صراع الفصائل في الشمال السوري: تأهيل الجولاني للمشروع التركيّ الجديد
اللافت في أحداث الأسبوع الأخير المهمة جدّاً، هو الصمت التركيّ التام عمّا يجري على الأرض، ما يوحي برضى أنقرة عن توسّع "هيئة تحرير الشام" في اتّجاه أرياف حلب على حساب فصائل أخرى يتبع بعضها لأنقرة نفسها.
-
صراع الفصائل في الشمال السوري: تأهيل الجولاني للمشروع التركيّ الجديد
على الرغم من خضوع جلّ الفصائل العسكريّة والجماعات الإرهابيّة المسلّحة في الشمال السوريّ، للرعاية والإدارة التركية على نحو مباشر، بوجود نفوذ أميركيّ متداخل ومتفاوت التأثير لدى بعضها، إلّا أنّ أخبار اقتتال هذه الفصائل فيما بينها، لا تكاد تغيب حتى تعود إلى الواجهة من جديد، وذلك بذرائع وأسباب كثيرة، بعضها داخليّ بحت ومتعلّق بالسعي للسيطرة على موارد تلك المناطق ومصادر الثروات والتمويل فيها، لكنّ الأسباب جميعاً من دون استثناء، توصِل إلى تنفيذ أجندات خارجية، تركيّة أو أميركية أو إلى كليهما معاً، بهدف السعي لخلط الأوراق في الميدان، وتحقيق نقاط ومكاسب جديدة يُمكن استخدامها كأوراق ضغط على طاولات المفاوضات السياسية بين أطراف الصراع في الميدان.
وإذا كانت الاشتباكات الأخيرة التي أدّت إلى دخول "هيئة تحرير الشام" الإرهابية (جبهة النصرة سابقاً) التي يقودها أبو محمد الجولاني مدينة عفرين قد بدأت باتّهام "فرقة الحمزة"، القريبة من جماعة الجولاني والعاملة بإمرة الاستخبارات التركية، بقتل ناشطٍ إعلاميّ وزوجته في مدينة "الباب" الواقعة في ريف حلب الشماليّ، أي في المنطقة التي تقع تحت سيطرة "الجبهة الشامية" المكوّنة من فصائل عدة ومجموعات متعددة الولاء والتمويل، والتي أفضت إلى استنجاد فرقة "الحمزة" بالجولاني بعد هجومٍ كاسح تلقّته الأخيرة من قوات تتبع لما يُسمّى "الجيش الوطني السوريّ" الذي شكّلته أنقرة قبل نحو عامين، إلّا أنّ هذه "التهمة"، لا تعدو كونها ذريعة أو شرارة جرى الانطلاق منها لتنفيذ مخطط أكبر تتقابل فيه واشنطن وأنقرة هذه المرّة، ولكلّ منهما غاياته وأهدافه. فمن جهة، تريد أنقرة إلغاء بعض الفصائل بالقوة عن طريق دفع الجولاني وجماعته إلى القضاء عليها والتوسع على حسابها، أو دفع بعض الفصائل إلى الرضوخ للأمر الواقع والذوبان في "هيئة تحرير الشام" التي يسعى الأتراك لتقديمها إلى العالم باعتبارها خلاصة "المعارضة السورية المعتدلة".
وتريد أنقرة الضغط على بعض تلك الفصائل كي تصبح جاهزة للانخراط في التسوية المحتملة التي يجري التفاوض عليه منذ فترة مع طهران وموسكو، والتي من المنتظر أن تتظهّر قريباً على شكل انفراجات في العلاقات التركية السوريّة، وربما الوصول إلى مصالحة سياسية وميدانية برعاية ثنائي "أستانا" القويّ في المنطقة، والصاعد على مستوى العالم. تلك التسوية التي من المنتظر أنْ تؤدّي إلى وصول المؤسسات الحكومية السوريّة إلى المعابر على الحدود التركية، وإدخال المساعدات الدولية عبر الجانب الحكومي السوريّ تحديداً، وهي النقطة التي شهدت صراعاً روسيّاً أميركياً قويّاً من أجلها في الأمم المتحدة خلال الأعوام الأخيرة.
