الاتفاق التركي ـ الأميركي في سوريا
على المقلب التركي ... ثماني سنوات ولا تزال تركيا هي الأخطر على الدولة السورية تبعاً لحدودها الطويلة معها ولحجم انغماسها في خدمة المهمّة القَذِرة والذي يعادل حجم أطماعها وإجرامها في سوريا..
فمنذ اللحظات الأولى للعدوان التركي-الإرهابي والمباشر على السيادة ووحدة الأراضي السورية ، أعلن أردوغان نيّته بإقامة منطقةٍ عازِلةٍ أو آمِنةٍ مدعومةٍ بقرارٍ أممي أو أميركي يضمن فيها حظراً للطيران السوري وحدوداً استعمارية تمنع تقدّم الجيش العربي السوري نحوها... فسعى إلى تهجير أهلها وادّعى حيازته على صكوك ملكيتها، وأراد أن يجعل منها منطقة خاضِعة لنفوذه واعتمد على عمالة بعض السوريين ممَن باعوا أنفسهم للشيطان... يبدو أن أردوغان مستمرٌ بتصدير أزماته وهزائمه الداخلية ويحلم بإعادة توحيد الشارع التركي خلف قيادته عبر إثارة مشاعره القومية بمعارك تخوضها الدولة والشعب التركي لأجل إعادة تعويم "السلطان".
وعلى المقلب الإنفصالي...فقد بدأت فصول القصّة الفعلية في 17\2\2016 عندما أُطلق في مدينة رميلان وبزعامة حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي ما يُسمَّى "وثيقة النظام الإتحادي الديمقراطي الفيدرالي في روج آفا - شمال سوريا"، لإقامة "إدارة حُكمٍ ذاتي" في الرقة وعين العرب وعفرين والجزيرة وكافة الأراضي التي سيطرت عليها ميليشيات "قسد" بدعمٍ مُطلَق من قوات الإحتلال الأميركي والفرنسي، وبالتنسيق الكامل مع كافة التنظيمات والمجاميع الإرهابية المتواجدة هناك وعلى رأسها تنظيم "داعش" الإرهابي.
ففي البداية لم يكن السوريون يعرفون الكثيرعمّا سُمّيَ "قوات سوريا الديمقراطية" ولا عن أهدافها، لكن الأيام كشفت نوايا مُطلقي هذا المشروع المشبوه وأنه لا يعدو أكثر من إدارة توحّشٍ جديدة بإدارةٍ مختلفة... يقوم على الطاعة العمياء للسيّد الأميركي، وبادّعاءات مُحاربة الإرهاب، فقد رأى العالم كله مرور وعبور الإرهابيين وإمداداتهم عبر مناطق سيطرة ميليشيات "قسد" ، وكان لهم "شرف" حضور حفلات نقل الدواعش عبر الحوّامات الأميركية إلى غير جبهات، وكانت آخر المسرحيات معارك الهول والباغوز ونهاية التنظيم في سوريا ... لكن الرئيس ترامب تراجع عن إعلان القضاء عليه في اللحظات الأخيرة، ليعود ويعلن عن إمكانية عودة التنظيم، ومؤخّراً ليعلن رسمياً عن عودته، لكن الأهم أنه حافظ على ذريعة وجود وتسليح ميليشيات "قسد" والتي احتفظت بدورها عبر مخاوفها من العدو التركي وحقّها بالدفاع عن نفسها ومناطق "احتلالها".
الموقف السوري الرسمي ... وعلى الرغم من إعلان الدولة السورية عن موقفها الرافِض لأيّ مشروع تقسيمي ، وتحذيرها لكل من "تسوِّل له نفسه النَيْل من وحدة أرض وشعب الجمهورية العربية السورية تحت أيّ عنوان"، وتأكيدها مراراً أن "طرح موضوع الإتحاد أو الفيدرالية يشكّل مَساساً بوحدة الأراضي السورية، وأنه "يتناقض مع الدستور والمفاهيم الوطنية والقرارات الدولية"، وأنه "لا قيمة ولا أثر قانوني له".. واعتبرته عملاً داعِماً للإرهاب وأنه يصبّ في خانة إضعاف سوريا، وأنها ترى في أيّ تواجد لا شرعي على أراضيها هو مُجرَّد احتلال.
لكن هذا لم يُثن قادة الميليشيات الإنفصالية واستمرت في العمل على تكريس الإنفصال، وأقاموا هياكل الجسم الفيدرالي–التقسيمي واستولوا على كافة مصادر الثروات المُتنوِّعة على امتداد الشرق السوري، وبنوا بأيديهم القواعد الأميركية وحفروا الخنادق حول القواعد الفرنسية، وقاموا بتنفيذ كل ما من شأنه خدمة المشروع الأميركي-الصهيوني مُستغلّين إنشغال الدولة والجيش السوري مع حلفائه في دَحْر الإرهاب جنوب ووسط البلاد.
لقد بالغوا في تقدير قدراتهم وحجمهم في الميدان والمنطقة، واعتقدوا أنهم قادرون على تنفيذ المهمة الأميركية في الحصار الإقتصادي للدولة والشعب السوري في محاولةٍ لكَسْرِ إرادة السوريين وبقدرتهم على تغيير أوراق اللعبة الدولية.
