بيان القوى الخمس حول منع انتشار النووي: لزوم ما لا يلزم

الإشكالية التي أثارها المجتمع الدولي والأمم المتحدة حول البرنامج النووي الإيراني، المشهود له بسلميّته وفق تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لم تنسحب إشكاليةً حول البرنامج النووي الياباني أو الألماني.

  •  الدور الذي قامت من أجله الأمم المتحدة بقي رهينة مصالح القوى الكبرى
    الدور الذي قامت من أجله الأمم المتحدة بقي رهينة مصالح القوى الكبرى

لم تكن المعاهدة الدولية المعروفة بمعاهدة الحد من انتشار السلاح النووي للعام 1968 ثمرة جهود الأمم المتحدة في مجال السلم والأمن الدوليين، وضمن إطار المفهوم القانوني للأمن الجماعي، بل يمكن القول إنها كانت نتيجة توافق القوى الكبرى، التي تمكَّنت من امتلاك سلاح نووي في مرحلة الحرب الباردة، على منع تفلّت السلاح النووي، بما قد يؤدي إلى خروج الأمن الدولي عن السياق الذي استقرت عليه التوازنات الدولية في مرحلة الحرب الباردة.

وإذا عدنا إلى الفلسفة التي سادت في تلك المرحلة، فإنها لم تخرج عن إطار الاعتراف بتوازنات القوى القائمة، من دون إقامة أي اعتبار للمبادئ والأسس التي حكمت قيام الأمم المتحدة وأسس الأمن الجماعي، فمعاهدة حظر انتشار السلاح النووي لم تلتزم التصور الذي وضعته الأمم المتحدة في العام 1945 لنظام التعليمات الذي يضمن أقلّ انحراف في أسلحة العالم الإنسانية. 

وفي تحليل هذا النظام، لم يكن الهدف الحقيقي هو الحد من الانتشار المتفلّت لأسلحة الدمار الشامل، وإنما كان يتعداه إلى تخليص العالم من الآثار المدمرة لهذه الأسلحة، عبر تدمير أي بنية تحتية قد تساعد على إرساء نظام تسليح متفوق يضرب أسس المساواة ويهدد السلام العالمي، غير أنّ تمسّك القوى الدولية برؤيتها الميكافيلية وتكريسها مفهوم القوة المرتبط بالسيادة الوطنية، عبر إضعاف مفهوم التضامن العالمي في مواجهة التهديدات والأخطار التي قد تنجم عن أي جنوح نحو الهيمنة والاستعمار، إضافةً إلى ما يعنيه مفهوم السيادة القومية من ارتباط بمفهوم المجال الحيوي، الذي يُترجم تمسكاً بمراكمة القوة الوطنية تحت شعار النمو الطبيعي والحاجة، ساهم كله في الحد من فعالية الأمم المتحدة في مجال تكريس نظام تعليمات فعال. وبالتالي، دفع باتجاه رضوخ الأمم المتحدة لنظام أمن جماعي مستند إلى توازن قوى رسخت أسسه القوى النووية الكبرى في تلك المرحلة.

أما بالنسبة إلى أخطار اندلاع حرب نووية بين هذه القوى، فإنَّ الفترة الأخطر كانت في زمن الحرب الباردة، إذ ارتفع مستوى المواجهة بين القطبين العملاقين، الأميركي والسوفياتي، إلى مرحلة الإنذار الأحمر، فالأزمة الكوبية كانت المرحلة الأخطر، إذ أثارت الصواريخ السوفياتية المرسلة إلى كوبا حفيظة الجنرالات الأميركيين الذين حذروا من اقتراب التهديد السوفياتي من الخط الأحمر المحرك للترسانة النووية. 

وعلى الرغم من خطورة الموقف في كوبا، فإنَّ خيار النووي بقي في دائرة المحظورات لدى الطرفين، بسبب انعكاساته الكارثية الحتمية على الدولتين والعالم. وخلال تلك الأزمة، استطاع الطرفان تخطي عنق الزجاجة بتفاهم ثبت قواعد كانت مرسومة سابقاً.

ولذلك، يمكن القول إنَّ هذه الأزمة شكلت دليلاً واعترافاً متبادلاً بعدم جدوى استخدام الأسلحة النووية، وحصر دورها ضمن ما يمكن توصيفه كأداة دبلوماسية تلجأ إليها الأطراف المتفاوضة متى اشتد الصراع واستنفدت الخيارات، من دون وجود أي نية جدية أو تصميم لاستخدامها على أرض الواقع. وبالتالي، إنَّ المرحلة اللاحقة التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي أبقت السلاح النووي خارج معادلة الصراع، إذ لم يكن لهذا السلاح أي دور فاعل في منع الانهيار أو تأخيره على الأقل. 

