مستقبل الصراع في أوكرانيا.. محاولة لاستشراف المستقبل
ما هي السيناريوهات والاحتمالات القائمة لمسار هذا الصراع، في المديَين القريب والبعيد؟
-
ما هي السيناريوهات القائمة لمسار هذا الصراع؟
استخدامنا وصف هذا الصراع بأنه في أوكرانيا، مجرد تعبير مجازي عن صراع أعمق وأشمل، بحيث بات يشمل الكرة الأرضية بكاملها، حتى لو كان مسرح عملياتها المباشرة، العسكرية والسياسية، يقع في قلب أوروبا.
وبدا من عرضنا جوانب هذا الصراع، في متابعاتنا ومقالاتنا السابقة، والتي استمرت منذ اندلاع نيران العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، في الرابع والعشرين من شباط/ فبراير حتى يومنا هذا (انظر مقالاتنا الاثنتي عشرة في موقع الميادين نت من الـ22 شباط/فبراير 2022 حتى الـ15 من أيار/مايو 2022)، مدة هذا العمق وهذا الاتساع الجيو- بوليتيكيَّين، من ناحية، والجيو- استراتيجيَّين، من ناحية أخرى.
فالمساحة الجيو – سياسية الأوكرانية تحولت إلى مجرد ميدان للرماية وضرب النار، وفق المعنيَّين التكتيكي والميداني، بينما المعارك وصنوف الحرب المتعددة (الاقتصادية – السياسية – الإعلامية – الفكرية – الثقافية – الرياضية... إلخ) أصبحت شاملة كلَّ المعمورة، كما يتوقف على نتائجها وتداعياتها، شكل العلاقات الدولية وطبيعتها، وهيكل القوى العالمية، وقواعد القانون الدولي الجديد، وربما هيكل المنظمات الدولية وطريقة عملها.
من هنا، لا بد من أن ينشغل العقل السياسي والاستراتيجي بصورة عامة، والعربي بصورة خاصة، بتداعيات هذا الصراع الضاري من جهة، ومساره الراهن ومساره المستقبلي من جهة ثانية، وتوقعاته واحتمالاته، في ضوء التوقعات A foresight approach، الذي استُخدم لأول مرة منذ عام 1932 على يد H.G. Wells، ثم تطور بصورة أكثر انضباطاً منذ منتصف الأربعينيات إلى ما يُسَمّى علم المستقبليات Futurology بمعرفة البروفسير الألماني Ossip K. Flechtheim، كفرع جديد للمعرفة وكتطوير لعلم الاحتمالات (1).
فدراسات المستقبل Futures studies هي محاولة لامتلاك نظرة منهجية منظَّمة systemic، تستند إلى الوقائع والمعطيات المباشرة، وتأخذ في الاعتبار العوامل الاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية والبيئية والسياسية، والتنبؤ بملامح المستقبل؛ أي أن الدراسات المستقبلية يُقصَد بها الأسلوب المنظَّم والمعتمد على تحليل عناصر الماضي، ومعطيات الحاضر، من أجل التنبؤ بالمستقبل، مستخدماً في ذلك كلَّ الوسائل الرياضية والإحصائية والتاريخية من أجل التعرُّف إلى التغيرات المتوقعة في المستقبل.
وتُعرَّف أيضاً الدراسات المستقبلية Futurology بأنها المسارات التحليلية المجمَّعة عبر استخدام وسائل مهنية أو متخصّصة، من أجل وضع ملامح للتوقعات الاستراتيجية والمستقبل المحتمل.
