"حزب الله" و"التيار الوطني الحر": "مش ماشي الحال"
يمكن أن لا يكون حليفُ حليفي حليفي، ويمكن أن لا يكون خصمُ حليفي خصمي، لكن أخطر ما يمكن أن يحصل بالنسبة إلى تفاهم "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" هو أن تبلغ النكايات حدّ التماهي مع الخصوم، وهو ما يحصل على نطاق واسع هذه الأيام.
-
"حزب الله" و"التيار الوطني الحر": "مش ماشي الحال"
في كلِّ حزب وتيار وحالة سياسيّة، هناك قلّة قليلة فقط تفكّر في سياق الأحداث على المدى البعيد، وتنشغل عن صخب الحدث اليومي المرئي بالبحث الهادئ في تكوين الحدث غير المرئي وتأثيره والتحسّب لما يمكن أن يحصل. الأكثرية في كلِّ مكان هي كتلة عاطفية بامتياز، تفترض أنَّ الزعيم هو الحقّ المطلق، ولا تنتظر في كلّ لحظة من الأقربين والأبعدين سوى غزل بهذا الزعيم أو تأييد مطلق له في مواقفه، بل غالباً ما يكون المطلوب مزايدة حقيقية وملموسة وواضحة، بحيث يفترض أن يفعل الخصم أو الحليف أو الصّديق ما لا يفعله الزعيم نفسه أو رئيس الحزب أو الحزبي؛ لا بدّ من أن تفعل أكثر مما تفعله الكتلة العاطفية نفسها، لترضى عليك وتمنحك بركاتها.
وغالباً ما تتمتّع هذه الكتلة العاطفية بقدرة هائلة (يصعب فهمها أو تفهّمها) على عزل نفسها عن الماضي والمستقبل حين يتعلَّق الأمر بمرجعيّتها السياسيّة، إذ يمكن أن تنسى آلاف المواقف المؤيدة للزعيم والداعمة له، والصادرة عن فلان، بمجرّد أن يصدر عنه موقف واحد ملتبس أو شبه سلبي، والعكس تماماً، إذ يمكنها أن تنسى آلاف المواقف المنتقدة للزعيم والداعمة له، والصّادرة عن فلان، بمجرد أن يصدر عنه موقف واحد إيجابي.
من حركة "أمل"، إلى "الحزب الاشتراكي"، إلى "التيار الوطني الحر"، إلى "المستقبل"، إلى "حزب الله"، إلى "الكتائب"، إلى "القوات"، يخطِئ من يعتقد أن الرياضيات هي التي تتحكّم بسلوك المحازبين، أو حسابات الربح والخسارة على المدى الطويل، أو التفكير في غدٍ أو بعده.
الأكثرية في هذه الأحزاب وغيرها لا تفكر سوى في اللحظة الآنية: كلٌ يفكّر في ما سيقوله له جاره، وإذا كان سيتمكن من "بخعه" أو لا، وبما يفترض أن يكتبه على "فيسبوك"، وعدد "اللايكات" التي سيحصل عليها. الأكثرية هي كتل عاطفية، لا تؤيّد المرجع السياسي، إنما تعشقه عشقاً، ويمكن أن تطلب بكلّ صدق ووضوح في لحظة من الحوار معها وضع المنطق جانباً، فهي تريد أن تسمع في كل لحظة ودقيقة أن زعيمها على حقّ، بمعزل عن كلّ الفلسفة ومضيعة الوقت المتعلقة بالأدوات اللازمة لتحقيق الأهداف والقدرات والحسابات المنطقية والعقلانية والواقعية والأحجام وغيرها.
ما سبق يحكم الكثير من سلوكيات الجماهير، ويسمح بتفهّمها، ويشرح سرّ ازدياد قوة الزعماء حين يوحي المنطق بأنَّهم ضعفوا أو تراجعوا؛ فالكتل العاطفيّة تزداد تماسكاً حين يمرّ أحد الطرفين بمحنة، لا العكس، إلا أنَّ الأهمّ في ما سبق هو تأثير هذا التكوين العاطفيّ للمحازبين في هذه الأيام في تفاهم "التيار الوطني الحر" و"حزب الله".
في سنوات التفاهم الأولى، كان كلٌّ من هاتين الكتلتين العاطفيتين منبهراً بزعيم الآخر من جهة، وكان يشعر بأنّ التّحالف يكسر عزلته من جهة ثانية؛ ففي موازاة الحرب السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة، وحتى الاجتماعيّة والدينيّة، على الحزب ومعتقداته، بُعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وكلّ شيطنة العام 2009، كان ثمة عزل ممنهج للعونيين منذ أن حاولوا إبعادهم عن منصّة "ثورة الاستقلال"، مروراً بالاتفاق الرباعي، وصولاً إلى حكومة فؤاد السنيورة.
