رسمياً سوريا غير قلقة: المديونيّة الخارجيّة تعود من بوابة الحرب
رغم سنوات حربها الطويلة، فإنَّ سوريا لا تزال، بحسب التصريحات الرسمية، من بين الدول ذات المديونية الخارجية المقبولة، بالنظر إلى ما تعرضت له قاعدتها الإنتاجية من تخريب وتدمير كبيرين.
من بوابة الدعم العسكري الذي حصلت عليه دمشق من حليفتيها إيران وروسيا، يعتقد كثيرون أنَّ الدين العام الخارجي لسوريا سجَّل خلال سنوات الحرب مستويات كبيرة، في حين تنفي مصادر سورية أن يكون التعاون العسكري مع كل من روسيا وإيران رتب على البلاد أعباء أو التزامات مالية مستقبلية بالحجم الذي يتردد أحياناً في بعض وسائل الإعلام، وتحديداً مع روسيا، التي قدمت مساعدات عسكرية مباشرة ومجانية للجيش السوري تتجاوز قيمتها عدة مليارات من الدولارات، كان من أهمها طائرات حربية حدّثتها موسكو لدعم قدرات سلاح الجو السوري.
ورغم سنوات حربها الطويلة، فإنَّ سوريا لا تزال، بحسب التصريحات الرسمية، من بين الدول ذات المديونية الخارجية المقبولة، بالنظر إلى ما تعرضت له قاعدتها الإنتاجية من تخريب وتدمير كبيرين خلال فترة الحرب، وإنفاقها المتزايد عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، في وقت تعاني خزينة الدولة من انخفاض شديد في وارداتها المالية. وتتبلور أهمية وضع المديونية الخارجية في الحالة السورية مع استعراض البيانات المتعلقة بتطور مديونيات دول عربية أخرى لم تشهد حرباً طويلة الأمد، ولم تتعرّض لما تعرضت له سوريا اقتصادياً واجتماعياً.
البعض في سوريا يرى في عدم اللجوء إلى الاستدانة الخارجية إضاعة لفرصة اقتصادية كان يمكن أن تبنى عليها مشروعات عدة واستثمارها بما يعود بالنفع على الإنتاج الوطني، وتالياً مساعدة البلاد على تجاوز بعض أزماتها الاقتصادية الراهنة.
وهناك من يعتقد أنَّ الاقتراض الخارجي، كما في الحالة السورية، من شأنه أن يزيد مستقبلاً حدة المشاكل الاقتصادية الداخلية، ولا سيما إذا كانت غاية الإقراض هي تمويل استيراد احتياجات البلاد من السلع الغذائية وحوامل الطاقة، كما تفعل بعض الدول، والتي اضطرت لاحقاً إلى تسليم "رقبة" اقتصادها للمؤسسات الدولية، لكن يبدو أن للأمر في سوريا بعداً سياسياً أكثر من كونه اقتصادياً.
الأقل مديونية
مع بدايات القرن الحالي، اتجهت دمشق نحو مقاربة جديدة لمسألة الاقتراض الخارجي، قامت على محورين رئيسين؛ الأول تسوية وضع القروض المستجرة سابقاً، وفي مقدمته إنهاء الملف الأثقل المتمثل بالقروض والديون المترتبة عليها منذ زمن الاتحاد السوفياتي، وهو ما نجحت به في العام 2005، مع التوقيع على اتفاقية خاصة مع روسيا، تم بموجبها شطب القسم الأكبر (73%) من تلك الديون، البالغة قيمتها نحو 13.4 مليار دولار، والباقي جزء منه يسدد على 10 سنوات، وجزء آخر يستثمر في مشروعات داخل سوريا.
هكذا، دخلت سوريا في قائمة الدول الأقل مديونية. وتبعاً لتقديرات صندوق النقد العربي، فإنَّ إجمالي الدين العام الخارجي العالق في ذمة سوريا بلغ خلال العام 2008 نحو 5.3 مليارات دولار، ثم تراجع إلى نحو 4.3 مليارات دولار في العام 2012، وهو العام الأخير الذي تضمن بيانات عن الدين الخارجي السوري.