وكان من أبرز هذه الدراسات وأشهرها ذلك التقرير الذي صدر عام 1972، وعُرِف باسم تقرير نادي روما، وحمل عنوان "حدود النمو" Limits to growth، وأعدّه عدد كبير من الخبراء والباحثين، كان من أبرزهم دونيلا ميدوز وودنيس ميدوز ويورغِن راندرز ووويليام بيهرنس ، ومعهم فريق مكوَّن من 17 باحثاً[2]، بالتعاون بين منظمة نادي روما ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وتضمّن محاكاة حاسوبية للنمو، اقتصادياً وسكانياً، عندما تكون الموارد محدودة.[3] وموّلت البحث مؤسسة فولكسفاغن، وعرضت نتائج الدراسة في اجتماعات دولية في موسكو، وريو دي جانيرو في صيف عام 1971. منذ نشر هذا التقرير، تم بيع ما يقرب من 30 مليون نسخة بثلاثين لغة،(4) ولا يزال التقرير محل جدال، ونُشر بشأنه كثير من المنشورات. ونُشر آخر إصدار محدَّث من التقرير عام 2004.[5]
وتزداد صعوبة الدراسات المستقبلية في ظل تحليل الصراعات العسكرية والاقتصادية والسياسية المركّبة، والتي تشارك فيها أطراف متعددة، بعضها بصورة مباشرة، وبعضها الآخر بصورة غير مباشرة، الأمر الذي يجعل عملية بناء السيناريوهات scenarios والاحتمالات من أصعب الدراسات وأكثرها تعقيداً.
بيد أن صراعاً، مثل الذي يجري أمام أعيننا اليوم في أوروبا، والذي يُختزل لفظياً باسم الحرب الروسية – الأوكرانية، أو الحرب في أوكرانيا، في كل تداعياتها على صعيد الوجود الإنساني، والعلاقات الدولية، وخرائط جيو – سياسية وجيو- استراتيجية جديدة، يستدعي بذل الجهد التحليلي، وقبول التحدي العلمي، في إطار تقديم رؤى قابلة للمناقشة والمناظرة على صعيد المفكرين والخبراء لاستشراف هذا المستقبل المكتنف بكثير من الغموض، والمسكون بعوامل التفجير.
وهنا يجب أن نشير إلى ملاحظتين منهجيتين في التعامل مع أسلوب السيناريوهات:
الملاحظة الأولى: أن السيناريوهات هي، في طبيعتها، أساليب تُتَّبَع في ظل:
1- نقص كبير في بعض المعلومات.
2- تعدد الأطراف المشارِكة في الظاهرة، وتنوع أوزانها النسبية، على نحو يؤدي إلى تعدد الاحتمالات.
3- عدم اليقين من نيّات بعض الأطراف أو الخصوم.
4- مراعاة عنصر المفاجآت.
الملاحظة الثانية: في عملية بناء السيناريوهات وتحليل المسار والمستقبل للصراعات الدامية، كتلك التي نشهدها في المسرح الأوروبي حالياً، يجب أن نراعي عدة عناصر أساسية، مثل:
- عنصر الزمن أو الوقت، الذي من المقدَّر أن تستغرقه الأزمة.
- عامل المساحة التي تجري فيها الحرب أو الصراع المتعدد الأوجه، واحتمالات توسُّعها.
- الأساليب والأدوات المستخدَمة في الصراع وتأثيراتها (العسكرية – الاقتصادية – الإعلامية – السياسية – الثقافية... إلخ).
- عامل التنظيمات المشاركة في الصراع، وتفاوت فعّاليتها (الناتو – البريكس – مجموعة شنغهاي – اتفاقيات التعاون الاستراتيجي الصيني والإيراني والروسي... إلخ).
ووفقاً لأحد أبرز القادة في روسيا، وهو السيد دميتري مدفيديف، الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، في أيار/مايو 2022، فإن الصراع الجاري في أوكرانيا أدّى إلى حدوث عشرة تغيُّرات كبرى في أوروبا والعالم، هي: ارتفاع معدل التضخم وارتفاع الأسعار غير المسبوق في كثير من دول التحالف الغربي وسائر دول العالم، والتأثر الضارّ لسلسلة الإمدادات الغذائية العالمية، ولسلسلة الطاقة من النفط والغاز، وارتفاع أسعارهما بصورة مفزعة، وتهديد تدفق مصادر الطاقة الروسية إلى أوروبا وسائر دول العالم، وانقطاع تدفق الحاصلات الغذائية الرئيسة، مثل القمح والزيوت الروسية والأوكرانية، والشكوك الراهنة في الوضعية والمستقبل للنظام المالي العالمي والخدمات المالية عموماً، وضرب هيمنة الدولار الأميركي، كعملة للمعاملات الدولية والاحتياطيات النقدية في العالم. وكذا، فإن القرصنة الأميركية والأوروبية لودائع النقد الروسي واحتياطياته في بنوك هذه الدول، وتجميد الأصول والاستثمارات الروسية الحكومية والخاصة بمستثمرين ورجال أعمال روس في هذه الدول، والتي تتجاوز قيمتها خمسمئة مليار دولار على الأقل، أنهيا بصورة شبه نهائية أيّ ثقة بالنزاهة والقانونية لهذا النظام المصرفي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والدول الأطلسية. وبالمثل، فإن الإجراءات العقابية – غير الشرعية من منظور القانون الدولي – وانصياع المؤسسات المالية والتمويلية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومؤسسة التمويل الدولية، وبنك التسويات الدولية، وغرف التحكيم الدولي، ومنظمة التجارة الدولية، كلها كشفت عن نفسها – ربما للمرة الألف – أنها مجرد أدوات في أيدي الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا. وكلها تعطي إشارات لا تُخطئها العين لدى صُنّاع السياسات في الصين والهند، وربما بعض دول الخليج النفطية، وسائر دول العالم.