كان يُفترض أنَّ الفريقين المعزولين ليس لأحدهما إلا الآخر، لكن "حزب الله" التفَّ على هذا العزل الداخليّ بتوسع خارجيّ استثنائيّ كان يستحيل توقّعه أو تصديقه. وبموازاة كسر الحزب كلّ الأطواق المفترضة، كان التيار أيضاً يتجاوز محاولات حصاره الدّاخليّة، سواء عن طريق معراب أو بيت الوسط أو غيرهما، لكن سرعان ما اختلَّ هذا التوازن حين تقاطعت جهود داخليّة مع أخرى إقليمية ودولية لإعادة تطويق العونيين وعزلهم وفرض عقوبات على رئيسهم، بحيث باتوا يشعرون بأنهم في زاوية الزاوية، فيما ترى كتلتهم العاطفية أن الحزب "يُفرعن" في المنطقة. ومع انتهاء العام 2020، كان التيار يواجه أكبر عزلة في تاريخه، فيما يحتفل "حزب الله" بأكبر انفلاش في تاريخه.
وفي وقت كان العونيون يعانون الانكسار في المعادلة الداخلية، كان الحزب يحتفل بفرض معادلات إقليمية جديدة، مع التذكير دائماً بأنَّ الكتل العاطفية لا تفكّر في انعكاسات المعادلات الإقليمية الجديدة - مستقبلاً - على المعادلة الداخلية. الكتل العاطفية لا تفكّر في إسقاط الحدث الفلسطيني الأخير لـ"صفقة القرن" والتوطين وغيره على المدى البعيد، إنما تسأل في لحظة الحدث عن مردود ما يحصل عليها الآن، وليس غداً.
وهكذا، كان الشعور بفائض القوة عند كتلة الحزب العاطفية يقابله شعور بناقص قوة عند كتلة العونيين العاطفية. لم تعد بيئة التحالف متجانسة. ثمة اختلال هائل في المشاعر و... الاهتمامات. ففي لحظة، كان الجمهوران يتظاهران جنباً إلى جنب ضد حكومة فؤاد السنيورة. كان ذلك هماً مشتركاً وقضية مشتركة وعناوين سياسية يومية مشتركة. لاحقاً، تقاطعا قليلاً عند المحكمة الدولية، ثم مليارات السنيورة، ثم محاربة التكفير.
وفي وقت كان العونيون يخوضون غمار الرد الممل على "فلان وعلان" هنا، كان جمهور الحزب يبتعد عنهم صوب معارك جديدة أكبر وأوسع. وفي وقت كانت الكتلة العاطفية العونية تنتظر خطابات الأمين العام لتتزود بالمعنويات، باتت الخطابات تمر على لبنان مرور الكرام، مع حرص هائل على إخماد الحرائق والتهدئة، بدلاً من نصرتهم على خصومهم.
اللافت والمهم جداً أن الكتلة العاطفية العونية بقيت تستنفر كلّ قدراتها للرد والدفاع والهجوم، حين يتهم "حزب الله" بتفجير المرفأ مثلاً، لشعورها بأن أي تهديد إعلامي أو سياسي لحليفها، إنما هو تهديد لها، فيما لا تبالي ماكينة الحزب أبداً بكل ما يتعرض له التيار من هجوم، بل تتطور اللامبالاة غالباً إلى تماهٍ مطلق.
يكفي في هذا السياق متابعة الإعلام الرسمي لـ"حزب الله" لاكتشاف حجم الانسجام في طرح الأسئلة مع كل دعاية خصوم التيار، مع الأخذ بالاعتبار أن ماكينة الحزب أظهرت قدرات كبيرة في الرد على الإشاعات حين يتعلق الأمر باتهامات لـ"حزب الله"، لكن هذه الماكينة تنكفئ بالكامل حين توجه الاتهامات إلى باسيل، بعكس ماكينة العونيين التي تعمل بالحماسة نفسها حين يتعلَّق الأمر بالتيار أو "حزب الله".
