بين بغداد وبرلين .. الاقتصاد يرتب الأولويات
إنّ تعزيز الحضور الألماني في العراق من بوابة الاقتصاد، سينعكس إيجاباً على الجوانب السياسية والأمنية، ولا سيما إذا كان يسير بخط متوازٍ مع حضور أطراف دولية أخرى مثل الصين
-
بين بغداد وبرلين .. الاقتصاد يرتب الأولويات
إشارات ورسائل مهمة وعميقة أطلقها رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من العاصمة الألمانية برلين التي زارها أواخر الأسبوع الماضي، بناء على دعوة رسمية تلقاها من المستشار الألماني أولاف شولتس. ومن بين أبرز وأهم ما أكده هو:
- توجه الحكومة العراقية الجديدة نحو المزيد من مشاركة الشركات الألمانية في إعادة الإعمار وتطوير البنية التحتية.
- وضع العراق ثقته بالشركات الألمانية، لما تمتاز به من خبرة وكفاءة عاليتين وسمعة عالمية.
- سعي الحكومة العراقية لتشخيص التحديات التي تواجه عملية الاستثمار في العراق، ووضعها في الاتجاه الذي ينسجم مع المعايير العالمية.
- عمل الحكومة على تذليل العقبات أمام عمل الشركات في العراق، وتقديم التسهيلات اللازمة، والحد من البيروقراطية التي تواجه المستثمرين، وتبسيط الإجراءات.
- دعوة الشركات الألمانية للاستثمار في العراق في مختلف المجالات، ولا سيما الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة والغاز والبتروكيمياويات.
- من المتوقع أن تكون تكاليف إنتاج الطاقة المتجددة في العراق منخفضة مقارنة بالدول الأخرى، وكذلك دعم خطة الحكومة العراقية في تطوير قطاع الطاقة والكهرباء.
- سـعي الحكومة لفتح خطوط جوية بين العاصمتين بغداد وبرلين وباقي المدن العراقية والألمانية لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية والسياحية بين البلدين.
- التطلع إلى تحقيق شراكة إستراتيجية وتعاون في جميع المجالات بين البلدين.
وقبيل مغادرته بغداد متوجهاً إلى برلين، أكد السوداني أن زيارته أعدت لها لجان مختصة بين الجانبين منذ أسابيع، وهي تختلف عن الزيارات السابقة لمسؤولين سابقين، لأنها تتضمن خطة عمل مشتركة بين البلدين، ومذكرات تفاهم ستنفذ فوراً بحكم التخصيصات المالية المرصودة، واتفاقيات مبدئية سيتم استكمالها أثناء الزيارة، من بينها توقيع مذكرة تفاهم تنطوي على فقرات تمثل خطة واعدة للنهوض بقطاع الكهرباء مع شركة "سيمنز" في مجال الإنتاج والنقل والتوزيع.
وتطرق رئيس الوزراء العراقي أيضاً إلى فرص مهمة في مجال الغاز المصاحب والطبيعي، وفرص أخرى في قطاع البتروكيمياويات، إلى جانب مبادرات وبرامج في مجال التنمية البشرية والتدريب المهني والتعليم العالي والتعاون المالي والمصرفي، بما يسهم في تطوير الاقتصاد ويوفر البيئة الجاذبة للشركات وقطاع الأعمال.
وبالفعل، فإنَّ مجمل المباحثات مع كبار المسؤولين الألمان ورجال الأعمال والمستثمرين وأصحاب الشركات الكبرى ومديريها تمحور حول القضايا والملفات المشار إليها.
ومن مجمل تصريحات السوداني وتصريحات المسؤولين الألمان والعراقيين، يتضح جلياً أن الاقتصاد، كعنوان عام، مثّل المحور الرئيسي للزيارة، ولم يكن هناك سوى حيز ضئيل جداً لبحث موضوعات السياسة والأمن ومناقشتها.
هذا الأمر يعود إلى جملة أسباب، من بينها أن الحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني وضعت منذ انطلاقتها في 27 تشرين الأول/أكتوبر الماضي الاقتصاد وما يتعلق به من مفردات وعناوين على رأس اهتماماتها وأولوياتها. وقد برز ذلك واضحاً من خلال البرنامج الحكومي الذي طرحته وتعهدت تطبيقه.
