أفول الإمبراطورية الأميركية

عصور وعقود وسنوات تعاقبت تكرَّرت معها ذات القصّة وذات الفصول، أمم تصعد وتلتقي ظروفها وحظوظها ربما هي الحيوية والطموح، وربما القوَّة والأطماع، وفي المُحصِّلة تجد نفسها "المملكة" أو "الإمبراطورية" أو "الدولة العُظمى"، فتقول كلمتها وترسمُ أقدار مَن هم أضعف منها ومَن يدورون في فلكها أو مَن وقعوا في شِباكها، لكن الأيام لا تسمح لها بالدوام والاستمرار إلى ما لا نهاية وعندما يحين الوقت تتحوَّل إلى قوَّةٍ سابقةٍ وربما تالِفة ومُتآكِلة، وتعود القصة لتبدأ من جديد.

مع عديد الهزائم العسكرية التي مُنِيَت بها، تستمر أميركا بطموحها الأعمى وشَبَقِها للانتشار العسكري حول العالم

قد لا يؤمِن البعض بأن الإمبراطورية الغربية الحديثة ستنهار فوق رؤوس أصحابها، ويرون أن مُجمل الإخفاقات والضعف والخلافات والأزمات السياسية داخلها، ستُطلِق نوعاً من ردود الفعل تؤدّي بالنتيجة إلى احتواء الصَدْع، لكن الحقيقة تشي بأكثر مما يجري أمام أعيننا...

ولا بدّ من قراءة بعض التغييرات التي طرأت على النظام الدولي، فمَن كان يُصدِّق أن تتحوَّل أوروبا إلى مُستعمرةٍ أميركيةٍ غير قادرةٍ على الدفاع عن مصالحها الجيوسياسية، ومَن يُصدِّق أن تتحوَّل الولايات المتحدة إلى مستعمرةٍ إسرائيليةٍ مُسخَّرةٍ لخدمة بقائها وأوهامها الدينية المزوَّرة وأهدافها العنصرية، ومَن كان يُصدِّق حجم الخلاف بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وارتفاع احتمالية انهيار شراكتهما المتوحّشة تحت وطأة أخطائهما، بالتوازي مع صعود الصين وروسيا الإتحادية وتقدّمهما العسكري وتحالفهما وشراكتهما الإستراتيجية الشاملة، وبعلاقاتهما المُميَّزة مع إيران وغير دول بما يتوافق مع روح العصر الجديد.

فلم تعد تركيا جزءاً واضحاً من حلف شمال الأطلسي، ولم تعد علاقاتها وشراكاتها مع الأوروبيين موضِع ثقة، ولم تعد الولايات المتحدة تستطيع الحديث عن تغيير النظام في فنزويلا وسوريا وفشلت في تقسيم العراق، وفقدت هيبتها بالواسطة في اليمن، وفقدت تحالفها العسكري مع باكستان، ولم يعد بمقدورها الاعتماد على أذربيجان وتركمانستان مع تفكّك دول مجلس التعاون الخليجي وفشل الناتو العربي والتحالف العربي الإسرائيلي ضد إيران، بالإضافة إلى إنكفاء الذراع الإسرائيلية نحو إقامة الجدران والدفاع عن وجود كيانها السرطاني، بالتوازي مع سقوط وانكشاف ما تدَّعيه من قوَّتها الرادِعة أمام المدّ الكبير وتعاظُم قوَّة محور المقاومة.

فالفوضى والتخبّط يقودان السياسة الخارجية للولايات المتحدة ومع خسارتها لعديد الحلفاء وفشل غالبية التحالفات، فكيف لها أن تستخدم القوَّة العسكرية والتي تُعتَبر أهم دعائم إمبراطوريتها؟.. وكيف لها أن ترفع منسوب تصعيدها العسكري مع إيران والصين وروسيا.

