قراءة في الموازنة الحكومية الأميركية لعام 2023
الدين العامّ الأميركي احتاج 9 سنوات ليقفز من 10 تريليونات عام 2008 إلى 20 ترليون دولار عام 2017، ثم احتاج إلى 5 سنوات فحسب ليقفز أكثر من 11 تريليوناً آخر مع عام 2022.
-
قراءة في الموازنة الحكومية الأميركية لعام 2023
لم يحلّ فولوديمير زيلينسكي الأسبوع الفائت في العاصمة الأميركية واشنطن صدفةً، إذ كان الكونغرس الأميركي منقسماً بين الديمقراطيين والجمهوريين، حول مشروع موازنة عام 2023. وطالت خلافاتهم عدداً من القضايا مهددةً المؤسسات الحكومية بالشلل، وكان من بين تلك القضايا حجم الدعم المالي الأميركي لحرب الناتو في أوكرانيا عام 2023.
أراد الديمقراطيون موازنة مالية أكبر للجبهة الأوكرانية، وأراد الجمهوريون موازنة أصغر، وكان البند المخصص لدعم نظام زيلينسكي في مشروع الموازنة الفدرالية الأميركية لعام 2023 المطروح على طاولة مجلسي النواب والشيوخ 50 مليار دولار في البداية.
جاء الضغط لإقرار مشروع الموازنة، المتأخر إقرارها أصلاً، فكان يفترض أن تبدأ السنة المالية في 1 تشرين الأول/ أكتوبر، من جانبين: الجانب الأول، أن الجمهوريين سيصبحون الأغلبية في مجلس النواب العام المقبل، بعد أن ربحوا الانتخابات النصفية بأغلبية ضئيلة، ما يرجح كفة الميزان إلى جانبهم، فهم لم يكونوا مضطرين لإقرار مقترح موازنة جرى الكشف عن تفاصيلها النهائية قبل ثلاثة أيام من التصويت عليها فحسب، وبلغ عدد صفحاتها 4155 صفحة.
أما الجانب الثاني، فهو أن عاصفة ثلجية كبيرة كانت على وشك الإطباق على واشنطن والولايات المتحدة عموماً، وكان النواب تحت ضغط عامل الزمن للبت في موازنة العام المقبل، موافقةً أو رفضاً، حتى يعودوا إلى ولاياتهم لقضاء فترة الأعياد مع عائلاتهم وفي دوائرهم الانتخابية.
سارع زيلينسكي إلى واشنطن في زيارته الأولى خارج أوكرانيا منذ العملية الروسية الخاصة في شباط/فبراير الفائت. فالفرصة لا تعوض، وكان أهم بند في زيارته إلى الولايات المتحدة مخاطبة جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ للمطالبة بـ 50 مليار دولار في حين أن كل الموازنة العسكرية الروسية لعام 2021، بحسب موقع "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام"، بلغت 68.4 مليار دولار.
أدّت الدولة العميقة دور شق الجمهوريين الذين دفع بعضهم باتجاه تأجيل البت في موازنة عام 2023 ريثما يصبحون أغلبية في الكونغرس في العام المقبل، فوافقت إدارة المعركة، من جهة الحزب الديموقراطي المسيطر حتى الآن، على تضمين كثير من طلبات النواب والشيوخ الجمهوريين على الصعيدين الأميركي والمحلي في الموازنة، وجرى تخفيض الدعم المقترح لأوكرانيا إلى 45 مليار دولار (44.9 مليار تحديداً)، وتعويض بعض الفارق بـ"مساعدة أمنية" بقيمة 1.85 مليار دولار تقدمها إدارة بايدن لنظام زيلينسكي تتضمن منظومة صواريخ "باتريوت" و"مقذوفات ذكية" للمقاتلات الأوكرانية، تضاف إلى نحو 50 مليار دولار من الدعم العسكري والمالي و"الإنساني" التي قدمتها إدارة بايدن عام 2022، ما عدا ما قدمه الأوروبيون.
