سوريا في زيارة بايدن: غائبة عن الخطاب حاضرة في التفاصيل

لم يتطرّق جو بايدن في مقاله الذي سبق الزيارة، كما لم يفعل أعضاء إدارته، إلى الموضوع السوري، على الرغم من وجود قوات أميركية تحتل أجزاء من الأرض السورية.

  • سوريا في زيارة بايدن: غائبة عن الخطاب حاضرة في التفاصيل
    سوريا في زيارة بايدن: غائبة عن الخطاب حاضرة في التفاصيل

في السنوات الأخيرة، استعرض العالم وجهين للإمبراطورية الأميركية؛ وجهاً كلاسيكيّاً يُشبه تاريخها القريب والبعيد، لم يبقَ منه سوى الصّوت العالي وبعض الأنياب التي نخرها السّوس، والتي لا تُخيف سوى من استمرأ الرعب واعتاده، ووجهاً واقعيّاً ملامحه واضحة، تعكس شيخوخة الجسد واضطرابه وارتباكه، مع صوت خفيضٍ يصدح بلغة الأيام الخوالي.

وإذا كان دونالد ترامب قد استطاع قبل سنوات قليلة أنْ يعكس صوريّاً الوجه الغابر للإمبراطورية، ولكن لا يمكن لأحد أنْ يختصر وجه أميركا الحقيقي هذه الأيام، ويعكسه في واجهةٍ آدميّة من لحمٍ ودم أكثر من رئيس الولايات الأميركية الحاليّ جو بايدن، الذي يحضر إلى منطقتنا هذه الأيام ممثّلاً لقوّة عالمية تدميريّة متهالكة، بالكاد تجرّ قدميها، في محاولة بائسة لإعادة ضرب القدم الوحشية في منتصف الأرض العربية، ومحاولة القول: إننا هنا. 

لم يستطع بايدن أن يكسب اللغة الأميركية بعض جبروتها المعتاد وهو يتحدث عن زيارته إلى الشرق الأوسط، فالحديث عن "إعادة" النفوذ الأميركي في المنطقة إلى سابق عهده هو إقرار بوجود تغيير كبير على هذا الصعيد، واعتراف بفقدان الكثير من عناصر قوة ذاك النفوذ وأدواته. 

صحيح أنّ سوريا غابت عن جلّ التصريحات الأميركية المتعلقة بالزيارة، إلّا أنّها حاضرة بقوة خلف كل كلمة وتصريح، وخصوصاً أنّ الكلام كلّه كان عن "إسرائيل" ودعمها و"دمجها في الإقليم"، وعن إيران و"خطرها" وضرورة مواجهته، وعن "تثبيت الهدنة في اليمن"، وملفات الطاقة المرتبطة بالحرب في أوكرانيا.

إنّ سوريا تقع في قلب كلّ هذا، بل هي ميدان رئيسيّ لكلّ هذا، وإنْ غابت عن اللغة، ذلك أنّ العالم استعرض بدوره في السنوات الأخيرة وجهين للمنطقة العربية والشرق الأوسط؛ وجهاً كلاسيكيّاً خانعاً ومُسيّراً يتلقى الأوامر بلا أدنى إرادة، ووجهاً صاعداً بكامل إشراقته وملامح قوّته.

وقد نُحِت الوجه الصاعد على الأرض الشاميّة بتضحيات السوريين، ومعهم كلّ من ذكرهم الأميركيّ وذكّر بهم باعتبارهم خطراً، وعلى رأسهم إيران وحركات المقاومة العربيّة، إلى جانب الروس الذين يقع اسمهم على رأس الأولويات الأميركية في هذه الزيارة وخارجها.

