ثقافة التضامن وفقاً للعقلية الجزائرية
لا يزال الجزائريون يمارسون التضامن الاجتماعي الذي كان له دور كبير جداً في التخفيف من آثار الأزمات المتعدّدة التي ما فتئت تعكّر استقرار البلاد وتهدّد تماسكها في كلّ مرة، فقد تضامن الجزائريون بقوة أثناء الأزمات السياسية المعقّدة التي مرّوا بها.
-
ثقافة التضامن وفقاً للعقلية الجزائرية
بالرغم من التطورات الهائلة التي يعيشها المجتمع الجزائري من جرّاء تغيّر النمط السوسيو اقتصادي وتحوّلات الأسرة الجزائرية، لا يزال الجزائريون يمارسون التضامن الاجتماعي بمختلف صوره، حتى يُخيّل إليك أننا في مجتمع تقليدي لم ينتقل بعد إلى النمط العصري، القائم على الفردانية وتقسيم العمل واستبدال العلاقات التضامنية بالعلاقات التبادلية. لذلك من المهم الوقوف باختصار أمام الأسباب التي أبقت الجزائريين على هذا المستوى العالي من التضامن والتعاون، ولو على حساب النجاح الفردي والمصلحة الشخصية.
الرَّجلَة على الطريقة الجزائرية
منذ نعومة أظافرنا، كثيراً ما كان يتردّد علينا باستمرار مفهوم الرجلة وضرورة التحلي بها، ولم يكن يقدَّم لنا على أساس تعريف أو معنى، بقدر ما كان يقدَّم كنموذج مقارنة لقياس مدى صحّة تصرفاتنا أو خطئها، بحيث يجتهد المحيطون بنا - وخاصة الكبار منهم - في تقييم سلوكياتنا وفقاً لمنطق الرجلة والمروءة، فمثلاً لا يُسمح للولد مهما كان صغيراً بالبكاء، أو بعدم احترام الكبار، أو التعدي على المرأة أو الإحجام عن مناصرة الضعفاء، حتى وإن كانت التّكلفة باهظة. كما أنشِئ الصغار على واجب حماية الحي والجيران، إضافة طبعاً إلى حماية الأهل والأقرباء، وتفادي مكوث الأولاد (الذكور) في البيوت، لترك مساحة للبنات للتنفيس، ناهيك عن الامتناع عن التلفّظ بالكلام البذيء الفاحش في البيوت والطرقات، ومساعدة الكبار وحِفظ كرامة الضعفاء... إلخ.
هذه الأخلاقيات وغيرها اجتمعت لتخلُق نموذج المواطن (وليد الفاميليا)، وهو وصف يُطلق كتكريم لمن يتّصف بمكارم الأخلاق، واعترافٌ لعائلته بأنها قد أحسنت تنشئته، الشيء الذي حفّز العائلات على تأطير أبنائها بالصورة النمطية نفسها التي يطالب بها المجتمع، فقامت بذلك بإعادة بناء النموذج نفسه عبر أجيال متعاقبة. وامتداداً لهذا النوع من التنشئة الاجتماعية، ظهرت مصطلحات ومعانٍ مرافِقة ومكمّلة لمصطلح "وليد الفاميليا". ومن أهمها مصطلح الحومة، أي الحي، وغالباً ما يتم استعماله للتّدليل على عمق الانتماء، وبمعنى آخر توظيف مصطلح "حُومتِي" كمؤشّر للتعصّب للحي والاستعداد والقابلية للدفاع عنه وعن سكانه والحفاظ على استقراره مهما كلّف الأمر، ممّا يخلق نوعاً من الثقافة الفرعية التي تتمتّع بآليات ضبط تحفيزية وردعية، تتنوّع ما بين الأساليب الرمزية والمادية.
عصبية ابن خلدون بنسخة منقّحة
قد يبدو العنوان غريباً، ولكن في آخر المطاف يُمكننا أن نشبّه الكثير من أشكال التضامن في المجتمع الجزائري بعصبية ابن خلدون، القائمة على الدفاع عن الفئات الخمس بالترتيب بحسب قرابة الدم ثم النسب ثم الجوار ثم الولاء وأخيراً التصنّع وهي اعتماد جنود للحماية مقابل المال. ولعلّ أهم ما يجعلني أربط بينهما كون جزء مهم من مظاهر ثقافة التضامن في المجتمع الجزائري يعتمد الروابط نفسها التي يقوم عليها مفهوم التضامن بالعصبية وفقاً لطرح ابن خلدون. فالرّجلة هي شكل متطرف من أشكال الدفاع عن الأهل والأصحاب والجيران، حتى وإن كان الحق أحياناً في غير جانبهم، بل وجب من المفروض زجرهم ومعاتبتهم.
ولعلّ من أصدق الأمثلة على ذلك، مطالبة الأسرة والعائلة الكبيرة عموماً أفرادَها الناجحين بمساعدة أفرادِها الكسالى والفاشلين، حتى وإن لم يبذلوا جهداً لتحقيق النجاح المنشود، بحجّة أنهم يحملون اسم العائلة نفسها أو من العشيرة نفسها أو الجهة أو المنطقة. وبالرغم من أن هذا النوع من التضامن يساعد المجتمع بشكل كبير على الحفاظ على توازنه وتماسكه، إلا أن له الكثير من الآثار السلبية، ومنها تشجيع الاتّكالية والفشل، فبحجّة إمكانية وجود -في الغالب- حلول عائلية لإنقاذ الفاشلين ومَن يرفضون بذل الجهد والتضحية، يبتزّ هؤلاء العائلة من خلال تهديدها بتلطيخ سمعتها وتحميلها وِزر الفشل وعدم القدرة على ضمان الاندماج الكامل لأفرادها، وإنجاحهم ضِمن المشاريع العائلية الجماعية. هكذا إذاً، يُزاوج الجزائريون ما بين ضرورة زرع ثقافة التضامن المجتمعية من جهة، وحمايته من جهة أخرى من فساد وضعف بعض الأفراد والجماعات المنحرفة.
