الحدود اللبنانية الفلسطينية: موقع إعادة تثبيت قواعد اللعبة

بعد عدوان تموز 2006، شهِدت المنطقة على مُعادلة أمنية جديدة بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي. لقد تميَّز القرار الدولي 1701 بتكريس قواعد اشتباك رأى فيها الكثيرون آنذاك ما يُمثّل استثماراً ناجحاً من قِبَل الطرف اللبناني في الصِراع لما تحقّق من إنجازاتٍ طوال ثلاثة وثلاثين يوماً من الكِباش الميداني. مُعادلة أمنية ترسَّخت أركانها بالنار و بشكلٍ مُتقطّعٍ خلال السنوات اللاحِقة مع سعي إسرائيلي مستمر لتعديلها، ما الذي استجدّ إذاً في المحاولة الأخيرة من قِبَل هذا الطرف فجر الخامس والعشرين من آب/أغسطس؟

الصورة للجدار الذي بناه الاحتلال الإسرائيلي على الحدود الفلسطينية اللبنانية (أ ف ب)

يبدو مُجدِياً الانطلاق من الساحة الإسرائيلية الداخلية لفَهْمِ المسار الذي تتَّخذه استراتيجية بنيامين نتنياهو الاقليمية. استراتيجية تقوم بالمبدأ على لعبة المُجازَفة المُستمرّة تصاعُداً لتحقيق المكاسب التدريجية، وهي إن وصلت إلى غاياتها المنشودة في الانتخابات الإسرائيلية في نيسان أبريل الماضي، تكاد تكون حالياً على مُفتَرق طُرُقٍ حسمه في مكان آخر، على الحدود الشمالية هذه المرة.

 ما يريده السياسي الإسرائيلي المُخضَرم واضِح: إظهاره أمام المجتمع الإسرائيلي بصورة الرجل الحديدي القادِر على إعادة صورة إسرائيل القوية والحاسٍمة إلى أذهان دول المنطقة العدوَّة منها والصديقة، العدوَّة لفرض الردع والصديقة لإبراز فوائد التحالف والتقرّب من إسرائيل كقوَّةٍ اقليميةٍ قادِرةٍ على فَرْضِ المُعادلات اقليمياً بالقوَّة .

بدأ هذا المسار بضرباتٍ جويةٍ مُتعاقِبةٍ في الداخل السوري ضمن ما أسمته إسرائيل قَطْع أذرع إيران وتحديداً فيلق القدس وفق اداعاءاتها، وقد شكَّل وقوع الخسائر البشرية من عدمه المعيار الأبرز في المُعادلة، فعمدت إيران إلى التمسك أكثر في خياراتها وخططها، وكذا فعل حزب الله بعد استشهاد أفراد خليّة القنيطرة، عن طريق تنفيذه لعمليةٍ نوعيةٍ في مزارع شبعا.

قواعد المُعادلة، من جديد باتت جليّة، وعلى أساسها سيستمر نتنياهو في استراتيجيته مع الأخذ بعين الاعتبار ما ثبّته المحور الآخر حتى الخامس والعشرين من آب أغسطس.

في الوقائع، فإن هذه القواعد الناظِمة تظهر في كل تطوّرٍ أمني بين الطرفين، لكن في حقيقة الأمر فإن تثبيتها استلزم أكثر من ردودٍ عسكريةٍ محدودةٍ من جانب إيران أو حزب الله.

لقد استدعت عملية التثبيت خطاباً مُتكامِلاً طوال المرحلة السابقة أجاده الأمين العام لحزب الله السيِّد حسن نصرالله ، وأظهر من خلاله مخاطر التصعيد أو محاولة تغيير قواعد الاشتباك، وهو، نتيجة للإدراك العميق لأهداف نتنياهو الداخلية خلال السنتين الأخيرتين، ذهب إلى مُخاطبة الداخِل الإسرائيلي مباشرة في كل مرّة وتوضيح مآل استمرار استراتيجية رئيس وزراء الكيان على حساب المخاطر.

وقد يجوز ردّ الخطأ الأخير لنتنياهو في ما خصّ حادثة الطائرتين المُسيَّرتين في الضاحية إلى رَفْعٍ مُفاجئ في وتيرة التغيير لقواعد اللعبة بينه وبين المحور الآخر. الخطأ هنا ليس في الساحة السورية حيث انشغال النظام بحَسْمِ معارك الأرياف وشدّ الحِبال مع الأتراك، ولا على الميدان العراقي حيث الغَرَق في المشاكل الداخلية، والجدل حول الاستراتيجية الأمنية الجديدة لناحية الجهات والمسؤوليات بين الجيش النظامي والفصائل المُسلّحة الداعِمة للسلطة المركزية، وهو على أية حال جدل يستنزف الكل العراقي.