لم تحدث المساومات بين الجمهوريين والديموقراطيين في موازنة عام 2023 لتمرير "حزمة دعم أوكرانيا" فحسب طبعاً، بل من أجل استغلال الفرصة الأخيرة لتمرير أجندة الديموقراطيين حول كثيرٍ من الأمور الأخرى أيضاً قبل حلول موعد انتخابات مجلس النواب مجدداً في 5/11/2024.
وافق الديمقراطيون على مطلب الجمهوريين التقليدي إضافة 45 مليار دولار للموازنة العسكرية، فوق الحد الأقصى الذي طلبه البنتاغون أصلاً، لتصل الموازنة العسكرية الأميركية لعام 2023 إلى 858 مليار دولار، وكانت 780 مليار دولار للسنة المالية 2022. وتضمنت الموازنة العسكرية 11.5 مليار دولار لتعزيز القوة العسكرية الأميركية في منطقة المحيط الهادئ، ونحو نصف مليار دولار للإنفاق في العراق والمنطقة الشرقية من سوريا.
وافق الجمهوريون، بالمقابل، على مطلب الديمقراطيين تمرير حزم من الإنفاق الاجتماعي التي تتعهدها شركات خاصة في كثير من الحالات، ويعدها الجمهوريون تقليدياً هدراً للموارد الاقتصادية وتشويهاً لآلية عمل السوق. ووصلت فاتورة تلك البرامج مع موازنات الوزارات المختلفة والشرطة والأجهزة الأمنية والجهاز القضائي والمساعدات الخارجية إلى 772 مليار دولار، وذلك تحت بند "الإنفاق غير العسكري" في البرامج المقدرة سنوياً.
على الهامش، انتزع نواب كثر، فردياً، موازنات مشاريع في دوائرهم الانتخابية، تعزز فرص إعادة انتخابهم، مقابل موافقتهم على مشروع موازنة 2023 بالجملة، في بازار "قانوني" لشراء أصواتهم مقابل مشاريع فيدرالية في ولاياتهم على حساب دافعي الضرائب.
على سبيل المثال، تمكن السناتور ريتشارد شيلبي، من الحزب الجمهوري، من تضمين نحو 762 مليون دولار لولاية آلاباما التي ينحدر منها في مشروع موازنة عام 2023، وتمكن السناتور باتريك ليهي، من الحزب الديمقراطي، من تضمين 212 مليون دولار في مشروع الموازنة لولايته فيرمونت، وكلاهما خدم في لجنة الموازنة في مجلس الشيوخ ، وكلاهما على وشك التقاعد لتماديهما في الثمانينيات من العمر، وسيخلف شيلبي في مجلس الشيوخ مديرة مكتبه كايتي بريت، وسيخلف السناتور ليهي زميله في الحزب الديمقراطي بيتر ولش، والعبرة في جبروت ما يسميه الأميركيون "الآلة الانتخابية" للحزبين التي تدوّر مثل هذه الوجوه وغيرها.
النزعة البنيوية للديمقراطيات الليبرالية لزيادة الإنفاق وعجز الموازنة
أنتجت هذه الصيرورة موازنة سنوية متضخمة أكبر بكثير مما طلبته إدارة بايدن في ربيع العام الجاري، ليحال الفارق إلى عجز الموازنة السنوي، بطبيعة الحال، ومن ثم إلى الدين العام الأميركي المتضخم أصلاً.
وهي رفاهية أميركية "استثنائية" ترتبط بأمرين:
1) الثغرة البنيوية في الديمقراطيات الليبرالية عموماً؛ فهي تقوم على تدوير المقاعد وتغيير وجوه "ممثلي الشعب" في استعراض لا ينتهي من المهرجانات الانتخابية. ويخدم عضو مجلس النواب الأميركي عامين فحسب، فهو منخرط في حملة انتخابية دائمة فعلياً، ما يدفعه لإنفاق أقصى ما يستطيع إنفاقه من الموازنة العامة في دائرته لاسترضاء ناخبيه اليوم لتحسين فرص إعادة انتخابه غداً، فإن رسب في الانتخابات، يتحمل غيره مسؤولية سداد ما أنفقه بالأمس، وإن نجح، فإن عبء سداد الإنفاق الفدرالي في دائرته الانتخابية يتوزع قومياً وعلى المدى البعيد، ولا تتحمل عبئه دائرته الانتخابية وحدها في الغد المنظور.
