رئيسي والأسد في قمةٍ للمقاومة في دمشق: إعلان نصر ومرحلة بناءٍ ومواجهة جديدة
زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق هذه الأيام هي زيارة ذات دلالات وإشارات غاية في الأهمية على مستوى العلاقة بين البلدين في هذا الظرف الاستثنائي.
-
الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي
"نحن وأنتم لم نضع مصير دولنا وشعوبنا في يد الأجنبي، إنما راهنّا على انتصار الحق في النهاية. وقد ربحنا الرهان".
الرئيس السوري بشار الأسد مخاطباً الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي
تختصر كلمات الرئيس السوري أصل وعمق العلاقة الإستراتيجية الثنائية التي ربطت البلدين الحليفين منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. يومها، كانت مصر تنتقل بكل ثقلها العربي والإقليمي إلى الموقع المناقض والمواجه لتطلعات سوريا وقوى التحرر العربية، تاركةً دمشق وحدها في مواجهة مشاريع المستعمرين الأميركي والإسرائيلي وأدواتهما التي راحت تتكاثر في المنطقة. يومها أيضاً، كانت إيران تنتقل من موقع الوكيل الحصري للمستعمر وحارس مصالحه في المنطقة إلى موقع فلسطين، إلى حيث تقف سوريا.
لذلك، كان لا بد من أن تمتد الأيادي بين العاصمتين التاريخيتين لتتشابك معاً في "رهانٍ على الحق"، وتخوض معركةً طويلة ومريرة ضد قوى الاحتلال والهيمنة لم تنتهِ حتى اللحظة، ولا يمكن حصر حجم التضحيات التي قُدمت فيها من الجانبين، ولا تزال تُقدم.
ولأن القوى الاستعمارية لا يمكنها السكوت على هذا الخرق الهائل الذي أحدثته الثورة الإسلامية في خريطة مشاريعها للمنطقة، فقد أوعزت إلى وكلائها في الإقليم لخوض حرب طويلة ومدمرة ضد نظام الثورة الوليد لمنعه من تحقيق أي إنجازات على مستوى الداخل أو تقدمٍ عملي على خط الشعارات التحررية التي رفعها لأجل فلسطين وقضايا المنطقة.
لقد قرأ الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد اللحظة السياسية الفارقة تلك بعمقٍ إستراتيجي لافت، حين قرر أن يكون إلى جانب طهران، في الوقت الذي كانت جل الدول العربية المحيطة تقدم المال وتؤمن السلاح من الدول الغربية لإطالة أمد هذه الحرب وإحداث أكبر ضرر ممكن في الجمهورية الجديدة التي افتتحت سفارةً لفلسطين مكان سفارة الاحتلال الإسرائيلي.
وقد تحملت سوريا الكثير من اللوم والضغوط الرسمية العربية الواضحة بسبب موقفها ذاك، ولم تنسَ لها الأنظمة العربية الحليفة للمستعمر هذا الموقف أبداً، ليس بسبب الغيرة على العراق بالطبع، بل لأن الحلف السوري الإيراني الذي تطور على مدى السنوات اللاحقة ليشكل محوراً عملياً للمقاومة في المنطقة ضم كل الحركات العربية والإسلامية المناهضة للمستعمر وقوى الهيمنة، وصولاً إلى دحر العدو الإسرائيلي من جنوبي لبنان عام 2000 على يد أبرز قوة مقاومةٍ عربية نشأت من رحم هذا المحور، لأن هذا الحلف كان، ولا يزال، يشكل خطراً كبيراً على قوى التبعية والاستسلام المرتبطة بمشاريع القوى الغربية في المنطقة، ولأنه يُشكل نموذجاً مضيئاً لشعوب المنطقة ذاتها، وخصوصاً حين يوضع في قياس التأثير المادي والمعنوي في قضايا هذه الشعوب، وعلى رأسها قضية فلسطين.
لذلك، وعندما بدأت الحرب الغربية على سوريا عام 2011، كان مطلب فكّ الحلف مع طهران والابتعاد على قوى المقاومة وحركات التحرر في الإقليم هو البند الأول والأساسي في كل مقايضة عربية (غربية) مع دمشق. بالطبع، رفضت دمشق هذا المطلب المغلف بكل معاني وأدوات الترهيب والترغيب في كل مرة.
