احتدام الصّراع على الشرق السوريّ: العَلَم السوريّ هو الأعلى

منذ لحظة الإعلان عن المشروع الإردوغاني المستجد، بدأت التحركات العسكرية السورية ـ الروسية الحثيثة.

  • احتدام الصّراع على الشرق السوريّ: العَلَم السوريّ هو الأعلى
    احتدام الصّراع على الشرق السوريّ: العَلَم السوريّ هو الأعلى

قد يكون الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان أحد أبرع اللاعبين في استغلال اللحظات السياسية الدولية والاستفادة منها بأكثر الطرق خداعاً، وخصوصاً أنّ لدى الرجل الاستعداد الدائم للقفز فوق التفاهمات وفتح الثغرات فيها للولوج إلى أطماعه ومشاريعه التي لا تنتهي، لكنّ هذه البراعة ذاتها قد تجعله من جهة أخرى أحد أسرع اللاعبين في اجتراع النتائج الفاشلة والتسبب بأزمات لبلاده ولحلفائه وأعدائه على السواء.

ولعلّ سخرية السياسة في العصر الأميركي القبيح هي ما جعل خصمه الأبرز هذه المرة، الكرد، متفوّقاً على كلّ من سبقه في تلقّي صفعات التاريخ والجغرافيا والسياسة، من دون أنْ يتعلّم منها شيئاً سوى الألم وانتفاخ الأوداج.

إنّ العملية العسكرية الواسعة التي أعلنت أنقرة أنها بصدد القيام بها في الشمال والشرق السوريين، والتي قالت إنها تهدف إلى تحقيق هدفين أساسيين، هما إقامة "منطقة آمنة" لإعادة اللاجئين السوريين الذين تغصّ بهم تركيا، ثمّ حماية "الأمن القومي" التركي من "الإرهاب الكردي"، أدّت، قبل أن تحدث، إلى تغييرات كبيرة واستراتيجية في آفاقها على الأرض السورية، فقد رفعت دمشق وموسكو بطاقتهما الحمراء عمليّاً وبشكل سريع، من خلال تحرّكات وحشود عسكريّة وتعزيزات على مختلف الجبهات باتّجاه الشمال والشرق.

كذلك، بدا ارتباك واشنطن التي تريد استيعاب الكرد والحفاظ على غنائمها من المنهوبات النفطية والغذائية التي تسطو عليها في الشرق السوريّ من جهة، وإرضاء تركيا التي تحتاجها في أكثر من ملفّ حسّاس متعلّق بالصراع مع روسيا من جهة أخرى. 

وعلى هذا المستوى، أبلغت واشنطن الكرد بأنّ ليس باستطاعتها القيام بشيء، بذريعة أنّ الريف الحلبي، خصوصاً منبج وتل رفعت، هو منطقة نفوذ عسكري روسيّ - سوريّ، وأنّ وجود قواتها في الشرق السوريّ يهدف إلى مساعدتهم في محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي فقط. وقد فهم الكرد أنّ هذا العجز الأميركيّ قد يؤدّي إلى أنْ يصبحوا الأضحية القادمة على مذبح السياسية الأميركية الغارق في الدماء.

منذ أن بدأ إردوغان معركته الإعلامية التي تُمهّد للمعركة العسكرية، تزامناً مع استعار الصراع الغربي - الروسيّ في أوكرانيا وتداعياته واستغلالاً له، وبدأ باستقدام التعزيزات العسكرية إلى الشمال السوري، ودفع ميليشياته السوريّة إلى تنفيذ هجمات على مناطق تلّ رفعت ومنبج في الريف الحلبيّ، وهي المناطق التي تؤرّق الرئيس التركي الذي يسعى إلى السيطرة عليهما جدّيّاً، ليس لهدفٍ يتعلّق بالوجود الكردي وخطره، بل لأنها غنية بالثروات من جهة، ولأنها تقرّبه من حلمه الحلبيّ أيضاً، إذ إنّ حلم السيطرة على حلب لم يمت بعد، وإنْ كان صعباً أو مستحيلاً، فليس أقلّ من إفشال إعادة حلب إلى وضعها السابق، لتكون إحدى أهمّ المدن الصناعية في هذا الشرق، وهو أمر لا يريده إردوغان إطلاقاً، بل هو أحد أهمّ أسباب خداعه للروس ومماطلته في تنفيذ التعهّدات والاتفاقيات التي توصّل إليها معهم في سوتشي، وأبرزها إعادة تشغيل طريق "إم 4" التجاري الحيوي.