فما هي السيناريوهات والاحتمالات القائمة لمسار هذا الصراع في المستقبل القريب والمستقبل البعيد؟
الحقيقة أن هذا الصراع الدموي المعقَّد، في أبعاده المتعددة، يسير في أحد الاحتمالات أو السيناريوهات scenarios الخمسة التالية:
السيناريو الأول: أن تضع العملية العسكرية في أوكرانيا أوزارها قبل نهاية شباط/فبراير المقبل (2023)، فتكون القوات الروسية حققت أهدافها الاستراتيجية التي أشرنا إليها من قبلُ، والمتمثّلة بالسيطرة تماما على شواطئ بحر أزوف والبحر الأسود (خط ميرنوبل – أوديسا)، وتحويل ما بقي من جغرافيا أوكرانيا إلى دولة حبيسة تماماً، وتدمير الآلة العسكرية الأوكرانية، وتجفيف منابع الجماعات النازية، ووقف تهديدها لسائر المساحات المحرَّرة من شرقي أوكرانيا وجنوبيّها ووسطها.
والحقيقة أن هذا السيناريو مرهون تحقيقه بتوقيع النظام الحاكم في أوكرانيا اتفاقيات سلام، مضمونة بأطراف دولية أطلسية والصين. ونظنّ أن هذا محل شك كبير بسبب رغبة الولايات المتحدة في إطالة أمد هذا النزاع، واستنزاف روسيا الاتحادية أطولَ فترة ممكنة.
السيناريو الثاني: أن تحقق روسيا الاتحادية بعض أهدافها، وأهمها تحويل أوكرانيا إلى دولة حبيسة، وضمان سلامة الجمهوريات السابقة في شرقي أوكرانيا وجنوبي شرقيها، وتنظيم استفتاء على مستقبلها، مع استمرار النزاع العسكري الروسي – الأوكراني مستمراً ومنخفض الحدة، سواء بدوافع للمجموعات النازية الداخلية في أوكرانيا، أو بطلب وتوجيه من الولايات المتحدة والقوى اليمينية الحاكمة في بعض دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا وسلوفاكيا وغيرهما.
ومن دون التوصل إلى اتفاق سياسي لتسوية النزاع.
السيناريو الثالث: أن يستمر النزاع العسكري الروسي – الأوكراني مرتفع الحدة، أكثر من مدة العام المقدَّرة لانتهاء روسيا من تحقيق أهدافها، الأمر الذي سيُجبر روسيا على توسيع نطاق عملياتها والوصول إلى العاصمة كييف، وإسقاط النظام النازي في هذا البلد. بيد أن ذلك السيناريو مصحوب بكثير من المخاطر. فاحتلال القوات العسكرية الروسية لهذا البلد يعني عدم وجود أيّ ضمانات لتحويل هذا الوجود إلى قوة أحتلال أجنبي قد تدفع حركات مقاومة وحرب عصابات محلية ضد هذه القوات المحتلة، وهو أسوأ السيناريوهات التي قد تتعرض لها روسيا خلال هذا النزاع، الذي قد يستمر على هذا النحو أعواماً طويلة، مكرِّرة تجربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
السيناريو الرابع: يُعَدّ السيناريو الرابع مزيجاً من السيناريو الثالث، السابق عرضه، مضافاً إليه التأثيرات العكسية لاستمرار هذا الصراع الروسي – الأوكراني أكثرَ من عام، في دول الاتحاد الأوروبي ذاتها، واحتمالات تفكك روابطه، وخصوصاً لدى دول ترى أن هذا الصراع الضاري كان حاجة أميركية وبريطانية أكثر من كونه ضرورة أوروبية. وهو شعور يتنامى لدى دول وشعوب، مثل ألمانيا وفرنسا والمجر وتركيا، وربما إيطاليا، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تفكك الموقف الأوروبي الموحَّد تجاه الحرب، والموقف المتعنت تجاه روسيا.