وبالعودة إلى الظروف التي رافقت التوقيع على اتفاقية الحدّ من انتشار السلاح النووي، فإنَّ مجموعة من الدلائل تشير إلى فقدان القيمة العملية لهذه الاتفاقية كمساهم في الأمن الجماعي والسلم الدولي، فبعد توقيعها، نجحت بعض الدول في امتلاك أسلحة نووية، بما يعد انتهاكاً للمعاهدة ولمقاصد الأمم المتحدة، إذ تدحرجت كرة السلاح النووي من الهند إلى باكستان إلى جنوب أفريقيا والكيان الإسرائيلي وكوريا الشمالية وليبيا وغيرها. وكان هذا الانتشار محكوماً بتوازن القوى العالمي، إذ كانت تغطية أحد القطبين على امتلاك دولة ما لهذا السلاح مقابلة لتغطية القطب الآخر على دولة أخرى.

وفي مرحلة لاحقة، لم يؤدِ انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة إلى تغييب الأسباب التي أدت إلى ارتهان الأمم المتحدة للتوازنات الدولية أو الحدّ من انتشار الأسلحة النووية التي كانت، وفق المزاعم الدولية، نتيجة لهذه الحرب، بل إنَّ تفرد الولايات المتحدة في الهيمنة العالمية ساعد على مراكمة الأسلحة النووية وتطويرها، وساهم في تكريس مفهوم الأمن الذاتي المرتبط بنوع من العلاقات الدولية المحكومة لشريعة الغاب الميكافيلية. 

وبتقدير الواقع الدولي الذي ساد في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يمكن الملاحظة أنَّ الدور الذي قامت من أجله الأمم المتحدة بقي رهينة مصالح القوى الكبرى، فانتهاء الحرب الباردة لم ينعكس تعزيزاً لدورها، بل أبقاها رهينة استراتيجيات القطب الاوحد الأميركي الذي كرسها أداة ضمن أدوات القوة الأخرى التي يمتلكها.

ولذلك، فإنها استمرت في تطبيق ازدواجية معاييرها تجاه البرامج النووية للدول التي لم تشرعها معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي، فالموقف الأممي من امتلاك الهند أو باكستان أو الكيان الصهيوني برنامجاً نووياً لم يكن متوافقاً مع المنظور الذي حكم الرؤية الأممية من البرنامج النووي العسكري الكوري الشمالي أو الليبي.

كما أنَّ الإشكالية التي أثارها المجتمع الدولي والأمم المتحدة حول البرنامج النووي الإيراني، المشهود له بسلميّته وفق تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لم تنسحب إشكاليةً حول البرنامج النووي الياباني أو الألماني. 

وإذا كان الواقع الدولي الذي استجدّ بعد الحرب الباردة ساهم سلباً في الحد من انتشار السلاح النووي، فإن امتلاك هذا السلاح لم يؤدِ إلى تحقيق الغايات التي كانت مرجوة منه، فالكيان الإسرائيليّ الذي اختبر سلاحاً نووياً في العام 1979، لم يتمكَّن من تحقيق أمنه الذاتي عبر استراتيجية نووية، إذ شهد العديد من المعارك والهجمات، إضافةً إلى كمّ كبير من التصريحات التي تعبّر عن نية أعدائه بالقضاء عليه وإعادة الصهاينة إلى مواطنهم الأصلية.

وعلى الرغم من اختلال التوازن النووي بين الكيان والجمهورية الإسلامية، فإنَّ الكيان يعبر دائماً عن قلق وخوف، سببهما استراتيجية الجمهورية الإسلامية الواضحة والجريئة والهادفة إلى إزالته من الوجود، من دون إقامة أي اعتبار لسلاحه النووي.

إذاً، وانطلاقاً من التقدير الذي سبق، يمكن التأكيد على غياب الدور الإيجابي للأمم المتحدة، من حيث عدم قدرتها على تكريس نمط واحد في معالجة القضايا المطروحة أمامها، إذ إنَّ توافق القوى الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن قد يؤمن فعاليةً ونجاحاً على مستوى عملية اتخاذ القرار وتنفيذه. وعليه، فإنَ الفعالية في هذا المجال ستبقى محكومة لمصالح القوى الكبرى، من دون إقامة أيّ اعتبار لمدى توافقها مع مبادئ الشرعية الدولية.

ولذلك، إنّ البيان المشترك الذي صدر عن القوى الخمس، والَّذي أكد منع انتشار السلاح النووي، وصولاً إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية، لا يعبر عن التزام القوى الخمس الكبرى بمبادئ الشرعية الدولية الرافضة للحرب، إنما يعكس حقيقة الواقع الدولي القائم وطبيعة التجاذبات الدولية التي تبدأ من كوريا الشمالية، وتمر عبر الملف النووي الإيراني، ولا تتوقف عند تعقيدات الأزمة الأوكرانية. 

إنّ توقيت هذا البيان ومحتواه يؤكدان طبيعته الإعلامية الهادفة إلى البحث عن مساحة مشتركة للتهدئة المرحلية، بعيداً عن أي التزام جدي بمبادئ الشرعية الدولية، وبعيداً أيضاً عن أي تأثير فعليّ على مستوى العلاقات الدولية، الواقعية من حيث استبعاد خيار الحرب النووية... ولذلك، يمكن، ومن دون أي تردد، أن يُصنف هذا البيان في خانة لزوم ما لا يلزم.