين من الجنيهات، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت يتيح له التحرك بحرية وسط الفقراء.
كما أظهرت نتائج التحقيقات في القضية المعروفة باسم التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني في مصر بعد ثورة كانون الثاني/يناير عام 2011 (القضية رقم 110 لسنة 2011) -أظهرت أن جمعية سلفية واحدة هي "أنصار السنة المحمدية" قد تلقت أموالاً وتمويلاً من دولة قطر بلغ 181 مليون جنيه في عامين فقط، كما حصلت على 114 مليون جنيه أخرى من جمعية "إحياء التراث الإسلامي" الكويتية (7)، وبالمثل حصلت الجمعيات السلفية الأخرى المنتشرة في طول البلاد وعرضها على مئات الملايين من الجنيهات في صورة تبرعات.
هوامش
(1) وزارة الداخلية، إدارة الجوازات والجنسية، بيان مستقل 1987.
(2) لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى كتابنا (مع آخر) " أزمة الانتماء في مصر.. الآثار الاجتماعية لسياسة الانفتاح "، القاهرة، مركز الحضارة العربية، 1998.
(3) جريدة "المصري اليوم" بتاريخ 21/5/2008، نقلاً عن مركز معلومات مجلس الوزراء.
(4) لمزيد من التفاصيل انظر كتابنا " الاقتصاد المصري من عهد التخطيط إلى عصر الامتيازات والخصخصة "، القاهرة، مركز المحروسة، 2004.
(5) وزارة الأوقاف، مركز المعلومات والتوثيق والإحصاء، بيان بعدد المساجد الأهلية في مصر، 2012.
(6) راجع كتابنا" اقتصاديات جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم"، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014.
(7) د. أماني قنديل "الجمعيات الأهلية في مصر وسنوات المخاطرة 2011-2017"، القاهرة، موقع الدكتورة أماني قنديل.