المؤكّد هنا أنَّ عاطفة الكتلة العونية تجاه "حزب الله" أكبر بكثير من عاطفة كتلة الحزب تجاه العونيين. وهنا، لا بدّ من إضافة مهمَّة: بالنسبة إلى العونيين، كان "حزب الله" أول حليف سياسي حقيقي يتفاهمون معه، وفعلياً آخر حليف، بحكم انتهاء تفاهماتهم الأخرى (مع "المستقبل" و"القوات") قبل أن تبدأ. أما كتلة الحزب، فهي توزع عاطفتها على عدد كبير جداً من الحلفاء في الداخل والخارج، ونحن هنا أشبه بحبيب لديه حبيبة واحدة، مقابل حبيب لديه أكثر من 5 حبيبات يريد أن يعدل بينهن.
كما أننا أمام فريق ليس لديه أية خطوط حمر في الداخل، مقابل فريق محكوم بكل أشكال وأنواع الخطوط الحمر؛ فريق همه حماية شعبية الزعيم في القبيات وأنفه وترتج وحراجل وبسكنتا والحدت، وفريق همه حماية وتكريس معادلات ثمينة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. فريق يحصي عدد الأصوات التي يمكن أن يخسرها، وفريق يحصي المدن والجبال والسهول التي ضمها إلى جغرافيته.
الواقع باختصار يؤكد أن العونيين اليوم ما زالوا هم أنفسهم (كما "الاشتراكي" و"المستقبل" و"القوات" و"الكتائب" و"أمل" وجميع الآخرين) كما كانوا في العام 2006 عند توقيع تفاهم "مار مخايل". أما الحزب، فلم يعد هو نفسه طبعاً، لا من حيث الحجم، ولا من حيث الاحتياجات، ولا من حيث القدرات، ولا من حيث الدور، ولا من حيث المكانة، مع التشديد على أن هذا لا يفترض أن يكون سلبياً أبداً، لا بل العكس، لكنه يحتاج إلى مصارحة حقيقية لرسم سياق صحيح له.
وفي النتيجة، العلاقة بين قيادتي كل من "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" جيدة جداً، وهي جيدة أيضاً وسط القلة القليلة من الجمهور التي تتعامل مع المعطيات السياسية على المدى البعيد، لا الآني أو اليومي، لكنها ليس جيدة وليست بخير على مستوى الأكثريتين العاطفيتين. معزوفتا "حمينا ظهركم" في تموز و"أوصلناكم" إلى الرئاسة باتتا مملتين جداً ومضرَّتين، لكنّهما تكشفان عدم وجود أرضية لمعارك يومية مشتركة أو على الأقل اهتمامات مشتركة لحزبين بهذا الحجم.
وقول التيار إنّ مواقف بعض محازبيه المستفزة لجمهور المقاومة إنما هي وجهة نظر داخل الحزب التعدديّ الواحد، تماماً كقول حزب الله إن كل الإعلاميين و"الدكاترة" ووسائل الإعلام ممن يفتكون بالتيار طوال اليوم لا يمثلونه ولا يستطيع شغلهم بشيء آخر، هما أيضاً أمران مملان وغير مفهومين ومضرين، ويعكسان غياب الإرادة بتصحيح ما يحصل.
وإذا كان يمكن فهم حاجة "حزب الله" إلى أكبر هامش ممكن من الاستقرار الداخلي، وإذا كان لازماً تقدير إخماده كل محاولات التوتير المذهبية السنية - الشيعية بكل تداعياتها الداخلية، فإنه مطالب أيضاً وأيضاً (وليس أبداً على حساب ما سبق ذكره) بالدفاع عن التيار في وجه الحملات، تماماً كما يدافع التيار عنه في وجه الحملات حين يتعرَّض لها. ولعلَّ أخطر ما شهدته الأيام القليلة الماضية هو تماهي كلّ من الجمهورين مع الحملات المناوئة لأحدهما تجاه الآخر.
يمكن أن لا يكون حليفُ حليفي حليفي، ويمكن أن لا يكون خصمُ حليفي خصمي، لكن أخطر ما يمكن أن يحصل بالنسبة إلى تفاهم "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" هو أن تبلغ النكايات حدّ التماهي مع الخصوم، وهو ما يحصل على نطاق واسع هذه الأيام.
لم يعد ينفع "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" الهروب إلى الأمام. لا بدّ من أن يحددا بوضوح لجمهورهما وقاعدتيهما العاطفية الأرضية المشتركة التي يقفان عليها: الاهتمامات المشتركة فعلاً لا قولاً، والأهداف التي يتّفقان على وجوب تحقيقها.
تفاهم 2006 يحتاج إلى تطوير. علاقة الأقليَّة "الاستراتيجية" في الحزبين بخير، لكنَّ الأكثرية الشعبية الشعبوية العاطفية ليست بخير.