السيناريو الخامس: مع استمرار حدة الصراع العسكري في المسرح الأوكراني، أو ما بقي منه جيو - سياسياً، فإنَّ المرجَّح أن تنشط المبادرات السياسية السرية أو العلنية من بعض الدول الأوروبية أو الصين وربما الهند، من أجل البحث عن مخارج مقبولة، وطرح أفكار تؤدي إلى وقف العمليات العسكرية الروسية عند حدود ما وصلت إليه وحداتها، الأمر الذي غالباً سيكون بعد تجاوز نهر دنيبرو والسيطرة على خاركوف، من دون أن الوصول إلى العاصمة كييف. وبدأت فعلاً، في الأسبوع الأخير من شهر أيار/مايو، بمبادرة إيطالية، وُصفت من الجانب الروسي بأنها دون المستوى المأمول، من دون أن تلقى قبولاً من جانب المجموعات الحاكمة في كييف. والأرجح أن تأتي المبادرات التالية بصيغة شبه جماعية، أي مقدَّمة من أكثر من طرف، عبر الاتصالات الدبلوماسية الحثيثة (الصين ألمانيا، تركيا، الهند، فرنسا وبعض الدول الأوروبية... إلخ) مع قبول أميركي على مضض، خشية تضعضع التحالف الأورو - أطلسي.
وهذا هو الأرجح من أجل البحث عن صيغة للخروج الآمن للقوات الروسية حتى شرقي نهر دنيبرو، وبدء مفاوضات تحفظ ما بقي جيو سياسياً من أوكرانيا. والمؤكَّد أنه من دون تحرير القوات الروسية مدينةَ أوديسا وميناءَها، وقبل ذلك الاحتفاظ بأقليم خيرسون، لن تقبل القيادة الروسية أيّ تسوية. فهذا هو الحد الأدنى المقبول روسياً، بالإضافة بالطبع إلى تحقيق المطالب الروسية الأخرى، مثل تحييد ما بقي من أوكرانيا عن الانضمام إلى حلف الناتو، والتخلص من المجموعات النازية ومن السياسة النازية لهذا البلد، وتحديد مستوى التسلح فيها. أمّا شبه جزيرة القرم فستكون خارج أي نقاش أو تفاوض.
بالطبع، إن هذه السيناريوهات أو الاحتمالات، أو بعضها، مجرد محاولات فكرية للوصول إلى تصور مستقبلي لأفق تسوية لصراع له انعكاسات عالمية، وستكون معالم المشهد العالمي وملامحه بعده مغايرةً تماما لما قبله.
الهوامش والمراجع
(1) https://en.wikipedia.org/wiki/Futures_studies
(2)^ "Symposium: Already Beyond? - 40 Years Limits to Growth"، Volkswagen Stiftung، 28 نوفمبر 2012، مؤرشف من الأصل في 1 كانون الأول/ديسمبر 2017، اطلّع عليه بتاريخ 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.
(3)^ MacKenzie, Debora (04 كانون الثاني/يناير 2012)، "Boom and doom: Revisiting prophecies of collapse"، New Scientist، مؤرشف من الأصل في 3 أيار/مايو 2015، اطّلع عليه بتاريخ 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.
(4) The University of Vermont، مؤرشف من الأصل في 2 كانون الأول/ديسمبر 2017، اطلع عليه بتاريخ 1 كانون الأول/ديسمبر 2017.
(5) ^ Meadows, Donella H.؛ Randers, Jorgen؛ Meadows, Dennis L. (2004)، The Limits to Growth: The 30-Year Update، White River Junction VT: Chelsea Green Publishing Co، ISBN 1931498512، مؤرشف من الأصل في 12 كانون الثاني/يناير 2020، اطّلع عليه بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.