ثقافة تضامنية للتّخفيف من حِدّة الأزمات المتعاقبة
كان ولا يزال لتجذّر ثقافة التضامن في المجتمع الجزائري دور كبير جداً في التخفيف من آثار الأزمات المتعدّدة التي ما فتئت تعكّر استقراره وتهدّد تماسكه في كلّ مرة، فقد تضامن الجزائريون بقوة أثناء الأزمات السياسية المعقّدة التي مرّوا بها، خاصة ما بعد توقيف المسار الانتخابي في سنة 1992، و ما تبِعته من أحداث مأساوية تخلّلتها حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس، وحصدت قُرابة 200 ألف قتيل، رحمهم الله، ومع ذلك تمكّن الجزائريون من تجاوز تلك المحنة بسرعة، فبعدما كان الأخ يقتل أخاه والجار يغتال جاره، تمّ طوي الصفحة بسرعة قياسية نظراً لثقافة التضامن والتسامح التي تجاوزت النزاعات العابرة رغم كلفتها القاسية.
كما أدت أزمة جائحة كورونا دوراً كبيراً في إعادة بعث ثقافة التضامن بقوة، بسبب هول الأزمة، وما تطلّبته من روح تضحية وتكافل في ظلّ الحجر وانقطاع مصادر رزق الملايين من الأفراد، واضطرارهم للاستغاثة وطلب المساعدة. حيث اجتهد الجزائريون في التخفيف من آثار الفشل الاقتصادي وعجز السلطة عن خلق الثروة وبناء اقتصاد قوي يسمح بضمان فرص نجاح طبيعية، فكان للعائلة وللمجتمع عموماً دور كبير في تخفيف انعكاسات الأزمة، وضمان حدّ أدنى من المساعدة للحفاظ على كرامة الأفراد وتوازنهم النفسي، ريثما تُفعَّل الحلول الدائمة عِوضاً عن الحلول الترقيعية والمسكّنات الظرفية. وهكذا ساعدت مختلف محطات التأزيم السياسية والاقتصادية على استدعاء خلق التعاون والإغاثة، ومن ثم إعادة بعث وتجديد ثقافة التضامن المجتمعية من جيل لآخر في كلّ مرة.
العمل الإغاثي كرافد للحفاظ على التضامن المجتمعي
عندما استعصىت على الجزائريين مواكبة آثار الأزمات واستشعار فشل السلطة في التسيير والقيادة، بات من الصعب الاستمرار في العطاء من دون استشعار النتائج على مستوى أكبر، فوجد الكثيرون الحلّ في ربط العطاء بالمقابل الأَخروي (ثواب الآخرة)، وفصل التضامن عن الغطاء السياسي والدُّنيوي عموماً، مما أنعش العمل الخيري الإغاثي، والذي تمثّل بصفة كبيرة في تكثيف جمع الأموال لبناء المساجد ودفع مصاريف معالجة المرضى المستعصية خارج وداخل الوطن، وإعالة الأيتام والأرامل، إضافة إلى تمويل مصاريف المدارس القرآنية والنشاطات الخيرية عموماً. هذا التوجّه وقف حائلاً دون انهيار ثقافة التضامن، كما أنّ تطوّر وعي الأفراد بات يحاصر تسيير السلطة، ويطرح تساؤلات مشروعة حول طريقة إدارة البلد ومستقبل الأجيال المقبلة، في ظل غياب الحلول واشتداد الألم الاجتماعي.
هكذا إذاً، وجد الجزائريون في العمل الخيري سبيلاً لإقناع أنفسهم بعدم التنازل عن التضامن كرد فعل على ضعف أداء السلطة الحاكمة، بسبب غلاء المعيشة وتراجع المستوى المعيشي لغالبية الجزائريين والشعور المتواصل بغياب تداول حقيقي على السلطة. وبالرغم من أنّ الكثير من صور التضامن قد تقلّصت دائرة تطبيقها وباتت تقتصر على أفراد العائلة والدوائر المجتمعية المقرّبة منهم، إلا أنّ التضامن كقيمة وسلوك بات لصيقاً بشخصية الجزائري، فليس من المعتاد مثلاً أن تجد جزائرياً يستغل وجود أجنبي لابتزازه أو مخادعته، بل على العكس يجتهد لخدمته و ضمان راحته، كشكل من أشكال الرجلة والمروءة (تصل إلى أخذه إلى المنزل لإطعامه وإيوائه مجاناً)، كما لا يلتمس الزائر فروقاً واسعة في أثمان السلع ما بين التجار إلا نادراً، لأنهم لم يتعوّدوا على التدليس والخديعة، فغالبيتهم يقدّمون الكرامة على المصلحة، ويفضّلون الاحترام على كسب المال بطريقة غير أخلاقية.
هي إذاً بعض مظاهر التضامن التي دأب عليها الجزائريون، ويحاولون توريثها من جيل إلى آخر، رغم تسارع التحوّلات وغياب استشعار لحلول في الأفق، مع ذلك الجزائري يقدّم احترامه لذاته على مصلحته، ويبحث عن العيش بكرامة مهما كلّفه الثمن، لذلك يعشق نصرة المظلوم رغم قلة الحيلة وهشاشة الواقع.