والأفضل لمثل ذلك المرشح الدائم الإنفاق بالدين العام، الذي تتحمل مسؤوليته أجيال مقبلة لم تولد بعد، أجيال لن تدخل في عداد المؤهلين للتصويت قريباً، وبالتالي لن تهدد وضعه انتخابياً. وتزداد مثل تلك المشكلة تعقيداً مع وجود رئيس جمهورية مقيد بمدتين فحسب، طول الواحدة منهما أربع سنوات، ما يزيد من حافزه للإنفاق العام بصورة جنونية لأن غيره سوف يتحمل مسؤولية سداد الدين من بعده.
2) أفضلية الدولار الأميركي كعملة مطلوبة عالمياً لأغراض الادخار والاستثمار والتجارة والتداول، ولولا ذلك لما أمكن للمشرّع الأميركي أن ينفق بلا حساب من دون خوف من انهيار الدولار أو إفلاس مؤسسات الدولة.
وبات يهدد هذه الوضعية اليوم طبعاً صعود القوى المستقلة عالمياً وإقليمياً، والتداول بغير الدولار، وإمكانية نشوء حيز اقتصادي عالمي خارج عن الهيمنة الأميركية. وهناك الكثير من الديمقراطيات الليبرالية حول العالم، وكلها تنتج بنيوياً النزعة ذاتها لانفلات المسؤولين المنتخبين بالإنفاق غير المقيد وبمراكمة الدين العام، لكنّ الدول الإمبريالية وحدها تتمتع بـ"امتياز" الانغماس في تلك الرفاهية حتى أذنيها، مع أقل قدر ممكن من الضرر على اقتصادها ومؤسساتها. ويكبر ذلك الامتياز بالضرورة بحسب موقع تلك الدولة ومرتبتها في هرم المنظومة الإمبريالية العالمية التي تتربع الإدارة الأميركية على رأسها.
وليس صحيحاً طبعاً أن مصلحة "السياسي" في إعادة انتخابه في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية توجه الموارد العامة تلقائياً بصورة مثلى اقتصادياً، بحكم وجود منافسين له، على غرار ما يفترض أن تفعله "اليد الخفية" من توجيه أمثلَ للموارد الاقتصادية في سوق أدم سميث الحرة، بحسب الأيديولوجيا الليبرالية، إذ إن منافسيه لن ينتحروا انتخابياً بنقد مشاريع فدرالية تدر الدولارات والوظائف على أهل الدائرة الانتخابية، حتى لو كانت قليلة الأهمية من المنظور القومي، بل قد ينتقدون نائب الدائرة أو ممثلها إذا قصّر باستجلاب مثل تلك المشاريع. والحصيلة العامة هي حفل متواصل من الإنفاق والدين العام المتصاعد، ولا سيما مع وجود حافز لدى النواب والشيوخ لـ "حك ظهور بعضهم البعض" على طريقة: "مرر مشروعي كي أمرر مشروعك".
ولا ينفي ما سبق طبعاً إمكانية انتشار ظواهر الفساد وسوء الإدارة في الأنظمة غير الديمقراطية وغير الليبرالية على نطاق واسع بآليات ذات طبيعة مختلفة، لكنّ محاولة تصوير الديمقراطيات الليبرالية بأنها ترياق لكل مشاكل الإدارة العامة في العصر الحديث تكذّبه الوقائع والإحصاءات، المنظومة السياسية الأميركية نموذجاً. ولولا الامتياز الإمبريالي الذي يتيح لبعض الدول أن تنفق أكثر بكثير مما تسمح به مواردها الذاتية لانكشفت عوراتها الإدارية والسياسية على الملأ، ولأفلست وانهارت عملتها.
ولعل أكبر مثال على هذا القول تضخم الموازنة الفيدرالية الأميركية لعام 2023 بصورة مفتعلة، لتمرير أجندات خاصة وفئوية، على الرغم من الخطر الماثل من تضخم الدين العام الأميركي، إلى أكثر من 31.4 ترليون دولار، الشهر الفائت، في ظل نشوء أقطاب منافسة للهيمنة الأميركية وبالتالي للدولار الأميركي.