أما المحور الثاني، فهو يتعلق بتجنّب اللجوء إلى خيار الاقتراض الخارجي، ولا سيما أنَّ العلاقة مع المؤسسات الدولية كانت في أفضل حالاتها خلال تلك الفترة. وعلى مدار العشرية الأولى من القرن الحالي، نجحت سوريا بتنفيذ هذه المقاربة. وقد ساندها في ذلك حالة التحسن الاقتصادي التي عاشتها في تلك الفترة.
وكان من الطبيعي أن تتأثّر تلك المقاربة بالنتائج الاقتصادية المتدحرجة للأزمة، وتحديداً ما يتعلق منها بالآثار المباشرة وغير المباشرة للعقوبات الاقتصادية الغربية وتراجع معدلات الإنتاج المحلي. هنا، وبغضِّ النظر عن سياسة دمشق تجاه ذلك، لم تكن خيارات الاقتراض الخارجي كثيرة في ضوء المقاطعة الخارجية، إذ اقتصرت طيلة السنوات التسع الأولى من عمر الحرب على إيران، ثم دخلت روسيا على الخط في العام 2020.
وفي العام 2013، اتفقت دمشق وطهران على فتح خطين ائتمانين بقيمة تصل إلى نحو 4 مليارات دولار، بغية تمويل احتياجات سوريا من بعض السلع الغذائية والمشتقات النفطية وقطع التبديل وغيرها، ثم تم الاتفاق في العام 2015 على خطٍّ ثالث بقيمة مليار دولار لتمويل توريد احتياجات البلاد النفطية من إيران. ولاحقاً تم الإبقاء على الخط الائتماني المتعلق بالتوريدات النفطية من دون الإعلان رسمياً عن قيمة ذلك الخط سنوياً وما ينفذ منه.
ورغم الرغبة المتبادلة للبلدين للعمل على خط ائتماني جديد بعد العام 2017، فإنه لم يبرم لاحقاً أيّ اتفاق بهذا الخصوص. وبناء على ذلك، إن قيمة القروض أو التسهيلات الائتمانية المعلنة، والتي منحتها طهران لدمشق، تصل إلى 5 مليارات دولار.
وفقاً لذلك، وبناء على تقديرات بحثية غير رسمية، فإن نسبة الدين العام الخارجي إلى إجمالي الناتج المحلي الإجمالي (بالأسعار الثابتة) وصلت في العام 2016 إلى حوالى 126%، ثم تراجعت في العام 2019 لتبلغ حوالى 116%، مع الإشارة إلى أن تقديرات الناتج في العام 2019 وصل بالأسعار الثابتة إلى 492 مليار ليرة.
وحتى منتصف العام 2020، كانت روسيا تكتفي بدعم حليفتها عسكرياً مع تقديم بعض المساعدات الإغاثية، إلى أن وافقت في أواخر العام المذكور على منح دمشق قرضاً مالياً بقيمة مليار دولار، خُصِّص منه جزء لتسديد الديون المترتبة لشركات روسية على دمشق، والجزء الآخر لتمويل احتياجات البلاد من السلع الغذائية الرئيسية، كالقمح وغيرها، ليكون بذلك أول قرض تمنحه موسكو لحليفتها، ويخصص لأغراض غير عسكرية خلال فترة الحرب.
ديون عربية متزايدة
في العموم، وفي ضوء عدم توفر بيانات رسمية عن حجم الدين الخارجي، فإنَّ إجراء مقارنة بسيطة بين تطور حجم الدين الخارجي لعدد من الدول العربية بين العامين 2011 و2019، يظهر أنَّ سوريا لا تزال تحافظ على دين خارجي يعتبر رسمياً مضبوطاً ومحدوداً، رغم ما شهدته من أحداث خلال العقد الأخير، وهو ما ستكون له انعكاساته الإيجابية على عملية إعادة الإعمار مستقبلاً، التي لا تكون مُرهقة منذ بدايتها بأعباء تسديد قروض مالية خارجية كبيرة كحال بعض الدول.