وفي هذا السياق تحديداً، بلغت ضغوط أنقرة أخيراً مرحلة التضييق الاقتصاديّ والمعيشيّ والخدميّ الممنهج للمناطق الواقعة تحت سيطرة "الجيش الوطني"، التي تديرها "الحكومة الموقتة" التي أقامتها أنقرة وواشنطن قبل أعوام كواجهة سياسية للمعارضة السورية والفصائل المسلحة المنخرطة في مشروعهما المعادي للدولة السوريّة، حيث عمدت أنقرة إلى إيصال الأموال القطَريّة إلى مؤسسات وفصائل المعارضة في تلك المناطق، بالقطّارة، ما أدى إلى بروز فشل كبير في بضعة قطاعات خدمية، ومنها القطاع التعليميّ والقطاع الصحيّ اللذان شهدا إضرابات عديدة بين كوادره في الآونة الأخيرة، بسبب عدم تسلّمهم رواتبهم خلال الشهرين الأخيرين.
أما أنقرة فعمدت إلى ضخّ الأموال في قطاع البناء على وجه التحديد، بهدف إنجاز تقدّم كبير في بناء الشقق والبيوت السكنية بغية تسريع مشروع إعادة أكبر عدد من اللاجئين السوريين من تركيا، وذلك قبل الوصول إلى الاستحقاق الانتخابيّ التركي المقبل، وهو المشروع الذي يُشكّل واحداً من أهمّ أهداف الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان الداخليّة في الوقت الحاليّ.
ومن جهة مقابلة، تريد واشنطن من خلال دفعها "الحكومة الموقتة" وبعض الفصائل المحسوبة عليها إلى المواجهة وخلط أوراق الميدان في تلك المنطقة في وجه أنقرة، إلى تعطيل المساعي الروسية الإيرانية الهادفة إلى الوصول إلى تسوية مع أنقرة، وإحداث التقارب السوريّ التركيّ، وهو ما ترى فيه واشنطن خطراً على مشروعها في سوريا، وانتصاراً جديداً لموسكو التي تخوض معها حاليّاً صراعاً محتمداً على المستوى العالميّ انطلاقاً من أوكرانيا، وترى أنّ سوريا هي أحد ميادينة الهامّة.
وعلى هذا الصعيد، لم تقتصر رسائل واشنطن السوريّة على صندوق البريد التركيّ في الشمال، بل أوصلت رسالة قوية أخرى إلى دمشق وموسكو وطهران وأنقرة معاً، في أقصى الشرق السوريّ، حين أعلنت أخيراً توسيع مطار قاعدة "خراب الجير" في منطقة الرميلان النفطية، وهبوط أول طائرة شحن عسكرية كبيرة على مدرجه الجديد، تنقل معدات وأدوات عسكرية ونفطية، في رسالة مفادها "أننا باقون هنا" إلى وقت طويل، وأنّ أي خطة للانسحاب ليست موضع نقاش داخل أروقة المؤسسات الأميركية العسكرية والاستخبارية والسياسية في الوقت الحاليّ، وأنّ دعم الكرد و"قسد" قائم وسيشهد تطوّراً في الفترة المقبلة.
وقد أكّدت واشنطن رسالتها تلك من خلال مبرّر ميدانيّ، تمثّل في إعلانها استهداف قياديين بارزين في تنظيم "داعش" الإرهابيّ في منطقة جرابلس الواقعة في منطقة النفوذ التركيّ في الريف الحلبي الشرقيّ. لكنّ ردّ محور دمشق على رسالة "الرميلان" الأميركية لم يتأخّر كثيراً، حيث أعلنت "القيادة الوسطى للقوات الأميركية" في بيان صدر عنها قبل نحو أسبوعين، أنّ قاعدة الرميلان (مطار خراب الجير) قد تعرّضت لقصف صاروخيّ (وصفه البيان بالفاشل)، وبينما أكّد البيان أنّ الصواريخ سقطت في محيط القاعدة، تفيد معلومات مؤكّدة من الشرق السوريّ، بأنّ بعض الصواريخ قد سقطت داخل حرم المطار فعلاً، مخلّفةً أضرار مادّية في المباني والمنشآت داخل المطار، من دون أيّ تأكيد لسقوط قتلى بين جنود الاحتلال الأميركيّ.
وبالعودة إلى التفاصيل الميدانية في الشمال السوريّ، فقد تعرّضت "فرقة الحمزة" التي تتمركز في مدينة "الباب" في ريف حلب الشماليّ الشرقيّ لهجوم واسع من قوات "الجبهة الشامية"، أدى إلى خروج "الحمزة" من المدينة تحت النار بعد تكبّدها خسائر فادحة، ليستمر القتال خارج المدينة وتتدخّل فيه فصائل جديدة تابعة لما يُسمّى "الجيش الوطنيّ"، ما أدى إلى تحرّك قوات "هيئة تحرير الشام" في اتجاه الريف الشمالي الشرقيّ، في فرصة وجدها الجولاني سانحة وعظيمة لتحقيق مآربه ( وأهداف أنقرة) وبسط سيطرته على عموم المنطقة في ريف حلب المتّجه نحو إدلب والحدود التركية والشرق في اتّجاه مدينة عفرين، آمِلاً الوصول إلى جرابلس.