إذاً، منذ لحظة الإعلان عن المشروع الإردوغاني المستجد، بدأت التحركات العسكرية السورية ـ الروسية الحثيثة، والتي انطلقت من جهة البادية السورية، تحت عنوان تمشيطها من فلول التنظيم الإرهابي "داعش"، لكن الهدف الأبعد لتحرّك قوات النخبة السورية كان بلوغ الحسكة واتخاذ وضعية القتال لقطع الطريق على العملية العسكرية التركية الأوسع، والانطلاق من هناك لاستعادة الشرق في اللحظة المناسبة. 

كما أقدم الجيش السوري على دفع حشود كبيرة باتّجاه جبهات تل رفعت ومنبج والريف الإدلبيّ، وعزّزت القوات الجوية الروسية وجودها وطلعاتها باتّجاه ريف حلب والريف الفاصل بين الرقة والحسكة، واستقدمت طائرات عسكرية مقاتلة جديدة إلى مطار القامشلي، وغصّت القاعدة العسكرية الروسية هناك بالآليات والجنود، كذلك الأمر بالنسبة إلى القاعدة العسكرية السورية في محيط المطار. كما استبَقت موسكو تحركات عسكرية تركية على جبهة عين عيسى باستقدام تعزيزات إلى المنطقة لمنع التقدم التركي. 

وبالتزامن مع هذه التحرّكات على الأرض، وصل قائد القوات الروسية في سوريا، ألكسندر تشايكو، على رأس وفد عسكريّ كبير إلى مطار القامشلي، وتوجّه على الفور إلى قاعدة "لايف ستون" العسكريّة التي تتّخذ منها "قسد" مقرّاً لقيادتها، والتقى قائدها مظلوم عبدي، وأكّد أنّ العملية العسكرية التركية قد تحدث بالفعل في أيّة لحظة، وأنّ على "قسد" أنْ تعلن موقفها النهائيّ من مسألة التعاون مع دمشق وموسكو لإفشال هذا المشروع، وبدء مرحلة جديدة من العمل والتنسيق الجدّي مع دمشق، من دون الخضوع للإملاءات الأميركية، وأنّ أفضل حلّ لقطع الطريق على إردوغان هو تسليم "قسد" مواقعها ونقاطها العسكرية في الريف الحلبيّ (وخصوصاً تل رفعت ومنبج) وريف الحسكة المتاخم لريف الرقة للجيش السوريّ. 

وفي هذا الصدد، تفيد معلوماتنا بأنّ القائد العسكريّ الروسي كان حازماً جدّاً وصارماً في الحديث مع القيادات الكردية، وأبلغهم بأنّ الخضوع للأوامر الأميركية سيؤدّي بهم إلى الهلاك في الميدان، إن لم يكن في مواجهة الجيش التركي وميليشياته، ففي مواجهة الجيش السوري والروس في وقت لاحق. 

وعلى خطّ الحراك الروسيّ الحثيث نفسه، كان وزير الدفاع الروسيّ اتّصل هاتفيّاً بنظيره التركيّ قبل ساعات من هذا اللقاء، وأكّدا على ضرورة التعاون والتنسيق لحفظ الاستقرار ومنع تدحرج الأمور باتّجاه الحرب أو الفوضى.

وبالتوازي أيضاً، كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، التقى في أنقرة قبل يوم واحد فقط نظيره التركي جاويش أوغلو، إذ أكّد لافروف أنّ موسكو تأخذ قلق أنقرة على أمنها القومي من جهة الحدود الجنوبية بعين الاعتبار، فيما تفيد المعلومات بأنّ لافروف أكّد لأوغلو أنّ موسكو لن تسمح بعملية عسكرية تركية كهذه، وأنّ باستطاعة السوريين والروس منع أيّ تصعيد كرديّ يهدّد الأمن في الشرق والشمال، من دون أنْ يغفل الحديث عن ضرورة قيام أنقرة بواجباتها وتعهّداتها الخاصة بعزل الجماعات الإرهابية في منطقة إدلب، تمهيداً للتوصّل إلى تسوية تُعيد الأرض إلى الدولة السورية بما يحفظ الأمن القوميّ للبلدين.

وفوق ذلك كلّه، أجرت القوات الجوية السورية والروسية مناورات عسكرية كبيرة ومهمة جدّاً في الأيام الأخيرة، جرت فيها محاكاة معركة عسكرية في الأجواء السورية، والتصدّي لطائرات معادية تغير على البلاد. وإذ تثبت دمشق وموسكو من خلال هذه التحركات والعمليات الميدانية والحراك السياسيّ كله أنّ مرحلة جديدة بدأت على الأرض السورية مختلفة تماماً عن كل ما سبق، يمكن تلخيص الواقع الميداني الحالي، من خلال معلوماتنا الواردة من الأرض، بما يلي:

تؤدّي موسكو دورين متوازيين في هذه اللحظة الصعبة، فمن جهة تواصل أداء دور الضامن لتفاهمات سوتشي 2019، أي القوة التي يمكنها أن تضمن عدم التقدم التركي أو الكردي في الاتجاهين، وهي تظهّر هذا الدور الآن سياسيّاً وعسكريّاً على الجبهات. ومن جهة أخرى، تنقل تعنّت دمشق بوضوح إلى الكرد والأتراك، وتبلغهم إصرار القيادة السورية على إعادة السيطرة على جميع الأراضي التابعة للدولة السورية، والقتال ذوداً عنها حتى النهاية، وتضيف أنّ موسكو ستكون خلف دمشق وإلى جانبها لتحقيق هذا الهدف سريعاً.