السبب الآخر يتمثَّل بأن ألمانيا تمتلك قدرات وإمكانيات فنية وعلمية وعملية متطورة في المجالات والقطاعات الحيوية المختلفة، ولا سيما قطاع الطاقة، فيما يتمثل السبب الثالث بأن ألمانيا، وإن لم تكن مساندة ومؤازرة وداعمة للعراق فعلياً، ولكنها لم تدخل في خصومات وعداوات حقيقية وملموسة معه، على عكس الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ودول أخرى.
أما السبب الرابع، فهو أن الأوضاع العالمية عموماً، وأوضاع أوروبا على وجه الخصوص، فيما يتعلق بأزمة إمدادات الطاقة واحتمالات تفاقمها تجعل ألمانيا وغيرها من الدول تبحث عن مصادر بديلة أو مكملة للحؤول دون مواجهة أسوأ الاحتمالات والخيارات وأخطرها، وربما يكون العراق بما يمتلكه من ثروات نفطية وغازية أحد تلك المصادر.
ومن يدقق في تصريحات المستشار الألماني خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع السوداني يلمس طبيعة وحقيقة توجه برلين ورؤيتها للعلاقة مع بغداد، إذ إنه قال: "لقد توصلنا إلى قرار إستراتيجي. في الأعوام المقبلة، نريد أن نضمن الأمان للطاقة في ألمانيا. لقد اضطررنا إلى فتح 20 محطة للغاز لضمان أمن الطاقة، لأن الغاز الروسي توقف بشكل مفاجئ، ونريد أن نستفيد من الدول العربية في الغاز لنرفع الإمكانيات. يندرج ضمن ذلك قيامنا ببناء مكثف للمحافظة على الغاز المسال". مضيفاً: "العراق قد يكون شريكاً نتمناه في استثمار الكثير من الغاز والبترول".
ولأن تفعيل الصناعة النفطية العراقية ومشاريع إنتاج الغاز الطبيعي واستثمار الغاز المصاحب وتطويرها يتطلب توفير الطاقة الكهربائية بالقدر الكافي، فإنَّ تهيئة الأرضيات المناسبة لعودة شركة "سيمنز" الألمانية الرائدة في مجال الطاقة الكهربائية يأتي في هذا السياق.
ولعل المنجز الأول في زيارة السوداني لبرلين يتمثل بالاتفاقية التي أبرمت بين "سيمنز" ووزارة الكهرباء العراقية، علماً أن هناك اتفاقيات ومذكرات تفاهم سابقة بين الطرفين، ولكن لم يتم تفعيلها كما كان مأمولاً لأسباب سياسية كانت واشنطن في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تقف وراءها، حتى تقطع الطريق على أي منافس آخر لشركة "جنرال إلكتريك" الأميركية، وخصوصاً إذا كان المنافس بمستوى شركة "سيمنز".
أيضاً، لا تريد واشنطن أن تدخل أطرافاً دولية أخرى إلى الساحة العراقية بقوة وتسلبها جزءاً من النفوذ والهيمنة والتحكّم في مختلف المفاصل، ولا سيما المفاصل ذات البعد المالي والاقتصادي.
وقبل عدة أعوام، صرح الرئيس التنفيذي لشركة "سيمنز" في حينه، جو كيزر، بأن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب "كان له دور في محاولة عرقلة اتفاق الشركة مع الحكومة العراقية والدفع باتجاه منح الصفقة بالكامل لشركة "جنرال إلكتريك" الأميركية".
وقد بلغ التنافس بين الشركتين ذروته في عهد رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي للفوز بعقود بقيمة 4 مليار دولار، ولكن بعد ضغوط عدة، استمرَّت "جنرال إلكتريك" بالحصول على عقود الكهرباء داخل البلاد، بحسب مصادر رسمية عراقية، حتى إنها استأثرت بأكثر من 55% منها وفق ما أفصح عنه في ذلك الوقت المتحدث باسم وزارة الكهرباء أحمد العبادي.