إنَّ الخطوط الائتمانية التي حصلت عليها سوريا من إيران وروسيا طيلة سنوات الحرب خصصت لتأمين احتياجات البلاد من سلع غذائية ومشتقات نفطية، وهو أمر لا يمكن تحميل مسؤوليته فقط للسياسات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة، إذ إنَّ خروج حقول النفط والقمح عن سيطرة الحكومة منذ العام 2013، وتضرر القاعدة الإنتاجية بشكل واسع، شكلا عاملي ضغط على إمكانيات البلاد وقدراتها على مواجهة تداعيات الحرب المتسارعة.
وبالعودة إلى البيانات المنشورة عن صندوق النقد العربي، والتي توقفت منذ السنوات الأولى من العقد الثاني عن نشر تقديراتها حيال حجم الدين الخارجي الخاص في سوريا، فإن الدين العام الخارجي لبعض الدول العربية ارتفع بنسب هائلة خلال الفترة الممتدة من العام 2008 ولغاية العام 2019، فدين الأردن مثلاً ارتفع من حوالى 5.1 مليارات دولار في العام 2008 إلى حوالى 19.3 مليار دولار في العام 2020، أي بنسبة زيادة قدرها 276%.
كذلك الأمر بالنسبة إلى مصر التي ارتفع دينها الخارجي من 47.7 مليار دولار إلى 123.4 مليار دولار، بنسبة زيادة قدرها 284%، والمغرب الذي ارتفع دينه من 16.4 مليار دولار إلى 37.3 مليار دولار، بنسبة زيادة قدرها 126%.
وهناك دول عربية ارتفع دينها الخارجي بنسب أقل، مثل لبنان، الذي ارتفع دينه الخارجي من 20.9 مليار دولار إلى 33.3 مليار دولار، أي بنسبة زيادة قدرها 59%، وتونس التي ارتفع دينها الخارجي من حوالى 21.9 مليار دولار في العام 2008 إلى حوالى 37.5 مليار دولار، أي بنسبة زيادة قدرها 711%، والسودان من 33.5 مليار دولار إلى 58.7 مليار دولار، بنسبة زيادة قدرها 75%.
وتظهر بيانات الصندوق للعام 2020 أن 5 دول من بين 14 دولة عربية شملتها قائمة الدول المديونة خارجياً، كانت ديونها أقل من 6 مليارات دولار، وأن 7 دول ديونها أكثر من 19 مليار دولار، وأن دولتين لم ترد عنهما أية بيانات (سوريا والصومال).
إعادة الإعمار
يعتبر كثيرون أنَّ العزلة السياسية والاقتصادية التي حاول الغرب فرضها على سوريا أسهمت، إلى جانب التوجس أو الحذر السوري من مسألة الاقتراض الخارجي، في إبقاء حجم الدين الخارجي للبلاد ضمن حدود معينة، لكنَّ التحدي القادم يتمثل بقدرة الحكومة السورية على الاستمرار في ضبط هذا الدين، ولا سيما إذا طال أمد الاحتلال الأميركي لحقول النفط والقمح في الجزيرة السورية، ولاحقاً مع توفر الظروف المحلية والدولية للبدء بعملية إعادة الإعمار، والتي ستكون في النهاية بحاجة إلى تمويل كبير، وإن تباينت التقديرات المتعلقة بتكلفتها، علماً أن التصريحات الرسمية السورية تؤكد دوماً أن البلاد لن تتجه نحو الاقتراض الخارجي، وتحديداً من المؤسسات الدولية المعروفة، إنما ستعتمد، وفق تلك التصريحات، على إمكانياتها المحلية ومشاركة الدول الحليفة والصديقة.