ولتأكيد حزم دمشق وموسكو ميدانيّاً، وغضبهما في وجه الكرد خلال اللقاءات الأخيرة التي جمعت (وتجمع حتى اللحظة، حيث ما تزال اللقاءات مع الكرد منعقدة في مطار "منغ" العسكري حتى ظهيرة هذا اليوم التاسع من حزيران)، فإنّ قوات النخبة السورية في الفرقة 25 التي يقودها العميد سهيل الحسن، التي تضمّ خيرة ضباط وجنود الجيش العربي السوريّ المدرّبين على القتال في أصعب الظروف، والمدججين بأحدث الأسلحة الروسية، والذين تنتقل معهم الطائرات العسكرية السورية والروسية على طول الطريق إلى الحسكة وريف الرقة المتاخم، بلغت تلك المناطق بالفعل، وليس أمام قوات "قسد" سوى تسليم مواقعها هناك لرفع العلم السوريّ عليها ومواجهة أي هجوم تركيّ محتمل، فيما سلّمت بالفعل قوات "قسد" العاملة في ريف منبج مساحة 10 كيلومترات للقوات السورية، بانتظار تسليم مناطق تل رفعت، والتي تواجه عمليات تسليمها معارضة أميركية تجبر "قسد" على التراجع كلّما أعلنت قبولها بالأمر، نظراً إلى وجود آبار نفط في تلك المنطقة. 

وفي الوقت الذي تحوّل مطار القامشلي ومحيطه إلى منطقة عسكرية سورية - روسية كبيرة جدّاً، فقد أقدم الروس ظهر يوم الخميس التاسع من هذا الشهر على نشر منظومتي دفاع جويّ من نوع "بانتسير" محدّث، وعربتين تحملان صواريخ "إسكندر" الروسية المدمّرة، على طريق تل تمر - القامشلي، بالتزامن مع نشاط كثيف للخبراء الإيرانيين والمجموعات المقاتلة العاملة معهم، إلى جانب القوات السورية في محيط تلّ رفعت، فيما بدأت في الوقت نفسه حشود عسكرية سورية كبيرة بالتحرّك من محيط إدلب وأرياف حلب باتجاه تل رفعت ومطار "منّغ"، في إشارة إلى وجود تنسيق سوريّ - روسيّ - إيرانيّ كبير في هذه العملية الاستراتيجية على مستوى الصراع على الأرض السوري، وإصرار من حلف دمشق على تغيير الواقع الجغرافي والعسكري لمصلحة الدولة السورية، مهما كلّف الأمر. 

وتُمثّل هذه التحركات الميدانية الرسالة السورية - الروسيّة - الإيرانيّة رسائل للأتراك والكرد والأميركيين على السواء، تفيد بمنع أيّ توسّع تركيّ على الأراضي السوريّة والجاهزية لمجابهته عسكريّاً، وبوجوب خروج "قسد" من جميع المواقع الممتدة من ريف حلب إلى ريف الحسكة وتسليمها من دون استثناء إلى الجيش السوريّ فوراً.

وقد أبلغ الروس وقوفهم مع قرار دمشق هذا إلى أنقرة، كما إلى مظلوم عبدي ورفاقه، وبأنّ على "قسد" أن تقاتل تحت راية الجيش السوري عند أيّ تقدم عسكري لأنقرة أو ميليشياتها السورية. وما جرى في الأيام والساعات القليلة الماضية يفيد بأنّ "قسد" وجدت نفسها أمام هذا الخيار الوحيد بالفعل. وقد وافقت غير مرة على التسليم، ثم عادت لتتراجع أمام الضغوط الأميركية، الأمر الذي صعَّد من لهجة الجنرال الروسيّ، ودفعه إلى التحدث بلغة عسكرية آمرة ومُحذّرة أمام الكرد.

وتفيد المعلومات الواردة إلينا حول اجتماع القامشلي واجتماع "منغ" المتواصل حتى اللحظة، أنّ المفاوض الروسيّ أبلغ الكرد بأنّ واشنطن لن تستطيع فعل أيّ شيء لهم، فهي موافقة على عملية عسكرية تركية في منبج ومحيط تل رفعت، فيما يمنعها خوفها على وجودها العسكريّ في الشرق، وعجزها عن التعامل مع أي صراع عسكري قادم، مِن دفع الكرد إلى الموافقة على التسليم.