وعمد الجولاني إلى الاتصال فوراً بعدد من قادة الألوية والفصائل هناك لاستمالتها وضمّها إلى "الهيئة"، أو على الأقل، ضمان دخولها تحت مظلّة الهيئة والعمل تحت قيادتها، ومن هذه الجماعات، "لواء السلطان مراد"، وحركة "أحرار الشام"، و"فرقة الحمزة" نفسها.
تلك الاجتماعات أفضت إلى تحرّك كتائب الهيئة في اتّجاه عفرين، وخوضها معارك شرسة في وجه فصائل "الجيش الوطني" التابع لـ "الحكومة الموقتة"، وقد أفضت هذه المعارك إلى بلوغ قوات الجولاني مدينة عفرين، ودخولها عنوة بعد انسحاب "الفيلق الثالث" التابع لـ"الجيش الوطني" من المدينة.
وعلى الرغم من إعلان بضعة أطراف في "الحكومة الموقتة" استمرار "مؤسساتها" في إدارة شؤون المدينة، إلّا أنّ المعلومات تفيد بأنّ الجولاني قد بدأ بإرسال أجهزته الأمنية والخدمية لتسلّم المدينة وإدارتها. لكنّ الأمر لم ينتهِ بعد، فقد استقدم "الفيلق الثالث" تعزيزات كبيرة إلى محيط مدينة عفرين (منطقة كفر جنّة القريبة من المدينة) لقتال الجولاني وردّه عن المنطقة، وذلك بعد فشل وساطات عديدة أجريت بين الطرفين، بسبب إصرار الجولاني على وجوب إدارته للمدينة وسيطرته عليها سيطرة تامة، وضرورة توجّه جميع الجماعات المسلحة هناك إلى جبهات القتال مع الجيش العربي السوريّ، في الوقت الذي يبدو التخبّط والضياع جليّاً على تصريحات شخصيات المعارضة التابعة لـ"الحكومة الموقتة"، التي تتناقل وعوداً أميركية وتركية على السواء، بعيدة جدّاً عن واقع الحال في الميدان، الذي يبدو فيه الجولاني هو الشخصية الأقوى على الأرض هناك.
اللافت في أحداث الأسبوع الأخير المهمة جدّاً، هو الصمت التركيّ التام عمّا يجري على الأرض، ما يوحي برضى أنقرة عن توسّع "هيئة تحرير الشام" في اتّجاه أرياف حلب على حساب فصائل أخرى يتبع بعضها لأنقرة نفسها، فيما يعمل بعضها الآخر وفق الأجندة الأميركية، ما يحيله كثير من المراقبين المحليّين إلى رغبة أنقرة في اعتماد الجولاني كوكيل وحيد لها في المنطقة، باعتباره يقود إحدى أقوى وأكبر القوى المسلّحة هناك، ولكونه يسير في المشروع التركيّ وفق مخطط أنقرة الدقيق للمستقبل القريب المتعلّق باللاجئين ورعاية المصالح التركية على الوجه الأكمل، وربما الدخول في أي تسوية محتملة وقريبة تريد أنقرة فرضها على عملائها في الشمال، خصوصاً أنّ الجولاني قد وجد مصلحة له في السير في هذا الرّكب التركيّ، حيث من المفترض أنْ يضع يده على موارد مالية واقتصادية كبيرة في المنطقة، وهذا لا يُفسّر الصمت التركيّ عن الاقتتال الدموي الأخير فحسب، بل يكشف عن يدٍ تركيّة قويّة دفعت الجولاني نحو القيام بعمليته العسكرية تلك، وهو ما يردّده عدد من المحللين والناشطين السوريين العاملين في الشمال، حيث بدأ هؤلاء بكيل الاتّهامات لأنقرة ورئيسها إردوغان، الذي كان في نظرهم، حتى الأمس القريب القائد الملهم والمنقذ.
أمّا على الجبهة الوطنية السوريّة، فقد أوصلت دمشق رسالتها الواضحة صباح الأحد في 16 من هذا الشهر، إلى جميع قوى الأمر الواقع في الشمال السوري، حيث تعرّضت الجماعات المسلّحة المتمركزة في محيط مدينة عفرين (منطقة كفر جنة)، ومحيط بلدة "أطمة" قرب مدينة "إعزاز" في ريف حلب الشمالي الشرقيّ، لسلسلة ضربات جوية أسفرت عن سقوط عدد من القتلى والجرحى في صفوفهم.