الخطأ هذه المرة وقع لبنانياً مع الطرف الذي أثبت بالحديد والنار القدرة  والكفاءة على مدى سنين طويلة للصراع. ولعلّ التوصيف الأبرز لهذا التغيير غير المحسوب في القواعد يقع ضمن إطار الرعونة، نتيجة لأحد أمرين:

إما خطأ فادِح في التقدير والموازنة بين المخاطر والمُكتسبات، وإما ردَّة فعل على ضغط عامِل الوقت ما يدفع بنتنياهو لتسريع وتائِر التغيير في المُعادلة مع تحمّل الأثمان التي يراها في كل الحالات مقبولة، مُقارنة بظهوره مظهر الضعيف أمام الناخِب الإسرائيلي كما يتّهمه بيني غانتس رئيس حزب أزرق أبيض مراراً وتكراراً.

وإن كان نتنياهو نجا بالتنفّس الاصطناعي الأميركي في انتخابات نيسان أبريل الماضية فإن السابع عشر من أيلول سبتمبر موعد إعادة الانتخابات قد يكون يوم كتابة النهاية لحياة نتنياهو السياسية.

فالمُفاضَلة إذاً تقع بين تحمّل المُخاطرات المقبولة الثمن بالنسبة إليه في سبيل تسجيل النقاط الأكيدة على خصمه الداخلي، وبين ضَبْطِ وتائِر تصعيد اسراتيجيته التي وإن حقَّقت له نقاطاً مُتتالية اقليمياً إلا أن بطأها قد لا يسعفه في الحسم الانتخابي، ما سيؤدّي به من دون أدنى شك "إلى السجن نتيجة لتِهَم الفساد"، كما أكّد السيّد نصرالله في خطابه.

هكذا هي حسابات البيدر لدى نتنياهو، فما هي الحسابات في المقلب الآخر؟

كما كان متوقّعاً أكّد حزب الله على لسان أمينه العام رفضه لتغيير المُعادلة الأمنية ونفّذ وعده بالردّ الأكيد على العمليتين الإسرائيليتين في الضاحية وعقربا، ويبدو الحديث عن العمل على إسقاط المُسيَّرات في الأجواء اللبنانية أشبه بانتزاع سلاح المُبادرة من يد إسرائيل وإعادته إلى يد حزب الله.

يعرف الحزب جيداً أن الانخراط في دوَّامة ضَبْط النفس و"الاحتفاظ بحق الردّ" بمفعولٍ تأجيلي قد يؤول إلى نتائج كارثية على الأمن الاستراتيجي وقدرة الردع الكفؤ من جهة، والإضرار بصورة الحزب كالقوَّة الأكثر تهديداً لإسرائيل وفعاليته تاريخياً وحاضراً بوجهها، فتجنّب التصعيد والوصول إلى نقطة المواجهة الكبرى كان في صُلب خطابات السيّد نصرالله الأخيرة مُستحضِراً أمام الجميع الأضرار التي قد تؤدّي إليها الحرب سواء لبنانياً أو في امتداداتها الاقليمية حتى الخليج وإيران.

الفكرة هنا لم تختلف كثيراً، ما حدث ليس بسيطاً أو عابِراً من وجهة نظر الحزب، ومَنْع الانزلاق نحو أخطاء أكبر والحدّ من الرعونة الإسرائيلية لن يتمّ إلا بردّ حاسِم نجح في تنفيذه على الحدود لإعادة تصويب قواعد المواجهة بما يناسبه.

أضف إلى ذلك استعادة زِمام المُبادرة التي كان قد انتزعها نتنياهو بوضوحٍ في حرب المُسيَّرات السرّية مؤخّراً، بالبدء بإسقاطها وكما جرت العادة في أدبيات خطابات السيِّد نصرالله؛ في الزمان والمكان اللذين تقررهما قيادة المقاومة.

ليس قرار المجتمع الدولي أو أولوية الحفاظ على الأمن اللبناني إذاً ما يؤجِّل المواجهة، ولا قرار أوروبا بدعم الحكومة اللبنانية ومَنْع حصول الحرب بسبب وجود مليون وخمسمائة نازح سوري في لبنان، وهي نقاط اعتدنا كثيراً على مُطالعتها في الصحف اللبنانية منذ حوالى السنة.

ما يُقدِّم الحرب أو يؤخّرها حالياً فعل الحزب بإعادة إرساء أركان قواعد اللعبة وردّ الفعل الإسرائيلي على ذلك، مع مؤثّرات النفوذ الأميركي  والرؤية الإيرانية لناحية تصعيد استراتيجيتها من حرب الأشباح البحرية بعد تحقيق أهدافها، إلى حسابات المواجهة بالواسِطة مع إسرائيل. أضف إليها ما ستؤول إليه اللعبة اقليمياً بين إسرائيل على المقلب الأول وسوريا والعراق على المقلب الثاني. في تفاصيل هذا المدى الجيوسياسي للتعديل أو التثبيت سيكمُن، بيت القصيد للاحتمالات.