عمليّاً، يُقدّم المفاوض الروسيّ للقيادات الكردية تقاريره الميدانية التي تفيد بتقصّد القوات الأميركية عدم اعتراض طريق العميد الحسن وفرقته، وعدم القيام بطلعات عسكريّة مستفزّة حوالى الفرقة السورية، الأمر الذي يشير إلى عجز القوات الأميركية عن خوض أيّة معركة حقيقية على الأرض، وأنّ هذا العجز سيظهر أكثر في الفترة القادمة أمام الإصرار السوري الروسي على استعادة المنطقة الشرقية، ويؤكّد المفاوض الروسي للكرد أنّ مسألة الهروب الأميركي باتت وشيكة. لذلك، عليهم التصرف بحكمة منذ الآن ومن دون تردّد. 

ويمكننا القول هنا إنّ كلّ هذا العتاد والسلاح الاستراتيجيّ الذي نقله الروس إلى قاعدة مطار القامشلي (يمكن القول إنّها باتت توازي قاعدة حميميم من حيث التسليح والقوة) ومناطق في تل تمر والحسكة، كما الحشود العسكرية السورية، قد تكون موجّهة ضد الأميركيين أنفسهم، قبل أن تكون موجهة ضد أي طرف آخر. ويبدو أنّ الروس قرروا أخيراً مواجهة واشنطن هنا، بل طردها من هذه الساحة.

من جهتها، تصرّ دمشق على المضيّ في التقدم العسكريّ باتّجاه الشرق، وصولاً إلى استعادته، حتى لو تطلّب الأمر معارك كبيرة. والجدير ذكره هنا، أنّ مستوى الثقة السورية بالقيادات الكردية بلغت درجة الصفر. 

لذلك، تصرّ دمشق على الخطوات الميدانية الصارمة، وتتعنّت في مطالبها من الكرد، فيما يوافق هؤلاء مرغمين على الكثير من هذه المطالب، لكنهم يتوقفون عند النفط، فهم يريدون إبقاء سيطرتهم على حقول البترول في الشرق أو على الأقلّ ضمان حصّة وازنة منه، لكنّ دمشق ترفض ذلك تماماً، وتريد الوصول إلى حلّ نهائيّ لهذا الوضع، وبسط سيطرة الدولة على جميع الأراضي السورية، بما فيها من المنشآت النفطية وصوامع الحبوب، إمّا بالتسليم وإما بالقوة، سواء الآن أو لاحقاً بعد زوال تهديد العملية العسكرية التركية. 

وعلى ذكر القمح، فإنّ جزءاً لا بأس به من الصراع في الشرق السوري الآن متعلّق بالقمح تحديداً، إذ تريد أنقرة السيطرة على القمح السوريّ وسط أزمة القمح العالمية الناجمة عن الحرب الأوكرانية، فيما ستفعل دمشق وموسكو المستحيل للسيطرة السريعة على هذه الثروة السورية، كي تستعيدها دمشق وتستفيد منها، ولا تضطرّ موسكو إلى إمدادها بها. والجدير ذكره هنا أنّ "قسد" تبيع ما تسمح به واشنطن من القمح للدولة السورية، وهذا أمر ما عاد بإمكان دمشق السكوت عنه.

ختاماً، تسير الأمور على كل الصعد الميدانية والسياسية باتّجاه تسليم "قسد" جميع نقاطها العسكرية للجيش السوريّ في الأيام القليلة القادمة. وقد يجري تسليم العديد من المواقع خلال الساعات القادمة، وخصوصاً أنّ هناك اتفاقاً جرى التوصل إليه بضرورة التسليم الفوري لقوات العميد الحسن، ورفع العلم السوري عليها لحظة الاتفاق، لا انتظار المعوقات الأميركية التي تظهر تباعاً بعد كل موافقة كردية على التسليم. 

أمّا استعادة القوات السورية منطقة القامشلي، وصولاً إلى الرميلان والمالكية، فقد تأخذ وقتاً أطول، لكن القرار السوري - الروسيّ قد اتّخذ بشأنها. وسوف تتقلّص الآمال الكردية شيئاً فشيئاً في الفترة القليلة القادمة، وسط العجز الأميركيّ التام الذي سيفضي إلى الهروب، في رأي جميع الأطراف. وسيبقى أنْ يقتنع الكرد بشكل نهائيّ بالانصهار عسكريّاً ومؤسساتيّاً تحت ظلّ الدولة السورية، إذ لا خيار آخر أبداً.