ويتفق الكثير من المتخصّصين على أنَّ الصراع المحتدم طيلة أعوام بين شركتي "جنرال إلكتريك" الأميركية و"سيمنز" الألمانية حول من يستأثر بملف إصلاح الطاقة الكهربائية وتطويره في العراق، من إنتاج ونقل وتوزيع، هو أحد أبرز الدلائل والمؤشرات على التوظيف والاستغلال السياسي للأزمة الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها الطرف الرئيسي المهيمن على مقاليد الأمور منذ إسقاط نظام صدام واحتلال العراق قبل نحو 20 عاماً، إذ أتاحت تلك الهيمنة المجال لشركة "جنرال إلكتريك" للدخول إلى الساحة العراقية وإيصاد الأبواب إلى أقصى قدر ممكن أمام الآخرين.
وهناك من يرى أنَّ عودة شركة "سيمنز" وتوفير الظروف المناسبة لها للعمل وتأمين متطلباتها واستحقاقاتها المالية يعني فيما يعنيه إحداث نقلة نوعية مهمة في الواقع العراقي برمته، لأن حل مشكلة الكهرباء سوف يفضي تلقائياً إلى إعادة الروح إلى القطاع الصناعي وتنشيط القطاع الزراعي، وبالتالي توفير أعداد هائلة من فرص العمل، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في امتصاص جزء لا يستهان به من البطالة المتفشية في أوساط القوى العراقية العاملة، وخصوصاً خريجي الجامعات والمعاهد.
أضف إلى ذلك أنَّ التوجه إلى الاستثمارات في قطاع الغاز والتقدم فيه إلى الأمام يرتبط أساساً بحل مشكلة الكهرباء ومعالجتها. بعبارة أخرى، إن برلين التي تتطلع إلى أن يكون الغاز العراقي أحد البدائل من الغاز الروسي المتوقف جراء الحرب الروسية الأوكرانية لا بد من أن تحرص على وضع كل ثقلها لإصلاح واقع الطاقة الكهربائية في العراق.
ولا شكّ في أن تعزيز الحضور الألماني في العراق من بوابة الاقتصاد، سينعكس إيجاباً على الجوانب السياسية والأمنية، ولا سيما إذا كان يسير بخط متوازٍ مع حضور أطراف دولية أخرى، مثل الصين، ومع مزيد من الانفتاح الاقتصادي العراقي على المحيط الإقليمي المتمثل بإيران وتركيا والدول العربية.
مثل هذا التوجه كفيل بتهيئة الأرضيات والمناخات الملائمة لتحقيق الخطوات المطلوبة والخطط المفترضة للإصلاحات الاقتصادية بأبعادها وأوجهها المتعددة، من قبيل تفعيل الاستثمار، ومكافحة الفساد، والقضاء على البيروقراطية، وتقليل الهدر المالي جراء غياب التخطيط أو ضعفه.
وأكثر من ذلك، فهو يضع حداً للهيمنة الأميركية على المفاصل الحيوية للدولة العراقية؛ تلك الهيمنة التي تسببت طيلة عقدين كاملين بتراكم المشاكل والأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية ووصولها إلى مستويات خطرة للغاية. وقد اتسعت وتوسعت مدياتها، لتأخذ طابعاً إقليمياً تجاوز حدود الجغرافيا العراقية.
ولعلَّ رئيس الوزراء العراقي أشار بطريقة أو بأخرى إلى ذلك خلال الحوار الذي أجرته معه مجلة "بيلد" الألمانية قبل بضعة أيام، إذ قال: "إن العراق لن يكون طرفاً في سياسة المحاور في المنطقة والعالم، وهو يعتمد مبدأ العلاقات المتوازنة مع دول الجوار، ونحن نطرح أيضاً أفكاراً لتحقيق شراكات اقتصادية ليكون العراق نقطة التقاء لدول المنطقة وفقاً للمصالح المشتركة للجميع. أيضاً، تبنى العراق مبادرات لتقريب وجهات النظر بين إيران والدول العربية. في تقديري، من مصلحته خفض التوترات وتقريب وجهات النظر، لأنَّ ذلك من شأنه أن ينعكس على أمنه وأمن المنطقة إيجاباً".
ولا شكَّ في أن الانفتاح الألماني على العراق يعني انفتاحاً أوروبياً، مثلما يعني الانفتاح الصيني انفتاحاً آسيوياً، بل وحتى عالمي. ومن الطبيعي أن الانفتاح يؤسس لشراكات إستراتيجية رصينة ومتماسكة تجعل أمنه وواقعه السياسي الإيجابي أولوية لدى الشركاء الذين تربطهم به المصالح والمصائر، وإن اختلفوا في المواقف والثوابت.