ويبقى من أهم مؤشّرات ضعفها وتراجُع أدواتها، إصرارها على نقل مقر قيادتها المركزية في الشرق الأوسط إلى أراضي أعدائها لحماية مصالحها بنفسها، لكنها تبقى عاجِزة عن حماية جنودها وأهدافها وسياساتها... بالتأكيد هي تعيش أسوأ كوابيس تحالفها الأنجلو- صهيوني، وتقدِّم أهم علامات انهيار الإمبراطورية الغربية التي نخرها السوس وأوصلها إلى النهاية.

فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لعبت الذهنية الأميركية دوراً سلبياً من خلال الفَهْم والاستغلال الخاطِىء لنتائج الحرب، وبَنَت سلَّم صعودها وإمبراطوريتها مُعتمدة على ضعف وإنهاك غالبية الدول المُنتصِرة أو المهزومة، فقد اتجهت لمُنافسة حليفها وشريكها الروسي في الإنتصار وتخطَّت المُنافسة إلى حد العداء والعدوان بالوساطة، وكانت قادِرة مع حلفائها الأوروبيين على المساعدة في إعادة بناء ألمانيا لكنها لم تفعل، وامتلكتها السعادة لوضع اليابان تحت وصايتها وأحكمت قبضتها على كوريا الجنوبية، ولم تبال بقسوة أفعالها في فيتنام ولاوس وكمبوديا... وتحت الذرائِع المختلفة أشعلت حروب الخليج الأولى والثانية وانتهت إلى غزو العراق بعدما نجحت بقتل عددٍ لا يُحصى من المدنيين وتدمير كل ما استطاعت تدميره هناك... وحقَّقت نتائج مُماثِلة في أفغانستان والصومال وليبيا ومؤخراً في سوريا واليمن وفي العراق ثانية، لقد دمَّرت العالم لأجل إعادة بنائه على "صورتها ومِثالها" تحت شعار الدمار لأجل الدمار مُعتقدة أنها تسير على طريق المجد وبناء الإمبراطورية الأبدية.

وأنفقت الأموال الطائِلة لبناء ترساناتها العسكرية وقواعدها المُنتشرة عبر العالم، وحوَّلت جيشها إلى جيشٍ مُترَفٍ مهووسٍ ببذخه وغطرسته وقساوة قلبه، وبدأت تفقد شيئاً فشيئاً روحها وعَرَق مُبدعيها الذين بنوا قوَّتها الصناعية والتكنولوجية التي تفوَّقت بها خلال الحرب العالمية الثانية، وسيطرت عليها ذهنية الحروب والقتل والهيمنة العسكرية وأصبح الإنفاق العسكري هاجِسها ومصدر "إلهامها" للتفوّق على بقيّة الدول من دون أية مُراجعةٍ واهتمام لما تجنيه من نجاحٍ أو فشل.

ومع ذلك لم تحقِّق أسلحتها السِمعة ولم تجلب لها التفوّق أمام غير جيوش، لكن الأميركيين يحبّون أسلحتهم ويعشقون بيعها أو حتى تسليمها وإعاراتها لأيٍّ كان كدليلٍ على الدعم وربما على "الصداقة"، ويعشقون التصريحات السياسية حول تتبّع أسلحتهم وحِرصهم على عدم وصولها إلى الأيدي الخاطِئة، لكنك تستطيع غالباً رؤيتها في أيدي أعدائهم أو أصدقائهم لا فرق، ولا تسأل عن أسلحة السعودية و"داعش" و"النصرة" و"قسد" و"بوكوحرام"...

ومع فشل استراتيجية التدمير الشامل ومع عديد الهزائم العسكرية التي مُنِيَت بها، تستمر بطموحها الأعمى وشَبَقِها للانتشار العسكري حول العالم، الأمر الذي أصبح جزءاً من ثقافة سياسييها وسياستها الخارجية وجوهرها القتل، ولجأت أيضاً إلى سياسة الاغتيالات سواء لرؤساء وقادة دول، أو لبعض أدواتها الإرهابية أو لقادة حركاتٍ وطنية مقاوِمة، ويبقى العامِل المُشتَرك هو الاغتيال بهدف القتل... في وقتٍ لم تُمانِع فيه حَصْد أرواح المدنيين والأبرياء، وحرصت على أن ينالوا حصَّتهم من القتل أيضاً، فقد قصفت العديد من الجنازات وحفلات الزفاف عبر الطائرات المُسيَّرة من دون طيَّار؟ فهل يعرف الشعب الأميركي هذا؟ أم يكتفون بالحزن على أقربائهم وأبنائهم الذين يُقتَلون على بُعد آلاف الأميال!