لم تتأخر طهران لحظة واحدة في الانضمام إلى دمشق في حربها الأخيرة التي أُريدَ لها أنْ تُدمر آخر دولة عربية تقول "لا" للمستعمر، وترفع لواء المقاومة والتحرير في وجهه. لقد أدركت أيضاً أن سقوط "عمود محور المقاومة"، على حد تعبير السيد حسن نصر الله، هو ضربٌ لقلب هذا المحور وآماله وتطلعاته ومشاريعه.
لذلك، حضرت من موقعها المتقدم في طليعة هذا المحور بسرعة إلى الميدان من خلال المستشارين العسكريين والمدربين والمجموعات الشعبية المتطوعة التي رعتها ودربتها وسلحتها الدولة الإيرانية لتقاتل جنباً إلى جنب مع القوات المسلحة السورية، وتتحد معها في معمودية دمٍ نقلت هذا الحلف إلى مستوى جديد من الأخوّة على طريق المقاومة الطويل والشاق. ولعل في قصة اللواء الشهيد قاسم سليماني ورفاقه على أرض سوريا ما يختصر آلاف الصفحات من كتاب حلفٍ غيّر وسيُغير وجه هذه المنطقة لعشرات وربما مئات السنين.
لهذا كله، ولغيره الكثير، تكون زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق هذه الأيام ذات دلالات وإشارات غاية في الأهمية على مستوى العلاقة بين البلدين في هذا الظرف الاستثنائي، كما على مستوى التطورات الجارية في المنطقة، على كل صعدها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وخصوصاً أن الرئيس الإيراني كان قد استبق هذه الزيارة بالحديث في مقابلة مع قناة "الميادين" عن الحلف المتين والإستراتيجي الذي يجمع بين البلدين، وعن أهمية سوريا ومكانتها في المنطقة، وعن موقعها المهم جداً والاستثنائي في قلب محور المقاومة.
وتحدث أيضاً عن صمود شعبها وقيادتها في الحرب الاستعمارية المدمرة التي خيضت ضدها، وعن عزم طهران ودمشق على توثيق هذا الحلف بأشكال جديدة بعد الانتصار في الحرب، أي دخول هذا التحالف مرحلة عملية جديدة تقتضيها ظروف المرحلة، في إشارة إلى الخطوات التي ينوي الطرفان الإقدام عليها خلال زيارته إلى دمشق.
تأتي زيارة السيد رئيسي في شكلها الرسمي ومدتها الزمنية وطريقة الاستقبال الذي قوبلت به في العاصمة السورية من المطار إلى قصر الشعب، كإعلانٍ صريح عن نصر هذا الحلف الذي تتقدمه طهران ودمشق على واحد من أخطر المشاريع التي استهدفت البلدين والمنطقة منذ عقود.
من جهة، هي الزيارة الرسمية الأولى التي يقوم بها رئيس دولة كبرى في المنطقة والعالم إلى دمشق منذ أكثر من 10 أعوام، ويُفرَش فيها السجاد الأحمر، ويستعرض حرس الشرف. من جهة أخرى، هذا الضيف هو رئيس إيران ذاتها، لا أي شخص آخر، أي الرئيس الذي خاضت بلاده الحرب مع الرئيس الأسد وقوى المقاومة في سوريا وعموم المنطقة، والتي كان أحد أبرز أهدافها حذف احتمال حصول هذا المشهد (الصورة ومعانيها) من التاريخ السياسي لمستقبل المنطقة كله.
جاء رئيسي إلى دمشق على رأس وفد كبير ليقوم بزيارة سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية، ويقف إلى جانب الرئيس بشار الأسد في قلب دمشق، ويُصدرا للعالم تلك الصورة التي تحمل كل هذه المعاني: إننا هنا جنباً إلى جنب، في مأمنٍ تام صنعته تضحياتنا وقوتنا معاً، نبحث في كل شيء يهم بلدينا وشعبينا، وندرس ونحضر ونعمل لمرحلة ما بعد الحرب والنصر، ونناقش سُبل إزالة آثار العدوان الأممي الذي واجهناه بشجاعة وبأس، وننتقل بالمواجهة من مرحلة القتال على أرضنا إلى مرحلة التقدم على الصعد كافة؛ المقاومة والبناء معاً.