وإذا كان جاك سوليفان، مستشار الأمن القوميّ الأميركيّ، حدّد أولويات الزيارة في عدّة أهداف، أبرزها "التصدّي للخطر الإيرانيّ المتعدد الجوانب" على حدّ تعبيره، والسعي لدى "تل أبيب" والعواصم العربية التابعة للعمل بجدّ وبسرعة على دمج كيان الاحتلال في المنطقة العربية وبحث ملفات الطاقة بسرعة أكبر أيضاً، لمحاولة تعويض الغاز الروسيّ الذي يُهدّد الغرب كلّه بشتاءٍ اقتصاديّ وسياسيّ قارس، فإنّ جون كيربي، منسّق الاتصالات الاستراتيجيّة في مجلس الأمن القوميّ الأميركيّ، تحدّث عن هدف "الاستقرار الإقليميّ".

أما وزير الحرب الصهيونيّ، بيني غانتس، فقد استبق زيارة جو بايدن إلى "تلّ أبيب"، ليعلن عزم الأخيرة على حثّ الرئيس الأميركيّ وإدارته على الدفع بقوّة باتّجاه إنشاء قوة عسكريّة مع الشركاء في المنطقة (دول الخليج والأردن ومصر) لمواجهة إيران، من خلال نشر منظومات دفاع جويّ متطورة على حدود كل الدول العربية القريبة من دمشق وطهران، وهو أمر يخصّ الدولة السورية وشعبها بشكل مباشر. وقد سبق الحديث عنه والشروع في خطواته الأولى - زيارة بايدن - بالتنسيق التام مع البنتاغون والبيت الأبيض.

وفي حين يتحدث قادة كيان الاحتلال، كما قادة الكيانات العربية الخاضعة للإدارة الأميركية والإسرائيلية، عن خطر إيراني كبير من جهة سوريا، ويضيف الأتباع العرب العراق واليمن إلى قائمة الجبهات الإيرانية، فإنّ الزيارة، بأولويّاتها وأجندتها المعلَنة، هي تظهير رسميّ للمشروع الأميركيّ المستجد للمنطقة، والموجّه ضد دمشق والقدس وبيروت وبغداد (الحشد الشعبيّ) وصنعاء وطهران، وليست الأخيرة سوى الاسم الرسمي المُعتَمَد إعلاميّاً، الذي يضمّ في تفاصيله كلّ أعداء واشنطن وحلفها العربي وكيان الاحتلال المذكورين أعلاه.

لم يتطرّق جو بايدن في مقاله الذي سبق الزيارة، كما لم يفعل أعضاء إدارته، إلى الموضوع السوري، على الرغم من وجود قوات أميركية تحتل أجزاء من الأرض السورية، وتنهب بشكل يوميّ قمح السوريين ونفطهم وغازهم، وتدعم حركات انفصالية تسعى إلى تفتيت سوريا.

مع ذلك، يدرك السوريون أنّهم هدف رئيسيّ لزائر المنطقة ومستقبليه، فالمشروع الأميركيّ القديم الذي أراد خلق شرق أوسط "إسرائيليّ" جديد من دمشق، التي وجبَ إسقاطها وأخذها مُكبّلة ذليلة إلى "تلّ أبيب"، فشل في تلك الأرض، حيث العاصمة العربية الأخيرة في هذا الشرق التي ما تزال تقاوم، وهناك أيضاً تكمن القوة الرئيسية لمحور المقاومة وحلفائه.

وهناك "غرفة العمليات" التي تتصدّى وتقاتل وتُفشل المشاريع، وتوصل الأسلحة المتطورة إلى الجبهات الأمامية داخل فلسطين المحتلة، وهناك الامتداد الجغرافي والسياسيّ والمقاوِم للشواطئ السورية واللبنانية والفلسطينية التي تختزن كلّ كميات الغاز التي من شأنها أنْ تُشكّل طوق النجاة الأسرع للغرب المريض المترنّح أمام الضربات الاقتصادية الروسية والصينية، فكيف لا تكون سوريا في قلب الزيارة، وفي رؤوس أصحابها؟