وعلى الرغم من قوَّتها العسكرية وأدواتها حول العالم، لكنها تبدو عاجِزة عن مواجهة كوريا وإيران وإسقاط سوريا واختراق فنزويلا والجزائر، وباتت مقاومة الغزو الأميركي مُتاحة لأية دولةٍ تستطيع الصمود وإجبارها على دَفْعِ التكاليف الباهِظة في المال والأرواح، الأمر الذي يحصر قوَّتها الصاروخية في تدمير المباني والجسور وقتل الأبرياء فقط، ما يجعل قوّاتها العسكرية عديمة الفائِدة، ويُقلِّص قُدرتها على المُساعدة في تحقيق أيٍّ من أهدافها السياسية.

بات من المؤكَّد أن هذا السلوك والتكتيك الأميركي لن يُساعِد على خَلْقِ سلامٍ دائمٍ في الداخل الأميركي وحول العالم، لكنه يبدو مُناسِباً لاستمرار الفوضى وتصعيد واحتدام الصِراعات، ويخلق القاعدة والمُبرِّر لزيادة الإنفاق العسكري ولتبرير السياسات العدائية... يبدو أن الأميركيين منحوا أنفسهم رخصة القتل والتحريض تحت عنوان سياسة الدولة العُظمى، ويبقى السؤال ما الذي سيحتفظون به بعد أفول إمبراطوريتهم سوى وحشيّتهم ورُخْص القتل خاصّتهم؟ فالفوضى التي يبحثون عنها ويقومون بتصديرها إلى أنحاء العالم تعيش في صدورهم وعقولهم وقلوبهم، ولن يكون مُستغرَباً أن يتساءل الأميركيون عمَن يقتلهم ومَن هو عدوّهم الحقيقي؟

لكن اليوم ومع انقلاب المشهد نجد أن بعض الدول قد أسَّست تحالفاتها على أساس القوَّة العسكرية والإقتصادية والتحالفات الإستراتيجية، وبات من المُمكن ومع انهيار الإمبراطورية الغربية أن تحلّ محلّها غير قوى وعلى رأسها الصين وروسيا اللتان تستطيعان أن تحلا محلّها في قيادة العالم وفق معايير نظرية فقط، وذلك لعدم امتلاكهما لقواعد عسكرية حول العالم توازي ما تمتلكه الولايات المتحدة، ناهيك عن طبيعة علاقاتهما مع حلفائهما والتي تختلف تماماً عن علاقة "الدُمى العسكرية" التي تربط الولايات المتحدة مع حلفائها التي تساعدها على نَشْرِ مختلف أشكال القوات العسكرية والعمل وفق أجندتها السياسية.

بالإضافة إلى كون الصين وروسيا لا تملتكان الرغبة بالعودة إلى زمن الإمبراطوريات مرة أخرى وتسعيان إلى حرية وقوّة وسيادة بلادهما، ولا تطمحان لقيادة و"حراسة" الكوكب، أو بتغيير أنظمة الدول الأخرى، ولا تؤمنان بعلاقاتٍ تهدف إلى توسيع رقعة الاحتلال وذبح البشر وتدمير الدول والمدن.

أخيراً... إذا كان المُحافظون الجُدُد ونازيو العصر يُعاندون انهيار إمبراطوريتهم ويسعون إلى تفجير الكوكب بحروبٍ شاملةٍ وربما نووية، فلا بدّ لهم من معرفة أن الولايات المتحدة ستبقى وكذلك أوروبا وبقية دول وشعوب الأرض، لكن تحت عناوين جديدة لا مكان فيها للتفرّد والغطرسة وجنون العَظَمَة في عالمٍ مُتعدِّد الأقطاب كان له شرف مواجهة آخر الإمبراطوريات الغربية.