لمحة عن الموازنة العامة الأميركية
يمكن تقسيم الموازنة العامة الأميركية، على المستوى الفدرالي، إلى 3 بنود:
1) البرامج الإلزامية المستحقة بموجب قوانين مثبتة، وعلى رأسها قانون الضمان الاجتماعي، الذي ينص على راتب شهري للمتقاعدين على أساس معادلات محددة، وقانون العناية الطبية Medicare، الذي ينص على العناية الطبية بالمتقاعدين، وقانون المساعدة الطبية Medicaid، الذي ينص على تزويد الأقل دخلاً بتأمين صحي، وقانون حقوق المتقاعدين العسكريين Veterans Benefits، إلخ... وبلغت قيمة هذا البند 4.8 ترليون دولار في موازنة سنة 2021.
2) البرامج المقدرة سنوياً على أساس الحاجة أو الضرورة، وعلى رأسها الموازنة العسكرية والإنفاق على البنية التحتية والتعليم والوزارات المختلفة وهيئاتها، وعلى الجهاز القضائي، وعلى الشرطة والأجهزة الأمنية (بلغ عدد أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية الأميركية عام 2022 أكثر من 900 ألف موظف، ما عدا موظفي البنتاغون الذين يبلغ عددهم 1.358 مليون موظف غير الاحتياط)، إضافةً إلى الإنفاق على البرامج الخارجية ومشاريع زعزعة الأنظمة وإحداث الثورات الملونة إلخ... وبلغت قيمة بنود البرامج المقدرة سنوياً في موازنة عام 2021 نحو 1.6 ترليون دولار.
3) فوائد ديون الحكومة الفدرالية البالغة 31.4 ترليون دولار عام 2022، وبلغت قيمة هذا البند في موازنة عام 2021 أكثر من 352 مليار دولار.
لا يستطيع المشرعون طبعاً العبث في قيم البرامج الإلزامية أو فوائد الديون إلا إذا عدلوا القوانين التي تنظمها، ولذلك يتركز الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين على ذلك الجزء من الموازنة العامة الذي يتناول البرامج المقدرة سنوياً، أي موازنات الجيش والأجهزة الأمنية والشرطة والبرامج الخارجية مقابل موازنات البنية التحتية والتعليم والوزارات المختلفة. وهو ما طلب له الرئيس بايدن 1.47 ترليون دولار في ربيع العام الجاري، وما أقر له الكونغرس 1.7 ترليون دولار أخيراً للسنة المالية 2023، وهو ما ركزت عليه وسائل الإعلام، مع أنه لا يمثل سوى ربع الموازنة العامة الفيدرالية، لكنه الربع الذي يدور حوله معظم الصراع فعلياً. وقد حُلّ الصراع بزيادة الإنفاق على البرامج المقدرة سنوياً نحو ربع ترليون دولار، فوق ما طلبه بايدن، لإرضاء جميع الأطراف، مع كثير من الحوافز المالية للمؤلفة قلوبهم...
كذلك لا تمثل الموازنة الفدرالية كامل الموازنة العامة الأميركية، إذ إن هناك موازنات الولايات والبلديات أيضاً، وبلغت موازنات الولايات الأميركية مجتمعة 1.17 ترليون دولار للسنة المالية 2022، ويقدر أن تبلغ 1.16 ترليون للسنة المالية 2023، أكبرها موازنة ولاية كاليفورنيا التي بلغت 286.5 مليار دولار للسنة المالية 2022-2023.
عقدة أخيل المالية العامة الأميركية
تتكون المالية العامة في أي دولة من 3 عناصر: أ – النفقات، بـ – الإيرادات، جـ – الموازنة. ومن البديهي أن ما يحدد إذا كانت الموازنة العامة في حالة عجز أو فائض أو توازن هو الفرق بين الإيرادات والنفقات في كل سنة مالية.