وغاب عن ذهنهم سرعة تخلّي أسيادهم عنهم كما فعلوا بغير ميليشيات وغير أدوات ... ومن الواضح أنهم أضاعوا جميع الفُرَص التي منحتهم إياها الدولة السورية، وتجاهلوا الغَضَب الشعبي وقدرة الدولة والجيش السوري على فرض السيادة السورية، ووضعوا أنفسهم في وجه العاصفة وعليهم تحمّل النتائج.
وعلى المقلب الأميركي...لم يتوقّف تأرجح ولعب الإدارة الأميركية على الحبلين التركي والإنفصالي، ومضت في استغلالهما إلى أبعد مدى ، فقد رفضت المنطقة الآمِنة على مدى ثماني سنوات، ورفضت سحب السلاح الأميركي من أيدي الإنفصاليين، وحافظت على النقيضين وصاعقيّ التفجير ، فالأتراك يتمسّكون بأمنهم القومي وبمنع قيام أيّ شكل سياسي لكيانٍ كردي لطالما دعاه الرئيس أردوغان بالإرهابي، فيما يمضي الإنفصاليون تحت العباءة الأميركية بتكرار مخاوفهم من عدوانٍ تركي يجتاح مناطقهم .. من خلال علاقة تكافُلية لم يعد هناك من إمكانية لإخفائها، ما يدفع إلى السؤال هل هم حقاً على خلاف وعداء ، وهل ما قبل أَسْر واحتجاز عبدالله أوجلان يختلف عمّا بعده ؟.
من الواضح أن مطالبة كل من الطرفين التركي والإنفصالي بإنشاء المنطقة الآمِنة ، ومن خلال مُقارنة ما يتحدّثان عنه يتّضح أنهما يتفقان على اغتصاب الأرض السورية لكنهما يختلفان حول السيطرة، فأردوغان يريدها مناطق نفوذ تركي ولا يمانع بالإبقاء على مناطق الإدارة الذاتية وبهيمَنة المُكوِّن الكردي من باب الرشوة، فيما يريدها الإنفصاليون منطقة آمِنة بقرارٍ دولي أو أميركي تمنحهم أحقيّة السيطرة عليها وإدارتها.
حقيقة الإتفاق الأميركي – التركي لإقامة المنطقة الآمِنة...فبعد لقاءاتٍ مُكثَّفة تمّ الإعلان عن الإتفاق التركي-الأميركي لإقامة المنطقة الآمِنة، وعلى إقامة مركز عمليات مُشترَك بينهما في "شانلي أورفا" أو "غازي عنتاب"، وقد يتوهَّم البعض بأن مُبرِّرات الرَفض الأميركي قد زالت وزالت معها هواجِس ومخاوِف الأتراك والإنفصاليين، مع تحوّل الإعلام للحديث عن طول وعُمق المنطقة وعن ترتيبات المجال الجوي ومناطق انتشار القوات وتركيبة الدوريات وآليات انسحاب القوى الإرهابية بحسب تصنيف كلٍ منهما، وعن قوى الأمن والسيطرة الفعلية على الأرض.
في حين أن الأميركيين لم يُفصِحوا عن أيٍّ من تلك النقاط، وفضَّلوا الحفاظ على منسوب الغموض وتركوا المجال مفتوحاً للتوقّعات والتكهّنات، وربما لانتظار ردود الأفعال وقَبْض الثمن من كافة الأطراف بدءاً من الدولة السورية وحلفائها ولكافة الأطراف الإقليمية والدولية الفاعِلة والمؤثّرة في المواجهة... في حين تبقى عينها على قَطْعِ طريق التقارُب التركي–الروسي وعلى جهود الوساطة والدور الروسي لتقريب وجهات النظر وتقدّم الحوار بين الكرد والدولة السورية.
رؤى عديدة وحقيقة سوريّة واحدة ... وسط مشاهِد الغموض والضباب، هناك مَن هلَّل لمَنْعِ التحرّك التركي العسكري بإتجاه شرق الفرات، وهناك من ادّعى وقوع أردوغان في الفخّ الأميركي، ووقوع الإنفصاليين في شباك التجميد الأميركي تمهيداً لبيعهم كالأسماك المُجمَّدة في السوق المحلية والإقليم ...
في وقتٍ تراقب فيه واشنطن الإندفاعة السورية–الروسية نحو تطبيق بنود إتفاق سوتشي بالقوّة العسكرية ، وربما إلى أبعد من ذلك فتحرير إدلب بات مُتاحاً ومُتوقّعاً في أية لحظة، فترى أردوغان يقف غبياً مكتوف الأيدي تحت عباءة الدور الضامِن لدولة الإحتلال التركي ومشروعها ...
ويحقّ للبعض الآخر أن يتحدّث عن رد فعلٍ أميركي استباقي لتحرير إدلب عبر التهويل بمشروع التقسيم الخيالي وغير القابِل للتحقيق، ويحقّ للسوريين أن يرونه إتفاقاً ميتاً قبل أن يولَد ، فما من قوَّةٍ في العالم تستطيع مَنْع السوريين من فَرْضِ سيطرتهم وسيادتهم على أراضيهم ولو كلَّف ذلك خوض المزيد من المعارك ، بعدما أثبتوا قوَّتهم ورباطة جأشهم واستعدادهم لقتالِ وطرد كل مَن تجرَّأ على وطنهم وسيادتهم ووحدة أراضيهم.