لقد أفشلت سوريا المرحلة الأولى من المشروع الأميركيّ الحالي، وهي المرحلة التي تعهّدتها بعض العواصم الخليجية، بدفعٍ وتخطيط من واشنطن و"تل أبيب"، والتي هدفت إلى "استيعاب" سوريا المحاصرَة، من خلال عرض العرب لـ"جَزَرة" الخلاص خاصتهم، حيث المَنّ والسلوى والتعويم السياسي والإعلاميّ، وإعادة سوريا إلى الجامعة العربية، في مقابل طرد الخبراء الإيرانيين ووقف التنسيق العسكريّ والسياسيّ والاقتصاديّ بين البلدين، وبالتالي فكّ الحلف مع طهران، ووقف دعم حركات المقاومة في فلسطين المحتلة والإقليم، بل إنّ الإسرائيليين نفسهم تعهّدوا أمام وسيطهم العربي (الإماراتيّ) إقناع الولايات المتحدة الأميركية بسحب قواتها من الشرق السوريّ، وإعادة كلّ آبار النفط والغاز وحقول القمح إلى الدولة السوريّة.

لقد كان، وما يزال، مفتاح نجاح المشروع الأميركي برمّته، كما مفتاح فشله، يكمن في سوريا، لكن دمشق التي أنصتت جيّداً إلى الإماراتيين، ردّت بوضوح في طهران، حين زار الرئيس السوريّ بشار الأسد العاصمة الإيرانية، وأعلن من هناك بوضوحٍ شديد مع حلفائه الإيرانيين أنّ مشروع المقاومة والتحرير والتحرّر السياسيّ والاقتصاديّ هو الأولويّة الوحيدة حاليّاً للعاصمتين.

وحين أدركت واشنطن وحلفاؤها في "تلّ أبيب" وأدواتهما العربيّة أنّ هذه المرحلة سقطت بالضربة السوريّة القاضية، اضطرّت إلى العودة بخطوات بايدن المتثاقلة إلى المنطقة، لتشرع في محاولة تقديم الخطة البديلة بما أضافته إليها المواجهة العالمية في أوكرانيا، والتي تقوم على نسق واحد فقط، هو نسق "العصا"، ومستويات الأمن والقوة العسكريّة والحصار الاقتصاديّ، وهو ما دفع العدو الإسرائيليّ إلى تصعيد اعتداءاته على الأراضي السوريّة في الأشهر الأخيرة، ودفع لاحقاً قادة الدول العربية ذاتهم إلى التصعيد الإعلامي والسياسيّ في دمشق، والعودة إلى اللغة السابقة التي ترفض أيّ تقارب مع سوريا.

لقد أعلن أكثر من مسؤول سعودي وقطريّ رفيع في الأيام القليلة الماضية رفض بلاده عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وبالتالي تعطيل أيّ اجتماع عربي لبحث أوضاع البلدان العربية، وعلى رأسها سوريا، في الوقت الذي تمكّن الرئيس الأميركي بسهولة شديدة من دفع هؤلاء العرب إلى الإعلان عن عقد قمّة "مجلس التعاون الخليجيّ" بحضور مصر والعراق والأردن، تحت رعاية بايدن وبحضوره المباشر خلال زيارته للمنطقة التي ستشمل زيارة رئيسية للسعودية.

في قمّة "الناتو" الأخيرة التي عُقدت في العاصمة الإسبانية مدريد، أعلن قادة الناتو أنّ روسيا أصبحت التهديد المباشر للحلف، وأنها لم تعد شريكاً أبداً، وأنّ من الضروريّ إيجاد بديل سريع من موارد الطاقة الروسيّة.