أما إذا قسمنا كلاً من تلك العناصر الثلاثة على الناتج المحلي الإجمالي GDP، فإننا نحصل على نسب كل عنصر من تلك العناصر من حجم الاقتصاد، وهو مؤشر مهم لعدة اعتبارات منها أن نسبة النفقات أو الإيرادات الحكومية (وأساسها الضرائب) من الناتج المحلي الإجمالي يدل على مدى تدخل الدولة في الاقتصاد، أو نسبة الموارد في الاقتصاد التي يتم توجيهها عبر الدولة، لا عبر السوق. وبالتالي، تشكل تلك النسبة مؤشراً على مدى ليبرالية النظام الاقتصادي.
يسجّل على هذا الصعيد، أن نسب الإنفاق الحكومي من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة الأميركية ارتفعت إلى 35% منذ الأزمة المالية الدولية عام 2008، وأنها بلغت 40% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2009، لتعود إلى الانخفاض تدريجياً إلى 34% أو 35% بين الأعوام 2014 إلى 2019، ثمّ إلى الارتفاع مجدداً عام 2020 إلى أكثر من 46% عام 2020 و44% عام 2021، وهي نسب لم تبلغها المالية العامة الأميركية منذ سني الحرب العالمية الثانية.
نشير، على سبيل المقارنة، إلى أن نسبة الإنفاق الحكومي للناتج المحلي الإجمالي في الصين، الاشتراكية، التي يحكمها حزب شيوعي، بلغت نحو 37% فحسب في عام كورونا، عام 2020، وأن تلك النسبة بلغت نحو 39% في روسيا في العام ذاته. وهذا يعني أن نسبة تدخل الدولة في الاقتصاد، بناءً على هذا المؤشر وحده، هي أكبر في الولايات المتحدة منها في روسيا والصين، وهي من مفارقات الديمقراطيات الليبرالية التي تنتج بنيوياً تسارعاً في الإنفاق العام. ولا يؤخذ ذلك المؤشر وحده طبعاً، إذ لا بد من أخذ حجم القطاع العام بعين الاعتبار، وهو أكبر بكثير في روسيا والصين طبعاً منه في الولايات المتحدة بالنسبة إلى حجم الاقتصاد.
نلاحظ، في المقابل، أن نسبة الإيرادات الحكومية من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة الأميركية بالكاد تجاوزت 30% عام 2020، وأن نسبة الضرائب بأنواعها من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بالكاد بلغت 26.6% خلال عام 2021، وهذا يعني أن نمو الإنفاق الحكومي كان أكبر وأسرع من نمو الإيرادات الحكومية، ما يعني أن نمو العجز السنوي، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، شهد دورتين كبيرتين، الأولى بين عامي 2008 و2013، من جراء الأزمة المالية الدولية، والثانية أكبر منها حول سنة كوفيد-19.
يؤدي تراكم العجز عبر السنوات المالية إلى تراكم الدين العام طبعاً، وتشكل نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي مؤشراً جوهرياً للملاءة المالية للدولة، ولمدى الثقة بعملتها على المدى البعيد. ويشار إلى أن الدين العامّ الأميركي احتاج 9 سنوات ليقفز من 10 تريليونات عام 2008 إلى 20 ترليون دولار عام 2017، ثم احتاج إلى 5 سنوات فحسب ليقفز أكثر من 11 تريليوناً آخر مع عام 2022 إلى 31.4 تريليوناً والحبل على الجرار، وهو أكبر دين عام في العالم قاطبةً.
بلغت نسبة الدين العام الأميركي 100% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2013، ثمّ قفزت إلى أكثر من 105% عام 2016، ثم إلى أكثر من 128% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020، إلى أكثر من 137% عام 2021، وإلى أكثر من 138% عام 2022. وهو مؤشر خطير في حجمه وتصاعده، ويعبر إما عن تأخر الدولة وتخلف اقتصادها، أو عن إفراطها في أمرها عن سوء إدارة وتقدير، والأصح، في الحالة الثانية، أنه يعبر عن أزمة بنيوية لا تنافس الولايات المتحدة فيها إلا ديمقراطيات ليبرالية مثل اليونان وإيطاليا واليابان. وكلما سحب البساط من تحت أقدام الدولار عالمياً، كلما انعكست هذه المشكلة أميركياً بكل أبعادها.