ولعل في استعراض أسماء شخصيات الوفد الذي رافق الرئيس الإيراني في زيارته إشارات كافية إلى كل ما يحضره الطرفان للمرحلة المقبلة، إذ يظهر وزير الدفاع الإيراني، بما يحمله حضوره من دلالات على مستوى التعاون العسكري والتحضير للمواجهة مع العدو الإسرائيلي الذي يواصل اعتداءاته على دمشق، بل الذي تعمد العدوان على مطار حلب الدولي قبل يوم واحد من الزيارة، في رسالة واضحة إلى قادة حلف المقاومة قبل اجتماعهما.
وتفيد المعلومات هنا بأن اتفاقيات عسكرية جديدة سوف توقع بين البلدين، تتعلق بزيادة مستوى التعاون العسكري ووضع الخطط على مستوى محور المقاومة كله في مواجهة العدو الإسرائيلي في سوريا وفلسطين والمنطقة، كما في مواجهة الاحتلال الأميركي في الشرق السوري، الذي كان الرئيس الإيراني قد تطرق إليه وإلى وجوب طرده من تلك المنطقة في مقابلته مع قناة الميادين.
ولأن ما خلفته الحرب والحصار من آثارٍ كارثية على سوريا وشعبها واقتصادها ومؤسساتها هو قسط كبير من الثمن الذي دفعته سوريا نظير مواقفها وثباتها ومقاومتها، فمن الواضح أن القيادتين عزمتا على العمل معاً وبسرعة على هذا الخط المقاوم أيضاً، فالاتفاقيات التي وقعت بين الجانبين بُعيد الاجتماع الموسع بين الرئيسين، ترسم بوضوح خطة العمل الجديدة هذه التي شملت النهوض بمعظم قطاعات الخدمات والإنتاج في سوريا، وأهمها:
- توقيع مذكرة تفاهم للتعاون في المجال الزراعي بين البلدين.
- توقيع محضر اجتماع للتعاون في مجال السكك الحديدية بين سوريا وإيران.
- توقيع اتفاقية للتعاون في مجال الطيران المدني.
- توقيع مذكرة تفاهم في مجال المناطق الحرة.
- توقيع مذكرة تفاهم للتعاون في مجال النفط بين البلدين.
- توقيع مذكرة للتعاون في مجال الاتصالات وثقافة المعلومات.
وهناك أيضاً المزيد من الاتفاقيات والمذكرات والمحاضر التي تتعلق بالتعاون في مجالات التكنولوجيا والعلوم.
واللافت أيضاً أن إيران عرضت خدماتها الكاملة للتعاون والمساعدة في مجال إصلاح وتطوير وتأمين الطاقة الكهربائية في سوريا، والمعلومات هنا تفيد بتقديم طهران قرضاً كبيراً مع تسهيلات كثيرة لبناء محطات كهربائية جديدة وإصلاح الموجود منها والمتضرر.
تعدّ زيارة الرئيس الإيراني لدمشق فاتحةً لمرحلة جديدة في المنطقة في ظل التطورات السياسية الجارية في الإقليم والعالم، وخصوصاً أن هذه الزيارة تكرس حلفاً قوياً عملت قوى الهيمنة الغربية وأدواتها على كسره.
والآن، ها هو يُظهر انتصاراته وتقدمه من خلال هذا المشهد الذي تلا تهافت العديد من دول المنطقة لإصلاح علاقاتها مع إيران وسوريا بعد الفشل الذريع في تدميرهما أو كسر إرادتهما أو دفعهما إلى التخلي عن العمل المقاوم على طريق التحرير، وخصوصاً أن الرئيس الإيراني سيجتمع بقادة فصائل المقاومة الفلسطينية التي تحتضنها دمشق، في رسالة واضحة وذات دلالة على إرادة العاصمتين وعموم قوى محور المقاومة في المضي قدماً وبإصرار أكبر وتطور أعظم على طريق المقاومة والتحرير.
إنه مشهد دمشقي استثنائي بكل المقاييس، وتحديداً حين يوضع في قياسه الموضوعي مع المشهد الذي كان مفترضاً منذ أكثر من 10 أعوام، والذي صُرفت لأجله أموال تكفي لبناء عدة دول مدمرة، وسقط في خضمه عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ومئات الآلاف من القذائف والصواريخ التي كان يفترض أن تُدمر كل طرقات دمشق التي تصلها بأي مقاومٍ في هذا الشرق.