وهنا تحديداً يكمن أحد أهمّ الأسباب التي دفعت العجوز الأميركيّ إلى تكبّد عناء الزيارة إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث الكثير من الغاز والنفط الذي يمكنه أنْ يُنقذ الجميع في الغرب، لكنّ الأميركيّ لم يخبرنا كيف سينجح في خطّة النهب هذه، في الوقت الذي تربض الطائرات الروسية على بُعد عشرات الأمتار من شواطئ المتوسط السوريّة، وتجول السفن العسكريّة الروسيّة والسوريّة داخل تلك المياه الدافئة، ويعلن الروس لحلفاء الولايات المتحدة في الشرق السوريّ أنّ الهدف الأول لدمشق وموسكو وحلفائهم في سوريا حاليّاً، هو طرد أميركا من الشرق السوريّ، وفي الوقت الذي تستعد طهران ودمشق وموسكو لأسوأ احتمالات المواجهة الكبرى على مستوى المنطقة، ويُعلن سيد المقاومة من بيروت معادلة المقاومة الجديدة المتعلقة تحديداً بهذا الملفّ المهم أميركيّاً وإسرائيليّاً غربيّاً، حيث "كاريش وما بعد ما بعد كاريش".

الجدير بذكره هنا أنّ هذه التحركات الأميركية النشطة والاستعراضية في المنطقة، والتي تحاول واشنطن من خلالها إعادة تعويض بعض الخسائر في وجه أعدائها، وعلى رأسهم روسيا والصين وإيران وقوى محور المقاومة، لا تستند إلى أيّ أسس قويّة في الواقع.

ويبدو أنّ النشاط المقابل الذي تقوم به القوى المعادية لواشنطن في الإقليم والمنطقة أكثر متانة وثباتاً، لأنه يتّكئ على أسس ميدانية قوية على مختلف الجبهات، فالحراك الروسيّ الإيرانيّ باتّجاه أنقرة قد يُفضي إلى نتائج أكثر فائدة لجميع الأطراف، وهو ما ستكشفه زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران، بعد أنْ يصلها في زيارة رسمية الأسبوع القادم، وخصوصاً أنّ بوتين قد لا يكون الضيف الوحيد على طاولة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسيّ، ومن المحتمل أنْ يوافيه الرئيس التركيّ إلى هناك.

من جهة أخرى، إنّ الدول الخليجية ذاتها، والتي جرّبت مؤخّراً الدخول في مفاوضات مع الإيرانيين، وبلغت فيها مراحل متقدمة من النجاح، لن تحتمل في المدى المنظور مغامرات أميركية جديدة مُكلفة جدّاً للخزائن الأميرية والملكيّة، في الوقت الذي تتقدّم روسيا والصين في مختلف الميادين، وتحاصر الغرب الذي أراد حصارها، وفي الوقت عينه الذي تقوم واشنطن ذاتها بالتفاوض مع طهران لإعادة إحياء الاتفاق النووي، فيما يشهد كيان الاحتلال أزمة سياسية أدّت إلى اعتزال رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت الحياة السياسية. 

لذلك كلّه، من المرجّح ألّا تُفضي زيارة بايدن إلى المنطقة إلى أيّ نتائج كبيرة تُذكر، وهو الأمر الذي سيأخذ المنطقة إلى أحد طريقين: إمّا العودة الحثيثة إلى المفاوضات مع إيران والتقارب السريع مع روسيا ومع سوريا بالضرورة، وذلك على وقع اضطراب الثقة بقدرات واشنطن والغرب أمام روسيا والصين، وإمّا نجاح الإسرائيليّ في دفع العرب إلى المضيّ في الخطة الإسرائيلية الرامية إلى التصعيد مع طهران وسوريا وقوى محور المقاومة، وبالتالي فإنّها الحرب.

وفي الحالين، ستخرج سوريا منتصرة مع حلفائها، لأنّهم الأكثر استعداداً لتلك الحرب، والأكثر تحمّلاً للقتال، ولأنهم، ببساطة شديدة، بلغوا تلك النقطة التي باتت فيها "الحرب أشرف بكثير"، على حدّ تعبير سيّد المقاومة في خطابه الأخير مساء الأربعاء الفائت.