التفاهمات الإقليمية: ضمانة للمنطقة في ظل تراخي القبضة الأميركية

لا شك في أننا نعيش أبرز فرصة من أجل استعادة هذه المنطقة قرارها وسيادتها، في مقدمة لفتح مسارات النهوض والتنمية.

  • التفاهمات الإقليمية: ضمانة للمنطقة في ظل تراخي القبضة الأميركية
    التفاهمات الإقليمية: ضمانة للمنطقة في ظل تراخي القبضة الأميركية

يقول الصحافي العربي محمد حسنين هيكل في معرض حديثه عن التحولات التي تشهدها الدول وضرورة التعاطي معها بحكمة: "إنَّ المراحل الانتقالية للدول تشبه مرحلة المراهقة في الشخصية الإنسانية، وإن تحقيق النضج في هذه المراحل يتطلب الكثير من الصبر والتفكير العميق والحكمة".

 ويبدو من خلال التجارب التاريخية أن المراهقة السياسية طغت على العديد من الفرقاء العرب على حساب النضوج في الكثير من المحطات التي شهدت تحولات كبرى.

تكفي الإشارة إلى تجربة الثورة العربية الكبرى أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، عندما تصرّف العرب من دون أدنى إدراك لحقيقة التحولات ومآلاتها، فضلاً عن جهلهم بموازين القوى. تعاطت القوى العربية البارزة بسذاجة وبساطة. وقد دفعت شعوبنا وبلداننا الثمن.

تكشف الوثائق التاريخية أنّ الشريف حسين أجاب ابنه فيصل حين سأله عن فرضية عدم التزام بريطانيا العظمى بوعودها: "ألا تعرف بريطانيا العظمى؟ إن ثقتي بها مطلقة"، وتؤكّد الوقائع أن الوعود البريطانية لم تكن إلا خطوطاً على الرمال سرعان ما اندثرت تاركةً الشريف حسين هارباً ومنفياً في قبرص.

وقد عبر المؤرخ الأميركي ديفيد فروكمين عن تلك المرحلة بالقول: "حدود الدول الحالية رسمت في الأساس لرعاية مصالح بريطانية وفرنسية، بصرف النظر عن مصالح وآمال شعوب المنطقة التي كان يتم تجاهلها أو إنكارها من قبل المسؤولين الأجانب. هذا الأمر لم يدركه الشريف حسين الذي صدق وعود أعظم دولة استعمارية في ذلك الزمن".

الأمر نفسه تكرر مع نهاية الحرب العالمية الثانية، فلم يتم التعاطي بالنضج الكافي في مواجهة المشروع الصهيوني، وكان رد الفعل العربي متأخراً وغير متناسب مع الخطر الصهيوني، ولم تدرك الدول العربية الخطورة الحقيقية للمشروع الصهيوني، ما أدى إلى نكبة العام 1948.

تعيش الدول العربية اليوم مرحلة انتقالية خطرة ما لم نحسن التعاطي وتقدير الموقف وتحديد المخاطر والفرص؛ فقبضة المنظومة التي هيمنت على القرار العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تفردت بشكلٍ أحادي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، آخذة بالتراخي، وذلك لأسباب عديدة بدأ الكثير من القادة الإقليميين والدوليين يتحدثون عنها، وباتت مسألة اتجاه العالم إلى تعدد الأقطاب أمراً بديهياً لدى المحللين الإستراتيجيين وصناع القرار في العالم.

هذا يعني أن العالم أمام مفترق طرق: إما حصول عملية تحول بهدوء نسبي، من دون الدخول في صراع دولي كبير عبر تسليم القوى بالمعطيات الجديدة، وإما الدخول في صراعات متعددة الأشكال على طريقة الحروب بالوكالة أو الحروب العالمية المباشرة.

وفي الحالتين، سنشهد محاولات من الولايات المتحدة الأميركية التي تشكل رأس منظومة الهيمنة العالمية لإعاقتها. يدرك الأميركيون أنّ موازين القوى لم تعد تسمح لهم بالتربع الأحادي في العالم، وبالتالي ستستخدم واشنطن الكثير من أوراق القوة التي تمتلكها للحد من خسائرها.

وقد بدأت عملية إعادة ترتيب للأولويات من خلال إعلانها التوجه نحو آسيا الوسطى وشرق آسيا، ما يعني احتدام الصراع في هذه الساحات في مقابل ترك نوع من الفراغ النسبي أو من الهوامش في مناطق أخرى مثل غرب آسيا.

هذا الأمر يشكل تهديداً وفرصة في آن لدول منطقتنا؛ تهديداً في حال سعت الأطراف الإقليمية إلى تعبئته من خلال نزاعاتها وتناقضاتها وخصوماتها، ما يعني دخول المنطقة في حروب كارثية في ظل اهتمام الدول الكبرى بأماكن أخرى، وفرصة لاستعادة المنطقة استقلالها وسيادتها وإعادة تكوين موقعها على الخريطة الدولية بطريقة جديدة، من خلال صياغة تفاهمات إقليمية موسعة تؤدي إلى استفادة دول المنطقة من قدراتها وإمكانياتها الكبيرة، وفي الوقت نفسه احترام خصوصيات كل دولة.

هنا تكمن أهمية التفاهم السعودي الإيراني الذي يشكّل بداية صحيحة لفهم قادة المنطقة هذه الحقائق العالمية، فالسعودية وإيران بثقلهما تشكلان رافعة لهذا المسار، وبإمكانهما قيادة تحرك من أجل توسعة هذا الشكل من التفاهمات ليشمل مصر وتركيا.

ويمكن اختصار الخطوات الضرورية والمهمة التي يجب أن توضع على جدول أعمال هذه التفاهمات لضمان نجاحها بالتالي:

- معالجة الوضع في سوريا وعودتها إلى المنظومة الإقليمية بفعالية.

- إنهاء الحرب اليمنية.

- معالجة التوترات في شمال أفريقيا، وخصوصاً ليبيا.

- التشبيك الاقتصادي الجدي بين دول المنطقة.

- إعادة تفعيل منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية كمنظمتين قادرتين على أداء دور أساسي في معالجة الأزمات وصياغة التفاهمات وتعزيز المشتركات.

أما الشروط الأساسية لنجاح هذا المسار فهي:

أولاً: قرار إستراتيجي تتخذه دول المنطقة ينأى بها عن الصراعات العالمية، ويدفع باتجاه تبني علاقات دولية متوازنة، ما يستدعي تطوير علاقاتها مع الشرق، وبالتحديد روسيا والصين.

ثانياً: إقفال أبواب التطبيع بكل أشكاله أمام العدو الإسرائيلي، ومواجهة التغلغل الأمني الإسرائيلي في المنطقة.

لا شك في أننا نعيش أبرز فرصة خلال 100 عام من أجل استعادة هذه المنطقة قرارها وسيادتها، في مقدمة لفتح مسارات النهوض والتنمية، فهل ينجح قادة دول المنطقة ويتلافون فشلاً جديداً أم نكرر تجارب تاريخية سابقة على شكل المأساة والمهزلة؟